عرض مشاركة واحدة
قديم 10-19-2010, 10:06 PM
المشاركة 9
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

الجزء الأخير من الكتاب

أخبار أبي تمام مع أبي سعيد الثغري أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري الطائي الحميدي

حدثني عبد الله بن الحسين بن سعد قال، حدثني البحتري قال: أبو سعيدٍ الثغري طائي من أهل مرو، وكان من قواد حميدٍ الطوسي، ومن أول شعرٍ مدحه به أبو تمام قوله:

مِنْ سَجَايا الطُّلُولِ ألاّ تُجِيبَا ... فَصَوَابٌ منْ مُقْلَتِي أَنْ تَصُوبَا

قال: وما أخذ أبو تمام من أحدٍ كما أخذ منه، ليس أنه كان يكثر له، ولكن كان يديم ما يعطيه.
حدثني عبد الرحمن بن أحمد بن الوليد قال، حدثني أبو أحمد محمد بن موسى بن حماد البربري قال، حدثني صالح بن محمد الهاشمي قال: دخلت على أبي سعيدٍ الثغري فأخرج لي كتاباً من أبي تمام إليه، ففتحته فإذا فيه:

إِنِّي أَتَتْنِي مِنْ لَدُنْكَ صَحِيفَةٌ ... غَلَبَتْ هُمُومَ الصَّدْرِ وَهْيَ غَوَالِبُ

وَطَلَبْتَ وُدِّي والتَّنَائِفُ بَيْنَنَا... فَنَدَاكَ مَطْلُوبٌ وَمَجْدُكَ طَالِبُ

وذكر أبياتاً سنذكرها في شعره تماماً لهذا، ثم قال لي: كتبت إلى أبي تمامٍ كتاباً، وقرنته ببرٍ له، فجعل جوابه هذا الشعر، ولم يخاطبني بحرفٍ سواه.
حدثني عون بن محمد قال: قدم على أبي تمامٍ رجل من إخوانه، وكان قد بلغه أنه قد أفاد وأثرى، فجاءه يستميحه، فقال له أبو تمام: لو جمعت ما آخذ ما احتجت إلى أحدٍ، ولكني آخذ وأُنفق، وسأحتال لك، فكتب إلى أبي سعيد بقصيدة منها:

لاَ زِلْتَ مِنْ شُكْرِي في حُلَّةٍ ... لاَبِسُها في سَلَبٍ فَاخِرِ

يَقُولُ مَنْ تَقْرَعُ أَسْماعَهُ ... كَم تَرَكَ الأوَّلُ لِلآخِرِ

لي صَاحِبٌ قَدْ كانَ لي مُؤْنِساً ... وَمَألَفاً في الزَّمَنِ الغَابرِ

تَحْمِلُ مِنْهُ العِيسُ أُعْجُوبَةً ... تُجَدِّدُ السِّخْريَّ للِسَّاخرِ

ذَا ثَرْوَةٍ يَطْلُبُ مِنْ سَائلٍ ... وَمُفْحَماً يَأخُذُ مِنْ شَاعِرِ!

فَصَادَفتْ مَالِي بِإقْبَالِهِ ... مَنِيَّةٌ مِنْ أَملٍ عَائِرِ

فَشَارِكِ المقمُورَ فِيهِ وَلاَ ... تَكُنْ شَريِكَ الرَّجُلِ القَامِرِ

فَرِفْدُكَ الزَّائرِ مَجْدٌ وَلاَ ... كَرِفْدِكَ الزَّائِرَ للِزَّائِرِ

فوجه لأبي تمامٍ بثلثمائة دينارٍ، وللزائر بمائتي دينارٍ، قال: فأعطاه أبو تمامٍ خمسين ديناراً حتى شاطره.
أخبار أبي تمام مع أحمد بن المعتصم

حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال، حدثني أبي قال، شهدت أبا تمامٍ ينشد أحمد بن المعتصم قصيدته التي مدحه بها:

مَا في وُقُوفِكَ سَاعَةً مِنْ بَاسِ ... تَقْضِي ذِمامَ الأَرْبُعِ الأَدْرَاسِ

فَلَعَلَّ عَيْنَكَ أنْ تُعِينَ بِمَائِهَا ... وَالدَّمْعُ مِنهُ خَاذِلٌ وَمْوَاسِي

والناس يروون هذا -أن تعين بمائها- وهو تصحيف، فلما قال:

أَبْليَتَ هذَا المَجْدَ أَبْعَدَ غَايَةٍ ... فِيهِ وَأَكرَمَ شِيمةٍ ونِحَاسِ

إِقْدَامَ عَمْروٍ في سَماحَةِ حَاتِمٍ ... في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ إِيَاسِ

قال له الكندي، وكان حاضراً وأراد الطعن عليه: الأمير فوق من وصفت، فأطرق قليلاً، ثم زاد في القصيدة بيتين لم يكونا فيها:

لاَ تُنْكِروُا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَروُداً في النَّدَى وَالبَاسِ

فالله قد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ ... مَثَلاً منَ المِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ

قال: فعجبنا من سرعته وفطنته، وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا، وليس بشيءٍ، وهذا هو الصحيح. ويروى أنه عيب عليه قوله، وقد أنشد هذه القصيدة التي فيها:

شَابَ رَأْسِي وَما رَأيت مُشَيِبَ الرَّ ... أْسِ إلاّ من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤَادِ

فزاد فيها من لحظته:

وكَذَاكَ الْقُلوُبُ في كلِّ بُؤسٍ ... وَنَعيِمٍ طَلاَئِعُ الأجْسَادِ

حدثني أحمد بن إسماعيل قال: حدثني عبد الله بن الحسين ولست أدري من عبد الله هذا قال: سمعت أبا تمام ينشد أحمد بن المعتصم في علةٍ اعتلها:

أَقْلَقَ جَفْنَ العَيْنَيْنِ عَنْ غُمُضِهْ ... وَشَدَّ هَذَا الحَشَا عَلَى مَضَضِهْ

شَجىً بَما عَنَّ لِلأَميِر أبي ال ... عَبَّاسِ أَمسْىَ نَصْباً لِمعْتَرِضِهْ

منْ الآُلَى نَسْتَجِيرُ منْ شَرَقِ الدّهْ ... رِ بِهمْ إنْ أَلَمَّ أوْ جَرضَهْ

صَاغَهُمْ ذُو الجلاَلِ مِنْ جَوْهَرِ المَجْ ... دِ وَصاغَ الأَنامَ مِنْ عَرَضِهْ

سَهْمٌ مِنَ المُلكِ لاَ يُضَيِّعُهُ ... بَارِيهِ حَتَّى يَهْتَزَّ في غَرَضِهْ

وهذه من أحسن كنايةٍ في التعريض بالخلافة:

صِحَّتُهُ صِحَّةُ الرَّجَاءِ لَنا ... في حِينِ مُلْتَاثهِ وَمُنْتَقَضِهْ

فإنْ نَجِدْ عِلةً نُعَمَّ بهَا ... حتَّى كأَنَّا نُعَادُ مِنْ مَرَضِهْ

فقال له أحمد بن المعتصم: ما أبين العلة عليك! فقال: إنها علةُ قلبٍ تميت الخاطر، وتسد الناظر، وتبلد الماهر!.

أخبار أبي تمام مع مخلد بن بكار الموصلي

حدثني أحمد بن إبراهيم قال، حدثني بدر غلام مخلد قال: دخل أبو تمام الحمام ومخلد فيه، وإذا عليه شعر كثير، كأنه قد ألبس مسحاً، فقال له أبو تمام: ما هذا؟! قال: حذراً من لسانك أن ينسبني إلى البغاء.
حدثني أبو سليمان النابلسي قال، قيل لأبي تمام: قد هجاك مخلد، فلو هجوته؟ قال: الهجاء يرفع منه، قيل: أليس هو شاعراً؟ قال: لو كان شاعراً ما كان من الموصل. يعني أن الموصل لم تخرج شاعراً. قال أبو سليمان: وأصل مخلد من الرحبة ثم أقام بالموصل. حدثني أحمد بن محمد البصري، غلام خالدٍ الحذاء الشاعر وراويته قال، حدثني الخليع الشاعر القرشي قال: كان أول شعر هجا به مخلد أبا تمام قوله:

أنت عندي عربيُّ ... الأَصْلِ ما فيكَ كلامُ

عربيُّ عربيُّ ... أَجَإِيٌّ ما تُرامُ

شَعْر فَخْذَيْكَ وساقَيْكَ ... خُزَامَي وثُمَامُ

وضلُوعُ الشِّلوْ مِنْ صَدْ ... رِكَ نبعٌ وبَشَامُ

وَقَذَى عينيْكَ صَمْغٌ ... وَنَواصِيكَ ثَغَامُ

لو تحركْتَ كذا لانْ ... جَفَلَتْ منكَ نَعامُ

وظِبَاءٌ مُخْصِبَاتٌ ... ويَرَابِيعُ عِظَامُ

أنَا ما ذنْبَي إِنْ خَا ... لفَنَي فيكَ الأَنَامُ؟

وَأَتَتْ مِنكَ سَجايَا ... نَبَطِيَّاتٌ لِئَامُ

وَقَفاً يَحْلِفُ أَنْ مَا ... عَرَّقَتْ فِيكَ الكِرَامُ

ثُمَّ قَالُوا: جَاسِمِيٌّ ... مِنْ بَنِي الأَنْبَاطِ خَامُ

كَذَبُوا، مَا أنْتَ إلاَّ ... عَرَبيٌّ مَا تُضَامُ

بَيْتُهُ مَا بَينَ سَلْمَى ... وَحَوَالَيْهِ سِلاَمُ

وَلَهُ مِنْ إِرْثِ آبا ... ءٍ قِسِىٌّ وَسِهَامُ

وَنَخِيلٌ بَاسِقَاتٌ ... قَدْ دَنَا مِنْهَا صِرَامُ

أَنْتَ عِنْدِي عَرَبيٌّ ... عَربيٌّ وَالسَّلاَمُ

وأنشدني أبو جعفر مولى آل سليمان بن علي لمخلدٍ في أبي تمام:

انْظُرْ إلَيْهِ وَإلَى خُبْثِهِ ... كيفَ تَطَايا وَهْوَ مَنْشُورُ

ثُمَّ عَلَى طَاقٍ شَخِيتِ الْقُوَى ... نِسْبَتُهُ وَالُّلؤْمُ مَضْفُورُ

وَيْلكَ، مَنْ دَلاَّكَ في نِسْبَةٍ ... قَلْبُكَ مِنْهَا الدَّهْرَ مَذْعُورُ

لَوْ ذُكِرَتْ طَاءٌ عَلَى فَرْسَخٍ ... أَظْلَمَ في نَاظرِكَ النُّورُ

وأنشدني أبو سليمان الضرير لمخلدٍ في أبي تمام:

لَوِ امْتَخَطْتَ وَبْرَةً وَضَبَّا ... وَامْتَشَّتْ اليَرْبُوعَ نِيّاً صُلْبَا

وامْتَصَّتَ الحَنْظَلَ غَضّاً رَطْباَ ... وَلَمْ تَذُقْ مَاءً نُقَاخاً عَذْبَا

وَبُلْتَ بَوْلَ جَمَلٍ قَدْ هَبَّا ... ولَمْ تَرُمْ إلاَّ الْجِمَالَ كَسْبَا

ثمَّ قَعَدْتَ الْقُرْفُصَا مُنْكَبَّا ... تَحْكي عرَابيَّ فَلاةٍ قَلْبَا

إِنْ دَخَلَ الإيوَانَ صَاحَ الكرْبَا ... حَتَّى يَحُلَّ جَعْجَعَاناً رَحْبَا

ولَوْ نَكَحْتَ حِمْيَراً وكَلْبَا ... وقَيْسَ عَيْلاَنَ الْكِرَامَ الْغُلْبَا

بِالشَّامِ حَيْثُ زَجْرُهَأ يُلبَّي ... لاَ حَيْثُ أَضْحَى النَّسَبُ الْمُرَبَّي

يُصْبِحُ عَبْداً وَيَرُوحُ رَبَّا ... ثُمَّ اتَّخَذْتَ اللاَّتَ فيِنَا رَبَّا

وَلَمْ تَسَمِّ القُطْنَ إلاّ عُطْبَا ... وَقُلتَ لِلْعَيْرِ الْبَلِيدِ حَوْبَا

مَا كُنْتَ إلاّ نَبَطِياً قَلْبَا ... لَوْ نَقَرَ الصَّخْرَ أَفَاضَ غَرْبَا

حتَّى يُسِيحَ لِلنَّبَاتِ شِرْبَا ... ويُنْبتَ الْحَبَّ بهِ وَالْقَضْبَا

هيَّجْتَ مِنيِّ شَاعِراً أَرَبَّا ... يُدِيُر في حُسَاماً عَضْبَا

مُهنَّداً مَدَّاحَةُ مِسَبَّا ... يَلحَبُ أَعرَاضَ اللِّئَامِ لَحْبَا

وهذا الفن قد سبق مخلد إليه: قال أبو نواسٍ في أبي خالدٍ الفارسي، وخرج إلى البدو شهرين فصار نميريا، وعاد فأنكر الميازيب، فقال: ما هذه الخراطيم التي لا أعرفها؟ فقال فيه أبو نواس:

يَا رَاكبِاً أَقْبَلَ مِنْ ثَهْمَدٍ ... كَيْفَ تَرَكْتَ الإبلَ وَالشِّاءَا؟

وَكيْفَ خَلَّفْتَ لِوَى قَعْنَبٍ ... حَيْثُ تَرَى التَّنُّومَ وَالآءَا

جَاءَ مِنَ البَدْوِ أَبُو خَالدٍ ... وَلَمْ يَزَلْ بِالمصْرِ تَنَّاءَ

يَعْرفُ لِلنَّارِ أَبُو خَالِدٍ ... سِوَى اسْمِهَا في النَّاسِ أَسْمَاءَ

إذَا دَعَا الصَّاحبَ يَهْيَا بِهِ ... وَيُتْبِعُ الْيَهْيَاءَ يَهْيَاءَ

لَوْ كُنْتَ مِنْ فَاكِهةٍ تُشْتَهَى ... لِطيبِهَا كُنت الغُبَيْرَاءَ

لاَ تَعْبُرُ الحَلْقَ إلىَ دَاخِلٍ ... حَتَّى تَحَسَّى فَوْقَها المَاءَ

وقد سبق أبو نواس أيضاً إلى هذا: حدثني مسبح بن حاتم العكلي قال، حدثني يعقوب بن جعفر قال: أمر إسماعيل بن علي لحماد عجردٍ بخمسة آلاف درهمٍ، فمطله بها كاتبه محمد بن نوح، فقال فيه حماد:

قَالَ ابنُ نُوحٍ لي وَقَدْ ... أظْهَرَ بَعْضَ الْغَضَبِ

أَنْتَ الذي نَفَيْتَني ... في الشِّعْرِ عَنْ نُوحٍ أبي؟

فَقْلْتُ: لاَ،لاَ تَرْمِنِي ... مِنْكَ بِمَحْضِ الكَذِبِ

وَيْحَكَ لَمْ أفْعَلْ وإنْ ... كُنْتَ سَقِيمَ الحَسَبِ

لَكنَّنيِ كُنْتُ فَتىً ... عَلاَّمَةً بِالنَّسَبِ

فَقْلْتَ لي: نُوحٌ أبي، ... فقلتُ: جَاوِزْ بِأَبِ

فَلَمْ تُجَاوِزْهُ وَفيِ ... ذَلِكَ بَعْضُ الرِّيَبِ

فَيَا ابنَ نُوحٍ، يَا أَخَا ال ... حِلْسِ، وَيَا ابْنَ القَتَبِ

وَمَنْ نَشَا وَالِدُهُ ... بَيْنَ الرُّبَى وَالكُثُبِ

يَا عَربي يَا عَربِي ... يَا عَربي يَا عَربِي

ولما مات أبو تمام رثاه مخلد بهجاءٍ فقال:

سَقَتْ حَتَارَكَ يَا طَائِيُّ غَادِيَةٌ ... مِنَ المَنِيِّ وَقُطْعَانٌ مِنَ الكَمَرِ

فَنَوْءُ جُرْدَانَ أَشْهَى لاَ أَشُكُّ بِهِ ... إلىَ حَتَارِكَ مِنْ نَوْءَيِنْ مِنْ مَطَرِ

حَرُّ الحُلاَقِ وَبَرْدُ الشِّعْرِ أَتْلَفَهُ ... فَجَاءَهُ المَوْتُ مِنْ حَرٍّ وَمِنْ خَصَرِ

وكان أبو تمام لا يجيب هاجياً له، لأنه كان لا يراه نظيراً ولا يشتغل به. حدثني أبو العشائر الأزدي الشاعر قال، حدثني أبي قال: قلت لأبي تمام: ويحك قد فضحنا هذا الموصلي بهجائك فأجبه، قال: إن جوابي يرفع منه، وأستدر به سبه، وإذا أمسكت عنه سكتت شقشقته، وما في فضل مع هذا عن مدح من أَجتديه. وقال فيه مخلد:

يَا نَبِيَّ الله في الشِّعْرِ وَيَا عيَسى بنَ مَرْيَمْ
أََنْتَ مِنْ أَشْعَرِ خَلْقِ اللهِ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ!

وقد هجا أبا تمام من هو أشعر من مخلد: حدثني محمد بن موسى الهاشمي، وأبو الربيع المنقري قالا: عزم أبو تمام على الانحدار إلى البصرة والأهواز لمدح من بهما، فبلغ ذلك عبد الصمد بن المعذل فكتب إليه:

أَنْتَ بينَ اثنَتَينِ تَغْدُو مَعَ النَّا ... سِ وَكِلْتَاهُمَا بِوَجْهٍ مُذَالِ

لَسْتَ تَنْفَكُّ طَالِباُ لِوصَالٍ ... مِنْ حَبِيبٍ أوْ طَالباً لِنَوَالِ

أيُّ مَاءٍ لَماءِ وَجْهِكَ يَبْقَى ... بَعْدَ ذُلِّ الْهَوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ؟

فلما قرأ الشعر قال: قد شغل هذا ما يليه، فلا أرب لنا فيه، وأضرب عن عزمه. وجدت في كتبي: وقال الوليد يهجو أبا تمام، وهي قصيدة اخترت منها:

دَعِ الهِجَاءَ فإِنَّ اللهَ حَرَّمَهُ ... وَاقْصِدْ إلَى الَحقِّ إنَّ الحَقَّ مُتَّسِع

وَاذْكُرْ حَبيبَ بْنَ أَوْشُونَا وَدِعْوَتَهُ ... فإنّ طَيّاً إذَا سُبُّوا بِه جِزَعُوا

إنْ يَقْبَلوُكَ أبَا النُّقْصَانِ يَحْتَقبْوا ... عَاراً وتَخفِضُ منهُمْ كلَّ مَا رَفَعُوا

لَوْ أنَّ عَبْدَ مَنَافٍ في أَرُومِتهِمْ ... تَقَبَّلوُكَ لَمَا ضَرُّوا وَلاَ نَفَعُوا

وَإنْ نَفَوكَ كما يَنفُونَ كَلْبَهُمُ ... عَنِ الصَّمِيمِ أَصَابُوا الحَقَّ وَانْتَفَعُوا

إِنْ يَرْقَعُوا بِكَ خَرْقاً في أَدِيمِهِمِ ... قالَ العِبَادُ جَمِيِعاً: بِئْسَما رَقَعُوا

مِرْبَاعُ قَوْمكَ نَاقُوسٌ وَشَمْعَلةٌ ... فَاذْكُرْ مَرَابِيَعُهمْ فِيهَا إذَا ارْتَبَعُوا

ولَوْ تُنَاطُ بِطَىٍ كُلُّ مُخْزِيَةٍ ... لكُنْتَ أخْزىَ لَهمْ منْهَا إذا اجتْمَعُوا

إِنِّي هَجَوْتُكَ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ ... بِأَنَّ شِعْرَكَ قَدْ أَوْدَى بهِ الفَزَعُ

إنّ القُرُومَ إذَا أبْدَتْ شَقَاشِقَهَا ... لِلْهَدْرِ لَمْ يَدْنُ منْ أَعْطَانِهَا الْهُبَعُ

ما روي من معائب أبي تمام

حدثني هارون بن عبد الله المهلبي قال: سئل دعبل عن أبي تمام قال: ثلث شعره سرقة، وثلثه غثٌ، وثلثه صالح. وقال محمد بن داود، حدثني ابن أبي خيثمة قال، سمعت دعبلاً يقول: لم يكن أبو تمام شاعراً، إنما كان خطيباً، وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر، قال: وكان يميل عليه، ولم يدخله في كتابه -كتاب الشعراء-. وحُكى أن ابن الأعرابي قال، وقد أنشد شعراً لأبي تمام: إن كان هذا شعراً فما قالته العربُ باطلٌ!.
حدثني محمد بن الحسن اليشكري قال: أنشد أبو حاتم السجستاني شعراً لأبي تمام، فاستحسن بعضه واستقبح بعضاً، وجعل الذي يقرؤه يسأله عن معانيه فلا يعرفها أبو حاتم، فقال: ما أشبه شعر هذا الرجل إلا بثيابٍ مصقلاتٍ خلقانٍ، لها روعة وليس لها مفتش.
حدثني القاسم بن إسماعيل قال: كنا عند التوجي، فجاء ابن لأبي رهم السدوسي، فأنشده قصيدةً لأبي تمام يمدح بها خالد بن يزيد أولها:

طَلَلَ الجميعِ لقدْ عَفَوْتَ حَميدَا ... وكفَى عَلَى رُزْئي بذاكَ شَهيِداَ

قال: فجعل يضطرب فيها، وكنت عالما بشعره، فجعلت أقومه، فلما فرغ قال: يا أبا محمد، كيف ترى هذا الشعر؟ فقال: فيه ما أستحسنه، وفيه مالا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وإما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه!. وحكى عن ابن مهرويه عن أبي هفان قال، قلت لأبي تمام: تعمد إلى درةٍ فتلقيها في بحر خرءٍ، فمن يخرجها غيرك؟.
حدثني أبو صالح الكاتب قال، سمعت أبا العنبس يقول، وكان جاراً لي: راسل أبو تمام أم البحتري في التزويج بها، فأجابته وقالت له: اجمع الناس للإملاك، فقال: الله أجل من أن يذكر بيننا، ولكن نتماسح ونتسافح، فكان معها بلا نكاح. وهذا إنما كذبه أبو العنبس، واحتذى به حديثاً حدثه به الكديمي عن الأصمعي قال: جاء أسود وسوداء إلى أبي مهدية فقالا له: قد أردنا التزويج فاخطب لنا، فقال: إن الله أجل من أن يذكر بينكما، فاذهبا فاصطكا لعنكما الله!. وقال قوم: هو حبيب بن تدوس النصراني، فغير فصير أوساً. حدثنا جماعة من ابن الدقاق قال، قرأنا على أبي تمام أرجوزة أبي نواس التي مدح بها الفضل ابن الربيع: وبلدةٍ فيها زَوَرْ
فاستحسنها وقال: سأروض نفسي في عمل نحوها، فجعل يخرج إلى الجنينة، ويشتغل بما يعمله، ويجلس على ماء جارٍ، ثم ينصرف بالعشى، فعمل ذلك ثلاثة أيام، ثم خرق ما عمل وقال: لم أرض ما جاءني.
حدثني أحمد بن سعيد قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، قال ابن الخثعمي الشاعر: جن أبو تمامٍ في قوله:

تروحُ علينا كلَّ يومٍ وتَغْتَدي ... خُطوبٌ يكادُ الدَّهرُ منهنَّ يُصرَعُ

أيصرع الدهر؟ قال: فقلت له: هذا بشار يقول:

وما كنتُ إلاَّ كالزمانِ إذا صَحَا ... صَحَوْتُ، وإن ماقَ الزَّمانُ أَمُوقُ

قال: فسكت، قال: فقلت له: وأبوك يقول:

وليَّنَ لي دَهْري بأتباعِ جُودِهِ ... فكِدْتُ لِلِينِ الدهرِ أنْ أعقِدَ الدهْرَا

الدهر يعقد؟ قال: فسكت. وقال محمد بن عبد الملك بن صالح يهجو أبا تمام:

قد جاءني والمقالُ مختلفٌ ... شعرُ أبي ناقصٍ على بُعُدِهْ

فكانَ كالسَّهمِ صَافَ عن سَدَدِ القْو ... لِ وَعَنْ قَصْدِهِ وعَنْ أَمَدهْ

ما رواه أبو تمام

حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال، حدثني أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عتابٍ قال، حدثني أبو تمامٍ الطائي قال: مر الطرماح بمسجد البصرة، وهو يخطر في مشيته، فقال رجل: من هذا الخطار؟ فقال: أنا الذي أقول:

لقد زادني حُبّاً لِنفسَي أنني ... بغيضٌ إلى كلِّ امرئٍ غيرِ طائِلِ

إذا ما رآني قَطَّع الطَّرفَ دُونَه ... ودُونِيَ فِعْلَ العَارفِ المتجاهلِ

ملأتُ عليه الأرضَ حتى كأنّها ... مِن الضِّيقِ في عينينه كِفَّةُ حَابِلِ

حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام حبيب بن أوس الطائي قال، حدثنا العطاف بن هارون عن يحيى بن حمزة قاضي دمشق -وكان فيمن تولى قتل الوليد بن يزيد- قال: إني لفي مجلس يزيد بن الوليد الناقص، إذ حدثه فكذبه، فعلم يزيد أنه قد كذبه، فقال له: يا هذا، إنك تكذبُ نفسك قبل أن تكذبَ جليسكَ. قال: فما زلنا نعرف الرجل بعد ذلك بالتوقي.
حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثني أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني شيخ من الحي قال: كان فينا رجل شريف، فأتلف ماله في الجود، فصار بعد لا يفي، فقيل له: أصرت كذاباً؟ فقال: نصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب! قال أبو بكر: فنقل هذا ابن أبي طاهرٍ شعراً له، فقال:

قد كنتُ أنجِزُ دهراً ما وَعَدْتُ، إلى ... أنْ أتلفَ الدهرُ ما جَمَّعْتُ من نَشَبِ

فإنْ أكنْ صِرتْ في وَعْدِي أخا كذبٍ ... فَنُصْرَةُ الصدقِ أفضَتْ بي إلى الكذبِ!

حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثنا ابن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني كرامة بن أبان العدوي قال، حدثني رجل من عاملة من بني زهدمٍ قال، قال عدي بن الرقاع: ما أسمعت عمر ابن الوليد بن عبد الملك مديحاً قط إلا كدت أسمع حديث نفسه بحبائي؟
قال: فو الله إني بعد هذا الحديث لفي مجلس عمر، إذ دخل عليه عدي، فأنشده شعراً فيه، فدعا مولى له فقال: هات نقيضة هذه القصيدة، فظننت أنه ينشده شعراً، فأتى ببدرةٍ فيها عشرة آلاف درهمٍ فدفعها إليه.

حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثني أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني أبو عبد الرحمن الأموي قال: وصف ابن لسان الحمرة، وهو ربيعة بن حصن من بني تيم اللات بن ثعلبة، قوماً بالعي فقال: منهم من ينقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه، ومنهم من يقتسر الآذان فيحملها إلى الأذهان عبأً ثقيلا.

حدثني أحمد قال، حدثني أحمد قال، حدثني أبو تمامٍ قال: كان يزيد بن الحصين بن تميم السكوني لا يعطي، فإذا أعطى أعطى كثيراً، ويقول: أحب أن تكون مواهبي كتائب كتائب، ولا أحب أن تكون مقانب مقانب.

حدثنا أحمد قال: حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ عن رجلٍ من كلبٍ قال: كنت مع يزيد بن حاتمٍ بإفريقية، فاعترض دروعاً وبالغ فيها، وكانت جياداً، فقيل له في ذلك، فقال: إنما أشترى أعماراً لا دروعا!.

حدثني أحمد بن يزيد قال، حدثنا أبي عن عمه حبيب بن المهلب قال: ما رأيت قط رجلاً مستلئماً في حربٍ إلا كان عندي بمنزلة رجلين اثنين، ولا رأيت رجلين حاسرين في حربٍ قط إلا كانا عندي بمنزلة رجلٍ واحدٍ.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني كرامة قال: قدم رجل من ولد معدان بن عبيد المعني من عند البرامكة، فقلنا له: كيف تركتهم؟ فقال: تركتهم وقد أنست بهم النعمة حتى كأنها بعضهم! قال أبو تمام، قال كرامة: فحدثت بهذا ثعلبة بن الضحاك العاملي فقال: لقد سمعت من بعض أعرابكم نحواً من هذا: قدم علينا غسان بن عبد الله بن خيبري في عنفوان خلافة هشام، فرأى آل خالد القسري، فقال: إني أرى النعمة قد لصقت بهؤلاء القوم حتى كأنها من ثيابهم! قلت: فإن صاحب هذا الكلام ابن عم صاحب هذا الحديث فيما أرى، أما ترى كلامه ابن عم كلامه؟. مستلئماً في حربٍ إلا كان عندي بمنزلة رجلين اثنين، ولا رأيت رجلين حاسرين في حربٍ قط إلا كانا عندي بمنزلة رجلٍ واحدٍ.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني كرامة قال: قدم رجل من ولد معدان بن عبيد المعني من عند البرامكة، فقلنا له: كيف تركتهم؟ فقال: تركتهم وقد أنست بهم النعمة حتى كأنها بعضهم! قال أبو تمام، قال كرامة: فحدثت بهذا ثعلبة بن الضحاك العاملي فقال: لقد سمعت من بعض أعرابكم نحواً من هذا: قدم علينا غسان بن عبد الله بن خيبري في عنفوان خلافة هشام، فرأى آل خالد القسري، فقال: إني أرى النعمة قد لصقت بهؤلاء القوم حتى كأنها من ثيابهم! قلت: فإن صاحب هذا الكلام ابن عم صاحب هذا الحديث فيما أرى، أما ترى كلامه ابن عم كلامه؟.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثنا كرامة قال: تكلم رجل في مجلس الهيثم بن صالح فهذر ولم يصب، فقال: يا هذا، بكلام أمثالك رزق الصمت المحبة!.

حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثنا أحمد، قال حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني سلامة بن جابر النهدي قال: سمعت أعرابياً يصف قوماً لبسوا النعمة ثم عروا منها، فقال: ما كانت نعمة آل فلانٍ إلا طيفاً ولى مع انتباههم!.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ عن سلامة بن جابر قال: سأل هشام أسد بن عبد الله القسري عن نصر بن سيارٍ وكان عدوه فقال: ذلك رجل محاسنه أكثر من مساويه، لا يضرب إلا انتصف منها، لا يأتي أمراً يعتذر منه، قسم أخلاقه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلقٍ نوبةً، لا يدري أي أحواله أحسن، ما هداه إليه عقله، أو ما كسبه إياه أدبه! فقال هشام: لقد مدحته على سوء رأيك فيه، فقال: نعم، لأني فيما يسألني أمير المؤمنين عنه كما قال الشاعر:

كَفى ثَمَناً لما أَسْدَيْتَ أَنِّي ... صَدَقْتُكَ في الصَّديقِ وفي عِدَاى

وَأنِّي حين تَنْدُبُنيِ لأَمْرٍ ... يكُونُ هَواكَ أغْلبَ مِن هَوَاى

قال: ذاك الظن بك.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني محمد بن خالد الشيباني قال: قال رجل يوماً لرقبة بن مصقلة العبدي: من أي شيء كثرة شكك؟ قال: من محاماتي عن اليقين!.

حدثنا أحمد بن يزيد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني أبو عبد الرحمن الأموي قال: ذكر الكلام في مجلس سليمان بن عبد الملك فذمه أهل المجلس، فقال سليمان: كلا، إن من تكلم فأحسن، قدر على أن يسكت فيحسن؛ وليس كل من سكت فأحسن، قدر أن يتكلم فيحسن.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهرٍ قال، حدثني أبو تمام قال، حدثني شيخ من بني عدي بن عمرو قال: نزلت عندنا أحوية من طيئ، فكنت أتحدث إلى فتىً يتحدث إلى ابنة عمٍ له، وهو من أقرح الناس كبداً، فسار فريقها الأدنى إلى الغور، وغبر في أهل بيته، فاشتد جزعه، فقال: يا ابن عم، إن الصبر عن المحبوب أشد من الصبر على المكروه.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال، حدثني حبيب بن أوس الطائي قال،حدثنا قلابة الجرمي قال: قال يزيد بن المهلب يوماً لجلسائه: أراكم تعنفوني في الإقدام!
قالوا: نعم، والله إنك لترمي بنفسك في المهالك، فقال: إليكم عني، فو الله لو لم آت الموت مسترسلاً، لأتاني مستعجلاً؛ إني لست آتي الموت من حبه، إنما آتيه من بغضه! وقد أحسن الحصين بن الحمام المري حيث يقول:

تأَخَّرْتُ أستبْقي الحياةَ فلم أجدْ ... حَيَاةً لِنفْسي مثلَ أن أتقدَّمَا

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد عن أبي تمام قال، قال رجل من بني عمرو بن تميم: يزعم الناس أن السيوف مأمورة تقطع وتكهم، والله ما رأيت يزيد بن المهلب قط فنبا سيفه، فقال ثابت قطنة: والله لو لم تكن السيوف مأمورةً، لصيرتها يد يزيد مأمورةً!.
حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر عن أبي تمام قال، حدثني مالك بن دلهمٍ عن ابن الكلبي قال: مات ابن لأرطاة بن سهية المري يقال له عمرو-وسهية أم أرطاة وأبوه زفر أحد بني مرة في زمن معاوية - فجزع عليه حتى ذهب عقله أو قارب، فوقف على قبره فقال:

وقفتُ على قبرِ ابن سَلْمى فلم يَكُنْ ... وُقُوفي عليه غَيْرَ مَبْكىً وَمَجْزعِ

عن الدهْرِ فاصْفَحْ إنه غَيْرُ مُعْتَبٍ ... وفي غير مَنْ قد وَارتِ الأرضُ فاطمَعِ

هل أنتَ، ابن سَلْمَى إن نظرتُكَ، رَائحٌ ... معَ القومِ أو غَادٍ غَداةَ غدٍ معي؟

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال: تذاكرنا الكلام في مجلس سعيد بن عبد العزيز التنوخي وحسنه، والصمت ونبله، فقال: ليس النجم كالقمر، إنما تمدح السكوت بالكلام، ولا تمدح الكلام بالسكوت، وما أنبأ عن شيءٍ فهو أكثر منه.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال، حدثني أبو عبد الرحمن الأموي قال: تكلم رجل عند هشامٍ فأحسن، فقال هشام: إن أحسن الحديث ما أحدث بالقلوب عهداً.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا حبيب بن أوسٍ قال، حدثني عمرو بن هاشم السروي قال: تحدثنا عند محمد بن عمرو الأوزاعي -والأوزاع من حمير- ومعنا أعرابي من بني عليم ابن جنابٍ لا يتكلم، فقلنا له: بحقٍ ما سميتم خرس العرب، ألا تحدث القوم؟ فقال: إن الحظ للمرء في أذنه، وإن الحظ في لسانه لغيره، فقال الأوزاعي: وأبيه لقد أحسن.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو تمامٍ قال: قال رجل لرجل: ما أحسن حديثك! فقال له: إنما حسنه حسن جوار سمعك.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال، حدثني أبو تمامٍ قال، حدثني يحيى بن إسماعيل الأموي قال، حدثني إسماعيل بن عبد الله قال، قال جدي: الصمت منام العقل، والنطق يقظته، ولا منام إلا بيقظةٍ، ولا يقظة إلا بمنامٍ.

صفة أبي تمام وأخبار أهله

حدثني عون بن محمد قال: كان أبو تمام طوالاً، وكانت فيه تمتمة يسيرة، وكان حلو الكلام فصيحاً، كأن لفظه لفظ الأعراب. حدثني علي بن الحسن الكاتب قال: رأيت أبا تمامٍ وأنا صبي صغير، فكان أسمر طوالاً. حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: كنت جالساً مع ابن عتاب، فمر بنا رجل من الكتاب، فجلس إلينا وكان فصيحاً مليح الحديث، فأطال معنا ثم قام، فقال لي ابن عتاب: ما رأيت رجلاً أشبه لفظاً بأبي تمامٍ من هذا إلا حبسة قليلةً كانت في لسان أبي تمام. حدثني عبد الله بن عبد الله قال: كان لأبي تمامٍ أخ يقال له سهم، وكان يقول الشعر، فمن شعره:

ونازَعْتُهُ شَيئاً إليه مُبَغَّضاً ... فلما رأى وَجدْي به صار يَعْشَقُهْ

فَدَعْه ولا تحزَنْ على فائزٍ بِه ... فإنَّ جَديداتِ الَّليالي سَتُخْلِقُهُ

حدثني سوار بن أبي شراعة قال، حدثني البحتري قال: كان لأبي تمامٍ أخ يقال له سهم، وكان يقول شعراً دوناً، فجاء إلى أبي تمام يستميحه فقال له: والله ما يفضل عني شيء، ولكني أحتال لك، فكتب إلى يحيى بن عبد الله بقصيدةٍ أولها:

إِحْدَى بنِي بكرِ بن عبدِ مَنَاهِ ... بيْنَ الكثيبِ الفَرْدِ فالأمْوَاهِ

فقال فيها:

سَهْمُ بنُ أَوْسٍ في ضَمَانِكَ وَاثِقٌ ... أَنْ لَسْتَ بالنَّاسِي ولا بالسَّاهي

أَجْزِلْ له الحظَّينِ مِنَكَ وكُنْ له ... رُكْناً عَلَى الأيَّامِ ليسَ بِوَاهِي

بِوِلايتيْنِ ولاَيَةٍ مَشْهورةٍ ... في كُورَةٍ ووِلايةٍ بالَجْاهِ

هُوَ في الغِنَى غَرْسِي، وَغَرسُكَ في العُلا ... أَنَّي أردتَ، وأنتَ غَرْسُ اللهِ

حدثني أحمد بن إسماعيل قال، حدثني أبو سهل الرازي قال: لما ولي محمد بن طاهرٍ خراسان، دخل الناس لتهنئته، فكان فيهم تمام بن أبي تمام الطائي فأنشده:

هنَّاكَ رَبُّ الناسِ هَنَّاكا ... ما مِنْ جزَيلِ المُلْكِ أعْطَاكاَ

قَرَّتْ بِما أُعطيِتَ يا ذَا الحِجَي ... والبَاسِ والإنْعامِ عَيْناكاَ

أَشْرقَتِ الأَرضُ بِما نِلتَهُ ... وَأَوْرقَ العُودُ لِنَجْواكاَ

فاستضعفت الجماعة شعره وقالوا: يا بعد ما بينه وبين أبيه! فقال محمد لعبد الله بن إسحاق، وكان يعرفه الناس وهو على أمره: قل لبعض شعرائنا: أجبه، فغمز رجلا في المجلس، فأقبل على تمامٍ فقال:

حيَّاكَ ربُّ الناسِ حيَّاكا ... إِنَّ الذي أمَّلْتَ أخْطاكا

مَدحْتَ خِرْقاً مُنْهباً مالَهُ ... ولَوْ رأى مدْحاً لَواسَاكا

فهاك إِنْ شِئْتَ بها مِدْحَةً ... مِثلَ الذي أَعْطَيْتَ أعْطَاكا

فقال تمام: أعز الله الأمير، إن الشعر بالشعر رباً، فاجعل بينهما رضخاً من دراهم حتى يحل لي ولك! فضحك محمد وقال: إن لم يكن معه شعر أبيه، فمعه ظرف أبيه، أعطوه ثلاثة آلاف درهم، فقال عبد الله بن إسحاق: ولقول أبيه في الأمير عبد الله بن طاهرٍ:

أَمَطْلِعَ الشَّمسِ تَنْوِي أنْ تَؤُمَّ بنا؟ ... فقُلتُ: كلاَّ، ولكنْ مطْلِعَ الجُودِ

ثلاث آلافٍ أخرى، قال: ويعطي ذلك.

أخبار لأبي تمام متفرقة

حدثني أبو جعفر أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه -وكان ابن مهرويه هذا يسمع معنا من المغيرة بن محمد المهلبي وغيره بالبصرة، ولم أسمع منه شيئاً عن الحمدوي- قال: سمعت أبا تمامٍ يقول: أنا كقولي:

نَقِّلْ فُؤادَكَ حيثُ شِئْتَ مِن الهَوَى ... ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأَولِ

كم مَنْزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفَتَى ... وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنْزِلِ

وحكى محمد بن داود هذا الشعر في كتابه وقال: أخذه من قول ابن الطثرية:

أَتانِي هَوَاها قبلَ أنْ أعرِفَ الهَوى ... فصادَفَ قلباً فارِغاً فتَمَكَّنَا

وهو عندي بقول كثيرٍ أشبه، ومنه أخذه:

إذا وصَلَتْنَا خُلَّةٌ لِتُزِيِلَها ... أَبَيْنَا وقُلْنَا: الحَاجِبِيَّةُ أوَّلُ

وهو يتعلق أيضاً بما قاله من جهةٍ: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال، حدثنا أبي قال: أنشدت يوماً لجرير:

وما زَالَ معْقُولاً عِقَالٌ عَن النَّدى ... وما زَالَ مَحبُوساً عَنِ الخَيْرِ حَابِسُ

حكى محمد بن داود أن أبا عبد الله أحمد بن محمد الخثعمي الكوفي قال لأبي تمامٍ وقد اجتمعا فقام أبو تمام إلى الخلاء: أتدخلك؟ فقال: نعم، لا نحملك.
حدثني أحمد بن موسى قال: أخبرني أبو الغمر الأنصاري عن عمرو بن أبي قطيفة قال: رأيت أبا تمام في النوم فقلت له: لم ابتدأت بقولك: كَذَا فَلْيجِلَّ الخطْبُ وليَفْدَحِ الأَمْرُ
فقال لي: ترك الناس بيتاً قبل هذا، إنما قلت:

حَرامٌ لَعْينٍ أنْ تَجِفَّ لَهَا شُفرُ ... وَأَنْ تَطْعَم التَّغْميِضَ مَا أَمْتَعَ الدهرُ
كذا فليجل...
حدثني علي بن الحسن الكاتب قال: الذي يقول فيه أبو تمام:

يَاسَمٍيَّ النبِيِّ في سُورَةِ الجنِّ ... ويا ثانيَ العزيزِ بِمْصرِ

هو عبد الله بن يزيد بن المهلب الطرهباني، من أهل الأنبار، كاتب أبي سعيد الثغري، ثم كتب بعده لابنه يوسف.
حدثني ابن المتوكل القنطري قال: دخل أبو تمام إلى نصر بن منصور، فأنشده مدحاً له، فلما بلغ إلى قوله:

أَسَائِلَ نَصْرٍ، لاَ تَسَلْهُ، فَإنَّهُ ... أَحَنُّ إلى الإِرْفَادِ مِنْكَ إلى الرِّفْدِ

قال له نصر: أنا والله أغار على مدحك أن تضعه في غير موضعه، ولئن بقيت لأحظرن ذلك إلا على أهله، وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ وكسوة. قال: فمات نصر بعد ذلك في شوال سبعٍ وعشرين ومائتين.
حدثنا أحمد بن إسماعيل قال، حدثني من سأل أبا تمام عن قوله:

غُرْبَةٌ تقَتْدَي بِغُرْبِة قَيْس بْ ... نِ زُهَيْرٍ وَالحارِثِ بن مُضَاضِ

فقال: أما غربة قيس بن زهير العبسي فمشهورة، وهذا الحارث بن مضاض الجرهمي زوج سيدة من إسماعيل بن إبراهيم، ثم تحدث بحديثٍ طويلٍ، قد ذكرناه في شعره عند هذا البيت.
حدثني محمد بن البربري قال، حدثني الحسن بن وهبٍ قال: قلت لأبي تمام: أفهم المعتصم بالله من شعرك شيئاً؟ قال: استعادني ثلاث مراتٍ:

وَإنَّ أَسْمَجَ مَنْ تشْكُو إليْهِ هَوىً ... مَنْ كانَ أحْسَنَ شَيءٍ عِندَهُ العَذَلُ

واستحسنه، ثم قال لابن أبي دؤاد: يا أبا عبد الله، الطائي بالبصريين أشبه منه بالشاميين.
حدثنا أبو عبد الله الألوسي قال، أخبرني أبو محمد الخزاعي المكي صاحب –كتاب مكة- عن الأزرقي قال: بلغ دعبلاً أن أبا تمامٍ هجاه عندما قال قصيدته التي رد فيها على الكميت وهي:
أَفِيِقي مِن مَلاَمِكِ يا ظَعِينَا ... كَفَاكِ اللّوْمَ مَرُّ الأرْبَعينَا

فقال أبو تمام:

نَقَضْنَا لِلْحطَيْئَةِ أَلْف بَيْتِ ... كَذَاكَ الحيُّ يَغْلبُ أَلفُ مَيْتِ

وذَلكِ دِعْبلٌ يرجوُ سَفَاهاً ... وَحمُقاً أنْ ينَالَ مَدىَ الكُمَيْتِ

إذا مَا الحيُّ نَاقَضَ جِذْمَ قَبْرٍ ... فَذَلكُمُ ابنُ زَانِيَةٍ بِزَيْتِ

وأن دعبلاَ قال لما بلغته هذه الأبيات:

يا عَجَبَا مِنْ شاعرٍ مُفْلِقٍ ... آبَاؤُهُ في طَيِّئٍ تَنْمِي

أُنْبِئْتُهُ يَشْتِمُ مِنْ جَهْلِهِ ... أُمِّي، وَمَا أَصْبَحَ مِنْ هَمي

فَقُلْتُ: لكنْ حَبَّذَا أُمُّهُ ... طَاهِرَةٌ زَاكِيَةٌ عِلْمِي

أَكْذِبُ وَاللهِ عَلَى أُمِّهِ ... كَكِذْبِهِ أيضاً عَلى أُمِّي!

وقد رويت هذه الأبيات التائية لأبي سعد المخزومي، ورويت الأبيات الميمية لغير دعبلٍ في أبي تمام. وزعم ابن داود أن محمد بن الحسين حدثه قال: زار الحسن بن وهبٍ وأبو تمام، أبا نهشل بن حميدٍ، فقال أبو تمام وقد جلسوا: أعَضَّكَ اللهُ أَبَا نَهْشَلِ
ثم قال للحسن: أجز، فقال: بِخّدِّ رِيمٍ شَادِنٍ أَكْحَلِ
ثم قال لأبي نهشل: أجز، فقال:

يُطمِعُ في الوصْلِ فإن رُمْتَهُ ... صَارَ مَعَ العَيًّوقِ في مَنْزِلِ

حدثنا ميمون بن هرون قال، حدثني صالح غلام أبي تمام قال: غضب على أبو تمام فكتبت إليه بهذا الشعر، وهو أول شعر قلته قط:

إذَا عاقَبْتَنِي في كلِّ ذَنبٍ ... فما فضْلُ الكرِيمِ عَلَى اللَّئيمِ؟

فإِنْ تكُنِ الحوادِثُ حَرَّكَتْنِي ... فإنَّ الصَّبْرَ يَعْصِفُ بالهُمُوم

فجاءني إلى الموضع الذي كنت فيه فترضاني.
وجدت بخط عبد الله بن المعتز: صار أبو تمام إلى أحمد بن الخصيب في حاجةٍ له أيام الواثق، فأجلسه إلى أن أصابته الشمس، فقال:

تغَافلَ عنَّا أحمدٌ مُتَنَاسِياً ... ذِمَامَ عُهُودِ المدْحِ والشُّكْرِ والحمْدِ

نَمُوتُ مِنَ الحَرِّ المُبَرِّحِ عِنْدَهُ ... وحاجاتُنَا قَدْ مِتْنَ من شِدَّةِ البَرْدِ!

حدثني أبو ذكوان قال، حدثني عمك أحمد بن عبد الله طماس قال: كنت عند عمي إبراهيم بن العباس، فدخل عليه رجل فرفعه حتى جلس إلى جانبه أو قريباً، ثم حادثه إلى أن قال له: يا أبا تمام، ومن بقي ممن يعتصم به ويلجأ إليه؟ فقال: أنت فلا عدمت، قال: وكان إبراهيم تاماً فأنشده:

يَمُدُّ نِجادَ السَّيفِ حَتى كأَنَّهُ ... بأَعْلَى سَنَامَيْ فَالِجٍ يتَطَوَّحُ

وَيُدْلِجُ في حاجَاتِ مَنْ هُو نَائمٌ ... وَيُورِي كَريَماتِ النَّدَى حِينَ يَقْدَح

إذَا اعْتَمَّ بالبُردِ اليَمَانِيِّ خِلْتَهْ ... هِلاَلاً بدَا في جَانِبِ الأُفْقِ يَلْمَحُ

يَزيِدُ عَلَى فَضْلِ الرِّجالِ فَضِيلَةً ... وَيَقْصُرُ عَنْهُ مَدْحُ مَنْ يَتَمَدَّحُ

فقال له: أنت تحسن قائلاً وراوياً ومتمثلاً، فلما خرج تبعته، فقلت: أمل على هذه الأبيات، فقال: هي لأبي الجويرية العبدي يقولها للجنيد بن عبد الرحمن فأخرجتها من شعره.

وفاة أبي تمام ومبلغ سِنِّه

حدثني محمد بن خلفٍ قال، حدثني هرون بن محمد بن عبد الملك قال: لما مات أبو تمام قال الواثق لأبي: قد غمني موت الطائي الشاعر، فقال: طيئ بأجمعها فداء أمير المؤمنين والناس طراً؛ ولو جاز أن يتأخر ميت عن أجله، ثم سمع هذا من أمير المؤمنين لما مات!.
حدثني محمد بن موسى قال: عني الحسن بن وهبٍ بأبي تمام، وكان يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات، فولاه بريد الموصل فأقام بها سنةً، ومات في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ودفن بالموصل.
حدثني عون بن محمد الكندي قال: قرأت على أبي تمام شيئاً من شعره في سنة سبعٍ وعشرين ومائتين، وسمعته يقول: مولدي سنة تسعين ومائةٍ. قال: وأخبرني مخلد الموصلي أن أبا تمام مات بالموصل، في المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
حدثني أبو سليمان النابلسي قال، قال تمام بن أبي تمامٍ: مولد أبي سنة ثمانٍ وثمانين ومائةٍ، ومات في سنة إحدى وثلاثين ومائتين.

مراثي أبي تمام

أنشدني أبو الغوث لأبيه، يرثي أبا تمامٍ ودعبلاً:

قَدْ زَادَ في كلَفيِ وَأَوْقَدَ لَوْعَتي ... مَثْوَى حَبيِبٍ يَوْمَ ماتَ وَدِعْبِلِ

وَبَقَاءُ ضَرْب الخْثَعمِيِّ وَشِبْههِ ... مِنْ كلِّ مُضْطَرِبِ القَريحِةَ مُهْمِلِ

أَهْلُ المعَانِي المستْحَيِلِةِ إنْ هُمُ ... طَلَبُوا البَدَاعَةَ وَالكَلاَمِ المُعْضِلِ

أَخَوَىَّ، لاَ تَزَلِ السَّمَاءُ مُخِيَلةً ... تَغْشَاكُمَا بِحَياً مُقِيمٍ مُسْبِلِ

جَدَث عَلَى الأَهْوَازِ يَبْعُدُ دُونَهُ ... مَسْرَى النَّعِيِّ وَرِمَّةٌ بِالموْصِلِ

ورثاه الحسن بن وهبٍ فقال:

سَقَتْ بالموْصِلِ القَبْرَ الغَريبَا ... سُحَائِبُ يَنْتَحبْنَ لَهُ نَحيبَا

إذَا أَطْلَعْنَهُ أَطْلَقْنَ فيِهِ ... شَعِيبَ المُزْنِ مُنْبَعِقاً شَعِيبَا

وَلَطَّمتِ البُرُوقُ لَهَا خُدُوداً ... وَشَقَّقَتِ الرُّعُودُ لَهَا جُيُوبَا

فإِنّ تُرابَ ذَاكَ الْقَبْرِ يَحْوِي ... حَبيباً كَانَ يُدْعَى ليِ حَبيِبَا

ظَرِيفاً شَاعِراً فَطِناً لَبيِباً ... أَصِيلَ الَّرأْيِ في الْجُلَّى أَرِيبَا

إِذَا شَاهَدْتَه رَوَّاكَ ممَّا ... يَسُرُّكَ رِقَّة مِنْهُ وَطِيبَا

أَبَا تَمَّامٍ الطّائيَّ، إِنَّا ... لَقِينَا بَعْدَكَ العَجَبَ العَجِيبَا

فَقَدْنَا مِنْكَ عِلْقاً لاَ تَرَانَا ... نُصِيبُ لَهُ مَدَى الدُّنْيَا ضَرِيبَا

وَكُنْتَ أَخاً لنَا تُدْنِي إِلَيْنَا ... صَمِيمُ الوُدِّ وَالنَّسَبَ القَرِيبَا

وَكانَتْ مَذْحِجٌ تُطْوَى عَلَيْنَا ... جَمِيعاً ثُمَّ تَنْشُرُنَا شُعُوبَا

فَلَمَّا بِنْتَ نَكَّرَتِ اللّيَالِي ... قَرِيبَ الدَّارِ وَالأَقْصَى الْغَريبَا

وَأبْدَي الدَّهْرُ أَقْبَحَ صَفْحَتَيِهْ ... وَوَجْهاً كالِحاً جَهمْاً قَطُوبَا

فأَحْرِ بأَنْ يَطيبَ المَوْتُ فيهِ ... وَأَحْرِ بِعيشَةٍ ألاَّ تَطِيبَا

وقال علي بن الجهم يرثيه:

غَاضَتْ بدَائِعُ فِطْنَةِ الأَوْهَامِ ... وَعَدَتْ عليْهَا نَكْبَةُ الأيَّامِ

وَغَدَا القَريِضُ ضَئِيلَ شَخْصٍ بَاكِياً ... يَشْكُو رَزيَّتَهُ إلى الأَقْلاَمِ

وَتَأَوَّهَتْ غُرَرُ الَقوَافيِ بَعْدَهُ ... وَرَمَى الزَّمَان صَحِيحَهَا بِسَقَامِ

أَوْدَى مُثَقِّفُهَا وَرَائِضُ صَعْبِهَا ... وَغَديِرُ رَوْضَتهَا أَبُو تَمَّامِ

وأنشدني أبو جعفر المهلبي، وأبو محمد الهدادي، لأحمد بن يحيى البلاذري، يرثي أبا تمامٍ، ويهجو أبا مسلم بن حميدٍ الطوسي:

أَمْسَى حَبْيبٌ رَهْنَ قَبرٍ مُوحِشٍ ... لَمْ تُدْفَعِ الأَقْدَارُ عَنْهُ بِأَيْدِ

لمْ يُنْجِهِ لمَّا تَنَاهَي عُمْرُهُ ... أَدَبٌ، وَلَم يَسْلَمْ بقوةِ كيْدِ

قد كُنتُ أَرْجُو أَنْ تنَالَكَ رْحَمةٌ ... لِكنْ أَخَاف قَرَابةَ ابن حُمَيْدِ!

وقال فيه الحسن بن وهبٍ أيضاً:

فُجِعَ القَريضُ بخاتَمِ الشُّعراءِ ... وغَديرِ رَوْضَتِهَا حَبيبِ الطَّائي

مَاتَا مَعاً فتجاوَرَا في حُفْرَةٍ ... وكذاكَ كاناَ قبلُ في الأَحيَاءِ

وقال محمد بن عبد الملك يرثيه وهو وزير:

نَبَأٌ أَتَى مِنْ أَعظَمِ الأَنْبَاءِ ... لَمَّا أَلَمَّ مُقَلْقِلُ الأَحشَاءِ

قاَلُوا: حَبيبٌ قد ثَوَى، فأَجبْتُهُمْ: ... نَاشَدْتُكُمْ لاَ تَجْعَلُوهُ الطّائيِ

وقال أيضاً:

ألاَ للهِ مَا جَنَتِ الخُطُوبُ ... تُخُرِّمَ مِنْ أَحِبَّتِنَا حَبِيبُ

فَماتَ الشِّعْرُ مِنْ بَعْدِ ابنِ أَوْسٍ ... فَلاَ أَدَبٌ يُحَسُّ وَلاَ أَديِبُ

وكُنْتَ ضَرِيبَ وَحْدِكَ يا ابنَ أَوْسٍ ... وَهَذا النَّاسُ أخلاقٌ ضُروبُ

لِئنْ قَطَعَتْكَ قَاطِعَةُ المنَايَا ... لَمِنْكَ وَفيكَ قطِّعتِ القُلوبُ

وقال عبد الله بن أبي الشيص:

أَصْبَحَ في ضَنْكٍ منَ الأَرْضِ ... أكثَرُ في الأرضِ منَ الأرْضِ

مَنْ عَرْضُ ذِكْرَاهُ وَمَنْ طُولهُا ... كالأرْضِ ذَاتِ الطُّوِل وَالعَرْضِ

أَكْرِمْ بِمَلْحُودٍ يُدَانَي إلى ... وَجْهِكَ يا ابْنَ الْكَرمِ المحْضِ

مَا في حَبيبٍ لي، ابنَ أوْسٍ، أُسىً ... يَجْمَعُ بَينَ الجَفْن والغُمْضِ

حارَ ذَوُو الآدَابِ إذْ فَوجِئُوا ... منْهُ بَيْومٍ غَيْرِ مُبْيَضِّ

طَوْدٌ مِنَ الشِّعْرِ دَعَا بَعْضُهُ ... بَعْضاً، فَهْدَّ البَعْضُ بالبَعْضِ

بَحْرٌ مِنَ الشِّعْرِ لَهُ جَائِشٌ ... مُلْتَطِمٌ بالُّلؤْلُؤِ الْبَضِّ

كأنما الشِّعْرٌ شِعَارٌ لَهُ ... أَوْ وَرَقٌ في غُصُنٍ غَضِّ

لما أَتَمَّ اللهُ فِيكَ الذيِ ... أَمَّلتَ مِنْ بَسْطٍ وَمنْ قَبْضِ

رَمَاكَ رَامٍ لِلمْنَاَيَا وَمَا ... آذَنَ عِنْدَ. الرَّمْىِ بِالنَّبْضِ

لَوْ كانَ لِلشِّعْرِ عُيُونٌ بَكَتْ ... لِكَوْكَبٍ لِلشِّعْرِ مُنْقَضِّ

وقال، ووجدته بخط ابن مهرويه:

يا حُفْرَةَ الطّائيِّ، أَيَّ امْرِئٍ ... أَثْوَيْتِ مِنْهُ في ثَرَى الرَّمْسِ!

شِعَارُهُ أَنتِ وَلَمْ تَشْعُرِي ... بِأَنّهُ أَشعَرُ ذِي نَفْسِ

كَمْ بَيْنَ أَثْنَائكِ منْ حِكْمَةٍ ... كانتْ شِفَاءَ النَّفْسِ بِالأَمْسِ!




المصدر: الموسوعة الشعرية- ديوان العرب

(انتهى)

تحيتي

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)