عرض مشاركة واحدة
قديم 01-16-2011, 11:24 PM
المشاركة 4
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


بعد روايتين تقليديتيْن نسبيّاً، بدأت وولف في تطويع مداخلِها التي مهّدت لها اللعِبَ على بنيةٍ مخياليّةٍ أكثر رحابةً حيث:

- التطوّر المشهديّ المتصاعِد حلَّ محلَّه التشكيلُ عن طريق التراصِّ الرؤيويّ.

- الاشتباكُ المباشر مع الواقع والتراكمُ الزمنيّ اِستُبِدلَ بهما التراوحُ الملتَبس للعقل بين الذاكرة وبين الوعي.


ومن ناحية أخرى يربط المشهدُ المركّب للتيمة الرمزية بين شخوصٍ ليس من علاقة واضحةٍ بينهم في القصة ذاتها.

كل تلك التقنيات ألقت على عاتق القارئ متطلباتٍ جديدةً في فنِّ التلقي من مقدرةٍ على تخليقِ وإعادةِ بناءِ الصورةِ الكليّةِ من جزئياتٍ متناثرةِ ليست بادية الصلة. من هنا كانت صعوبة قراءة فرجينيا وولف.


في رواية "غرفة يعقوب" 1922 نجد أن صورة البطل الكليّة تتركّب من سلسلةٍ من وجهاتِ النظر الجزئيّة المختبئة داخل النص والتي ترسم بورتريها إنسانيّاً وسيكولوجيّاً له من خلال شخوص العمل. وفي رواية "الأمواج" 1931، ثمة منظورٌ - متعدد الرؤى لشخوص الرواية في حواراتهم الذاتية مع أنفسهم خلال علاقة كلٍّ منهم بالشخص الميّت - في الرواية - "بيرسيفال" - يتم تكسيره على عشرة فصول، تلك الفصول بدورها تُكوّن منظوراً إضافيّاً يصف رحلةَ يومٍ واحد من الفجر إلى وقت الغسق.


الرواية الأخرى التي تلعب فيها وولف لعبةَ الزمن أيضّاًً، أي رواية اليوم الواحد، هي "مسز دالواي"، عملها الأشهر، حيث ترتّب البطلةُ، السيدة دالواي، لحفل المساء وفي أثناء ذلك تستدعي - ذهنيًّا - كاملَ حياتها مثل شريط سينمائيّ منذ الطفولة حتى عمرها الراهن في الخمسين.


مشكلات الهُوية ومدى التحقّق والإخفاق لدى شخوص سردها هي الهمُّ الثابت لدى وولف والمحرّك الأول وراء تلك الإزاحات المنظورية في أعمالها. ولذا غالباً ما تلجأُ وولف إلى تجسيد الشخصيات غير المتحقّقة وغير المكتملة ومن ثَّم إلى البحث عن الشيء الذي سوف يحقّق اكتمالها.

ترتكز كتابة وولف على لحظات الوعي العليا، وبالمقارنة ببعض أعمال جويس التي تتناول البصيرةَ كنوعٍ من القوى الأسطورية، نجد أن وولف تعالج الأمرَ كملَكةٍ ذهنيّة حين يُفعِّل العقلُ أقصى طاقاته ليعتمد الخيال.

لا أحد يقرأ وولف بغير أن يُؤخذَ بالاهتمامِ الفائقِ الذي تعطيه للمخيّلة الإبداعيّة. فشخوصها الرئيسيون يفعلّون حواسَهم فيما وراء المنطق العقليّ، كما أن أسلوبَها السرديّ يحتفي بالدوافع الجماليّة التي تنظّم الأبعادَ المتنافرة في كلٍّ متناغمٍ متسّق. ترى وولف أن الكائنَ البشريّ لا يكونُ مكتملاً إذا لم يشحذْ طاقاتِه الحَدْسيّة والتخيليّة في أقصى درجاتها. ومثل كل كُتّاب الحداثة، نجد وولف مفتونةً بالعمليةِ الإبداعية ولحظات الكتابة، وغالبا ما تضع إشارةً لها في أعمالها، فنجدها حيناً تصف كفاحَ الرسامِ من أجل بناء لوحته في "صوبَ المنارة"، وفي حين آخر تجسّد حالَ الكاتب وانهمامه من أجل بناء روايته، كما في "رواية لم تُكتَب بعد" التي تناولناها بالترجمة. إذ تحاول وولف في هذين العمليْن استكشاف طرائقَ تَخلّق العمل الإبداعيّ في مخيّلة العقل البشريّ. فقد لاحظت وولف أنه لا يمكن لقارئ الرواية (المكتملة) أو لمُشاهد اللوحة التشكيلية (المكتملة) أن يستقرئَ خطوات ميكانيزم هذا التخلّق الإبداعيّ المعقد: الملاحظة، الغربلة، التنظيم الإحداثيّ والحدثيّ (من إحداثيات وحدث)، رسم خريطة العلاقات والتأويلات.. إلخ، ثم الصياغة وإعادة الصياغة حتى يكتمل العمل فنّاً سويّاً. فالعقل البشريّ يقوم بأشد العمليات تعقيداً لتنظيم الوعي والإدراك مع الملموسات، الأمر الذي لا يمكن رصده أو نقله بشكل كليّ وتام داخل إطارٍ وصفيٍّ محدد مهما بلغت دقته. ومن هنا جاءت فكرة هذه الرواية التي لم تُكتَب بعد.


في " رواية لم تُكتب بعد" ترصدُ وولف حالاتِ التخلّق الذهني لجنين روايةٍ في طريقها للتخلّق عن طريق أخذ القارئ عبر بداياتِ روايةٍ لم تكتمل بعد، راصدةً كيف يمكن أن تكتملَ على أنحاء متباينة. تتحرك القصة أماماً وخلفاً بين حائطين من الخيال والواقع، كلٌّ يسهم في احتماليات الرواية ليحفرَ نهراً من الاقتراحات والاقتراحات البديلة، كلُّ ذلك يتمُّ داخل ذهن الراوية التي تختبر وتعالجُ كلَّ الرؤى الممكنة اتكاءً على مراقبتها شخصية امرأةٍ معيّنة تجلسُ أمامها في إحدى كبائن القطار عبر رحلةٍ إلى جنوب لندن. على الجانب الآخر، ترصد الراوية كلَّ الكلمات الفعليّة والإيماءات التي يأتي بها راكبو نفس الكابينة، ومن ثم ترسم – ذهنيًا – اقتراحاتٍ مُتخيلَةً لكلٍّ منهم عبر خلقٍ روائيٍ تمَّ من خلال الملاحظة، التقمّص العاطفيّ، وتجسيد ما تشاهده خلال الرحلة ليتفق وتصورها المبدئيّ. يظهر هذا في آلية استدعاء التداعيات الذهنية للمحيطين من خلال قراءةِ أفكارِهم وسلوكِهم ثم التعامل ذهنيّاً ونفسيّاً مع تلك التداعيات.


ترسم وولف عمليةَ الخلقِ الإبداعيّ كتجربةٍ كاملة، بداياتٌ خاطئةٌ يتم استبدالُها، ثم تصحيح النغمة ودرجة التماسك الدراميّ، فمثلاً، لابد أن يجد الراوية جريمةً مُتخيّلَة ارتكبتها البطلة "ميني مارش" لتتفق الحالُ مع ملامح الأسى المرسومة على وجهها، كذلك استبدال نبات السرخس بنبات الخلنج ليكون أكثر مناسبةً مع المشهد المرسوم (بمعرفة الراوية) فيكتمل على نحوٍ أفضل، إضافةُ أو طرحُ شخوصٍ للرواية. ولا تغفل وولف حساب "الراوية" ذاتها كقوة دافعة في العمل، بالرغم من سعيه عادةً في معظم الروايات، أعني الراوية، إلى التعالي فوق الحدث والشخوص، حيث يبدأ من أرض الرصد الصلبة، بعين العليم غير المتورط، لكن روح الفنان داخل وولف أجبرتها على الضلوع في الدراما طوال الوقت كراوٍ غير عليم ومشارك ومتورطٍ في الحدث.


ومثلما فعل بودلير في قصيدة "النوافذ" حين اعتمدَ الخيالَ كحيلةٍ ذهنية لانتزاع الأمن من الحياة وخلق شيء من الثقة بالنفس، أكدّت وولف في تلك الرواية على حتمية انتصار روح الخلق الإبداعيّ داخل الفنان على روح العدميّةِ والقنوط التي تصيب المبدعَ أحياناً. فكلما أثبتت حكايتُها الأولى فشلَها و تراءى لها كم أن حبكتَها تبدو مضحكةً سرعان ما تستجيب لروح المبدع داخلها وتشرعُ في نسجِ حبكةٍ جديدة.


في هذه النوفيللا الثريّة غزيرة التفاصيل، التي هي مشروعُ روايةٍ لم تكتملْ وفي ذات الوقت عملٌ مكتمل البنية على نقصانه المتعمد، نلمس اشتجار الأبعاد الكثيفة للواقع الموضوعيّ، مع الراوية والناقد في آن، مع المحلل الذاتي داخل الراصد، بما لا يعطي مجالا للنهاية أن تكتمل. يتنامى الهاجس الإلهاميّ داخل المبدعة التي تنشد "عالماً رائعاً، مشاهدَ ملوّنةً، وشخصياتٍ أسطوريةً تنتظر أن تُخلق"، لتقف الرواية على الحافّة الحرجة بين النقصِّ والاكتمال.

* * *


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)