عرض مشاركة واحدة
قديم 12-01-2011, 09:17 PM
المشاركة 3
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تعالوا معي نحاول سبر أغوار هذه القصيدة الرومانسية الملتهبة جمالا ومشاعر نستخرج منها ما نستطيع من حلي وجواهر رغم صعوبة بعض المعاني والتعقيد الذي يشوب الصور الشعرية التي تطفح فيها القصيدة.

أرَاكِ فأسْكُبُنِـي مِـنْ عَـل
شَـلاَّلِ خاطِـرَةٍ سَلـسَـلِ
وَتَسَّاقطُ الكلِمَـاتُ الحيَـارَى
رذاذًا بقـارعَـةِ الـجَـدْوَلِ


يقول الشاعر عبد اللطيف غسري في مستهل إنشاده ومطلع قصيدته الجميلة هذه، والتي يوضح لنا عنوانها بأنها قصيدة غرام وعشق لامرأة بالغة الحسن والجمال أحبها الشاعر وهو يخاطبها وكأنها تنأى عنه...إذ يقول لها مناديا " تعالي وحطي على كلكلي" وهو ما يشير إلى نوع من الجفاء في العلاقة بينهما أو ربما تمنع وبُعد وتدلل، وقد يكون عشق من طرف واحد مما ألهب مشاعر الشاعر وجعله يصدح بهذه القصيدة الجميلة في لحظة عشق ملتهبة أو ربما حينما كان يجلس وحيدا في صومعته يستذكر ذلك الحسن الخلاب الذي سلب لبه يصدح بهذه القصيدة وربما شعره كله.

ويبدأ الشاعر قصيدته بقوله، أي حبيبه اعلمي أنني حينما أراك انسكب قولا وشعرا وخاطرة تملؤها المشاعر ويكون ذلك الانسكاب قويا بقوة الشلال المنسكب بسلاسة وانهمار من مكان عالي، وهذا المطلع إنما يشير إلى أن الجميلة تلك هي ملهمة الشاعر فيما يكتب من أشعار تتدفق من خاطره مثل الشلال المنهمر بسلاسة من مكان عالي.

وهو إذ يراها يصاب بالدهشة ويتلعثم ويحتار فتخرج الكلمات منه وهو لا يعرف ماذا يقول وربما من شدة الحسن والجمال والدلال الذي يراه الشاعر فيحدث زلزلة في كيانه فيتلعثم لسانه ويحتار بما يقول فتخرج الكلمات وهي حائرة بدورها ماذا تصف أو تقول في حرم ذلك الجمال الخلاب. تلك الكلمات تخرج من فاه الشاعر وكأنها رذاذ الماء الذي يسقط على قارعة الجدول أي جوانب الجدول.

وهي صورة أخرى بالغة الجمال ففي الأولى يقارن الشاعر ولادة القصائد والخواطر التي تتداعى إذا ما رأى تلك الجميلة وكأنها شلال يسقط من علي كما يقارن في الصورة الثانية كلماته برذاذ الماء الذي يتطاير في جوانب الجدول عندما يسقط فيه ماء الشلال.

تخيل معي أيها المتلقي الكريم ما أجمل هذا التصوير ونحن ما نزال على أعتاب القصيدة!!!

لقد قرأت هنا ما يكفي من الجمال والقول البديع لكي اقف واصفق للشاعر بحرارة.

أرَاكِ فأظعَـنُ مُسْتوْحِـشًـا
علـى صَهْـوَةِ القلـقِ الأوَّل


ثم يعود الشاعر في هذا البيت ليؤكد من جديد على أن رؤية حبيبته يعيد تشكيل تركيبة خلاياه وحمضه النووي his molecules structure، ويحدث زلزلة غير مسبوقة في ثنايا دماغه هذه المرة، وكأنه يصاب بالذهول والهذيان، طبعا من وقع تلك الرؤيا – المشاهدة- عليه ومن شدة حسن تلك الحبيبة، فبدلا من الذهاب إليها والاقتراب منها عند رؤيتها يرتحل وهو يشعر بوحشة شديدة، فيرتحل وهو مهووس بجمالها، ويتيه فاقدا الإحساس بالزمان والمكان كمن تلقى ضربة على رأسه.

والمهم هو كيف يكون ارتحال هذا الشاعر العاشق المذهول؟ انه يمتطي هودج ( صهوة ) القلق الأول!!! وكأن الشاعر هنا يشخص القلق فيجعله حصانا عربيا أصيلا- ترتيبه الأول بين الأحصنة- يمتطيه إذ يركب صهوته او هودجه ليرتحل إذ يراها تائها في ارض الله الواسعة.
ولكن لا بد من القول بأن هذا البيت يحتمل معنا آخر ربما وهو أنه وحين يرى حبيبته يشعر بقلق ووحشة وتيه وغربة وذهول ودهشة كتلك التي استشعرها الشاعر في أول لقاء حب له ...ومبرر هذا المعنى هو استخدام كلمة " الأول" إلا إذا كان الشاعر قد استخدم الكلمة لزوم القافية ربما!؟

وقبل أن نغادر هذا البيت لا بد من ذكر أن سر الجمال في هذا البيت يأتي من عدة جوانب من التصوير والتشخيص أولا، ومن ثم من تلك الحركة التي توحي بها استخدام كلمة ( الظعن أي الارتحال )، ثم من ذكر الخيل وركوب الخيل او الجمل( الصهوة او الهودج )، ثم هناك استنفار للحواس من خلال استخدام كلمة (أراك) وأيضا من خلال استخدام كلمات تستثير المشاعر وهي كلمتي (مستوحش وقلق) وبذلك يتمكن الشاعر من نقل مشاعره لنا ويقحمنا بما يشعر به وينقلنا لنعيش ذلك الجو الملتهب الذي يعيشه لحظة رؤيته لحبيبته وكأننا هناك نسمع ونرى نحن أيضا فنقلق ونرتحل معه مستوحشين تاهين مذهولين إلى اللامكان.

ولا شك ان هذا البيت يحتوى في ثناياه من الجمال الكثير ....وندر مثله وربما ما يزال يحتاج لمزيد من الشرح والتفسير لسبر اغواره!

وَيَحْمِلنِي القُرْبُ فِي راحَتَيْـهِ
إلى زَمَـنٍ ضَامِـرِ الهَيْكَـلِ


في البيت السابق وصف لما يحدث للشاعر أذا ما رأى حبيبتيه مجرد رؤيتها! وهو في هذا البيت الذي يليه يصف ما يحدث له إذا ما اقترب منها، ولم يقتصر التواصل بينهما على النظر والرؤية فقط.

فيقول الشاعر هنا..عندما اقترب منك، أي حبيبية، يحملني القرب، وهو هنا يشخصن -القرب- فيجعله وكأنه إنسان يحمله على راحتيه أو ربما هي ريح عاتية قوية تحمله إلى أين؟؟؟؟ إلى زمن ضامر الهيكل!!! أي إن ذلك القرب يجعله يتذكر تلك الأيام وذلك الزمن الذي كان هو فيه متعلق جدا بحبيبته عاشق لها ولهان إلى حد الهذيان وهي بعيدة عنه وبسبب ذلك البعد...إلى حد انه كان يمتنع لا إراديا عن الأكل والشرب وكنتيجة لشغفه بها وشدة حبه وتعلقه وهيامه بها...حاله حال العاشقين جميعا..وإلى حد انه كان قد أصابه النحول فأصبح ضامر الهيكل...

ولكن ذلك الضمور لم يصبه هو فقط وإنما امتد ليصيب أشياؤه كلها وحتى الزمن الذي شهد تلك المشاعر الملتهبة، فأصبح الزمن بدوره ضامر الهيكل مثله تماما...وهو تعبير وتصوير بالغ الجمال والعمق يصف ويصور ما يصيب الشاعر إذا ما وقع في الحب والغرام وقد تمنعت الحبيبة ونأت بنفسها عنه فيصيبه النحول والضمور...

وفي ذلك شخصنه للزمن أيضا وكأن الزمن الذي شهد حبه لها تحول إلى إنسان ضامر الهيكل هو أيضا إذ تأثر بتلك المشاعر الملتهبة وذلك الألم النابع من بعد الحبيبة.

وفي البيت حركة نستشفها من استخدام كلمة (يحملني) وهي من المحسنات التي تجمل الفن وتجعله أعظم أثرا على نفس وعقل وقلب المتلقي...كما أننا نستشف الصراع الذي كان يعانيه الشاعر في حبه وهو عنصر آخر من عناصر الجمال التي تجعل النصوص حية بالغة الأثر في نفس المتلقي...ولا ننسى التضاد بين القرب والبعد الذي نستشفه من المعنى وهو الاكثر تأثيرا على ذهن المتلقي... ولا شك ان جميعها عناصر جمال تجعل من هذا البيت بالغ الاثر.