عرض مشاركة واحدة
قديم 06-25-2016, 05:23 PM
المشاركة 53
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أمي منذ الصباح الباكر في الحظيرة ، تحلب الحليب ، وتطعم أبقارها ، و في الزريبة تطعم الخرفان ، وفي الخمّ تطعم الدجّاج والأرانب ، تعدّ لنا طعام الفطور ، فتخرج لتحشّ الأعشاب ، يجب أن تعود لإعداد الغداء ، و تقدّمه للقوم ، تستلقي نصف ساعة و غالبا نكون فيها نحن الأبناء ننط بجانبها ، تقوم لتنقّي الزرع وتعدّه في الأكياس قبل الذهاب به إلى الطاحونة أو تكسّر ثمار اللوز التي سيبيعها أبي في السوق ، أو تكسّر ثمار الأركان لتعصرها ذات يوم ،أو تصبّن الأفرشة و تغسل ملابسنا ، ثم تعمل على سقي البهائم . عند العصر يجب أن تكون قد أعدت لمجة المساء ، لتخرج من جديد إلى الحقول لتحش الأعشاب و تطعم البهائم عند الغروب ، تبدأ ليلها بالطبخ فتعد لنا العشاء، ثم أمام التلفاز ، تعد الصوف و تغزله بالمغزل ، أو تحيكه لتهيئ لنا أفرشتنا ، أختي أمينة تساعدها في هذه الأعمال ، أمينة نسخة مطابقة لأمّي ، حتى أنها تنال إعجاب أبي ، أبي كم مرة نطقها أمامي ، هذه هي ساعدي الأيمن ، أمي تنفق من الحب نحونا بلاحدود ، لكن لا أحد عندها يمثل اليمين من اليسار ، قبلها يتسع لنا جميعا بنفس الحبّ ، من أمينة حتى هذا الغر الصغير عبد الناصر ، أمّي إنسانة مؤمنة ، مبتهلة ، عطوفة ، تشارك الناس أحزانهم ، حتّى الجارات عندما تلمّ بهنّ ملمّة يأتينها ، قصد الاستشارة ، قصد البوح ، فهي إنسانة أمينة على الأسرار و حكيمة عند القول ، و تواسي المجروح بشكل عجيب ، أمي تفتح لي صدرها ، سأقول كلّ شيء أمامها ، لم تضع مثقال ذرة حاجز بينها و بين أبنائها ، تمازحنا ، تنصت لترّهاتنا بكثير من التفاعل ، تعيش معنا ، لا يوجد عالم آخر سرق منها نفسها ، نحن عالمها ، توجد فينا ، نوجد فيها ، هذا بعض من أمّي ، وأستسمحك أمّي .

وجدت جدّي هناك يحفر ، أخذت المعول ، أحمل عنه التراب ، حفرنا قبرا عظيما ، دحرجنا الدّابة حتى استوت فيه ، أسدلنا عليها التراب و عيناي معكرتان ، إذن ذهبت أخيرا يا رفيقي ، من في هذا الكون يفهمني أكثر غيرك ، تذكر عندما كنت برعما صغيرا ، أذهب بك كل ظهيرة لاسقيك من ماء الساقية ، أحيانا تغافلني فتهرب مطلقا قوائمك للرّيح ، ترفع القائمتين الخلفيتين حتى يشهد حافرهما وجه السماء ، أحب فيك هذا الجنون ، أحيانا أنا أيضا أقفز مثلك بدون سبب ، أحب أن أنزل بلكمتى أو ركلتي على مكان ما ، و لو على جدار ، تذكر يا صديقي ، يوم أردت أن أكون فارسا ، أركب على ظهرك و تجري بكل ما أوتيت من قوة لأيام و أيام ، لم أحس بك يوما خذلتني ، حتى اشتفيت من الفروسية ، يا لك من رياضي أصيل . تذكر يا صاحبي ، حين أرافقك إلى البيادر ، تدخل مع الدواب في صف و تدورون اليوم كله حتى يدرس البيدر و يصبح حبّا و تبنا ، يومها عندما تخرج من البيدر تكون حوافرك لامعة ، أسير بك إلى الساقية مباشرة ، هناك تلتقي مع الكثيرن من أصحابك تتصارعون بشكل رجوليّ بطوليّ ، لن ينالها إلا من يستحقها ، أعرف أنك مقاتل بارع ، حتى إذا ظن خصمك أنه أقوى منك وقد تشابكت قاوائمكما الأمامية في الفضاء و راسه يعلو راسك وهو هائج يريد قضم أذنيك ، حصدت رجليه الخلفيتين عند هبو ط مباغت و هو لا يزال واقفا ، فيسقط ثم يهرب في أول فرصة ، أنا بجانبك أقف ، لو أحسست أنه سيهزمك سأتدخل ، لكن أنت لا تخيّب ظني ابدا ، أعرفك يا حماري ، رغم أن جسمك فيه بعض نحافة مثلي ، لكنه صلب ، و تتعارك بكثير من الدهاء .
ها أنت غادرت ، أتكون قد شخت فعلا ، ما يؤلمني أنهم ما رحموك ، كنت كلما دخلت فندق البهائم في السوق ، يفرون من أمامك كالجرذان ، والأغرب أن فيهم من هم أضخم جثة منك ، لكن يعرفون قدرك وعزمك ، حتى من لم يتأكد بعد ، فجولتان كافيتان ليؤمن بصغره و ضعف شكيمته ، أنت مسيطر على وضعك فخذ من المتعة ما تشاء . منذ سنة أحسست بذهاب ألقك ، تجلس وحيدا مهموما ، أرى الذباب يحب أن يأخذ قيلولة على جسدك وقرب عينيك ، أطرده عنك و لكنك ما عدت ذلك الحيّ ، فسرعان ما يعود ، وجدتك مستسلما ، هو الزمان غدر بك ، يأكل من قوتك يوما بعد يوم ، هو الزمان يقتات بنا يا حماري ، لا أحب أن أتذكر أنك كنت ضعيفا بعدما شهدتك بطلا فحلا ، كيف وصلت عضّاتهم إلى جسدك كله ، ما تركوا فيك بقعة آمنة ، جدّي المسكين منذ يومين و هو يكمد جراحك ، ماء ساخن و منديل ، كحول ، المروت ، الزيوت ، لكن تنهداتك كانت عميقة ، زفراتك توحي بعياء عميق ، توحي بأسف على شيء لا أعرفه . ما أقسى أن تهان في آخر معاركك في هذا الوجود ، رغم ذلك أنا معك حبيبي ، سأحاول أن أعينك على تقبل مصيرك ، أعرف أنك خجل منّي بالذات ، لكن لست نورالدين إن لم أفهمك ، فلا تتألم كثيرا ، هذه هي الحياة ، تهزمنا أخيرا ، تهتك عرضنا ، تفنينا. نعم أنت الآن تحت التراب لا أحد يعرف مقدار خسارتي اليوم إلاّ أنت .