عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
2

المشاهدات
20068
 
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي


ماجد جابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
3,699

+التقييم
0.77

تاريخ التسجيل
Feb 2011

الاقامة

رقم العضوية
9742
09-27-2014, 11:07 PM
المشاركة 1
09-27-2014, 11:07 PM
المشاركة 1
افتراضي تحليل رواية "نساء بلا ذاكرة" للقاصة هدى درويش، بقلم الناقد: عبد المجيد جابر
العنوان: " نساء بلا ذاكرة "
نساء: خبر مرفوع لمبتدأ محذوف تقديره "هنّ" وشبه الجملة "بلا ذاكرة" في محل رفع صفة، ففي العنوان انزياح بالحذف.
نعود لتفحص معنى العنوان و"يمثل العنوان العبارة المفتاحية للنص، مهما كان النوع الأدبي، سواء كان قصة أو شعراً أو رواية أو مقالة، فالعنوان هو أول ما يفاجئ القارئ، وعليه فإما أن يجذب القارئ أو يبعده، أو يبقيه على الحياد مع نص قد يكون غنياً أو عادياً، إضافة لما في العنوان من دلالات معرفية ذات أبعاد مختلفة الأطياف، تكشف عن ثقافة صاحب النص، وغوصه في المكنون الفكري الذي يستلهمه أو يعيشه أو ينتظره، من الماضي والمعاش إلى الحالة المستقبلية، لذا أولى النقاد مسألة العنوان أهمية كبرى، وكانت له مكانته في الدراسات النقدية النصية(1).
والنساء في اللغة: جمع امرأَة من غير لفظه .(المعجم: المعجم الوسيط)، وذكرت القاصة "نساء" وهو اسم نكرة تفيد العموم والشمول، ولقد اتكأت القاصة في موضوعها على تجاربها الشخصية، متناولة، قضية المرأة في الجزائر خاصة وفي الوطن العربي عامة، متغلغلة في خبايا النفس البشرية وسلوكها وأهوائها، وعلى تجارب الآخرين: متناولة المجتمع بالنقد والتحليل، واستندت على ثقافتها متناولة موضوعات فكرية وفلسفية، وفي العنوان تناص يتقاطع من اسم قصيدة لغادة السمان بعنوان "عاشقة في مدن بلا ذاكرة" وعند استعادة المرأة لذاكرتها -أي لتاريخها وما حوى من أحداث- نعتمد في المقام الأول على سلاسل طويلة من العلاجات النفسية والدروس والمحاضرات والحكايات، وقد لا تنجح، فالفعل متغلغل في اللاشعور.
أجزاء الرواية:
والرواية تتضمن ثلاثة أجزاء
الأول: نصف حياة.
ويتضمن معاناة وهيبة بطلة القصة مع زوجها عبد القادر وقهره لها، وموته، وحبها الأول لسليم وسفرة والتقائها به صدفة في سوسة وزيارتها هناك لصديقتها حياة ومعايشتها لطلاق صديقتها من زوجها منصف.
الثاني بعنوان "قيثارة الحب".
وفيه تلتقي وهيبة بمن أحبت وهي صديقتها أوديت في باريس، وتشهد رحيل خالد عن باريس للجزائر، وهي من أحبته بصدق في شبابها، وحصول حادث سير ماتت على إثره أوديت وأصيبت فيه وهيبة، وتلتقي وهيبة بزياد الذي أحبها وأحبته بصدق، حيث يرافقها في المستشفى قبل أن تتعرف عليه، وتحس بحبها له في باريس، ويركز هذا الجزء على كيّ شعور المرأة، وأن الأهوال والأحداث تجعلها تعيش في اللاشعور، وقسوة معاملة المرأة تجعلها تعيش فاقدة للذاكرة.
الثالث: حكاية روز:
تتقصى وهيبة ظروف روز لتتعرف على عالمها الخاص، وفيه تتم زيارتها، وتستغل وهيبة حصول حادث سير لروز، وتسرع لمرافقتها والعناية بها في المستشفى، وتكسب ثقتها في نهاية المطاف، فكان لديها رغبة لتقصي أخبارها والكتابة عتها، وتدرك أن هذه المرأة الفنانة قد قاست الويلات في طفولتها، فبينهما وجه شبه كبير، حيث عانت روز اليتم وعاشت في كنف عمها، وبعفويتها تعجب بأستاذها الجامعي ويفض بكارتها ويهرب عنها، وتحمل منه بعد أن وثقت به، وتعاني من جراء ذلك الكثير الكثير، فتصبح سهلة الصيد لرواد الشوارع والبارات والحانات، وتترك طفلها عند عجوز، وبعد سنين من عبث العابثين بمشاعرها وكرامتها، تحاول الرجوع لوليدها الذي كبر ودعاها للعودة إليه وأنه سيسامح لها فعلتها،...تعود لتجد أن العجوز التي ربّته قد ماتت، وأن الغلام بعدها قد انتحر، فتفقد روز رشدها وتعيش بلا ذاكرة.
وفي مستهل الرواية تهدي القاصة عملها قائلة:
_ إلى كلّ امرأة أوجدتها الحياة بين حكايات القدر وحملتها موجات الأيام تائهةً بين المرافئ...
من يومها وأنا على مكتبي أحاورُ الورق؛ لأجلي
لأجلها...لأجلكِ...لأجل كل أنثى لم تولد بعد...
من يومها و كل بهجة من بين ضلوعنا ترحل...
إلى كل من تذكرهم هذه الرواية بصفات إيحائية...
إلى العذبة "ماريا دال بيلار" التي أهدتْ كتاباتي صورة بلا ذاكرة...
واقع الرواية:
وتصنّف رواية: " نساء بلا ذاكرة " ضمن الروايات الواقعية، فهي تستمدّ أحداثها وشخصياتها من الواقع، فهي تنقل بصورة درامية أحداثاً قد تحدث ويتقبَّلها العقل على أرض الواقع، وتعتبر هذا الرواية رصداً اجتماعيا شيقاً لبعض جوانب اجتماعية في الجزائر خاصة والوطن العربي عامة، وتحاول القاصة إلقاء الضوء عليها ووضع حلول لها من خلال تفاعل شخصيات الرواية مع بعضها البعض، ومن مميزات روايتنا هذه: سهولة الرصد الدرامي للحدث الاجتماعي داخل الرواية، وقربها الشديد من الواقع حيث يلمس القارئ بعض الأحداث التي من الممكن جدا أن تكون قد حدثت معه، وهي تصف ظواهر اجتماعية متشابه إلى حد كبير مع الواقع الذي نعيشه.
والآن وقفة مع عناصر الرواية، وأهمها:
1- الشخوص:
هي التي تشكل بتفاعلها ملامح الرواية, وتتكوَّن بها الأحداثُ, لذا فعلى الروائيّ أن ينتقيَ شخوصَ روايته بحكمة بحيث يجعل الشخصية المناسبة في المكان المناسب و "تعد الشخصية عنصرا أساسيا في بناء الرواية، فهي تعبر عن دور الإنسان في الحياة، فلا يمكننا أن نفهم منظومة الكون والحياة والطبيعة إلا من خلال رؤية الإنسان و ذات الإنسان"(2)
ويمكن تقسيم الشخصيات من حيث الدور الذي تقوم به إلى:
شخصيات رئيسة:
و"قد ألف النقاد أن يطلقوا على هذه الشخصية مصطلح "البطل" ويعنون به الشخصية الفنية التي يسند القاص إليها الدور الرئيسي في عمله القصصي، ويعني أحمد منور بشخصية البطل، الشخصية الفنية التي تستحوذ على اهتمام القاص، وتمثل المكانة الرئيسية في القصة، وقد تكون سلبية، كما تكون إيجابية، أو متذبذبة بين هذه القصة وتلك، قد تكون محبوبة، أو منبوذة من طرف القارئ، المهم أنها تمثل المحور الرئيسي في القصة والقطب الذي يجذب إليه كل العناصر الأخرى ويؤثر فيها(3).
والشخصية الرئيسة قد تكون واضحة يمكن معرفتها بسرعة كما في روايتنا هذه كشخصية وهيبة، وقد تكون صعبة التمييز, وفي هذه الحالة تحظى بالمركزية الشخصية المؤثرة على باقي الشخصيات.
ومن الشخصيات الرئيسة في الرواية:
وهيبة، وعبد القادر زوجها، وحياة صديقة وهيبة وروز وإيديت وزياد.
وتمثل الشخصيات الرئيسة:
شخصية وهيبة:
تمثل المرأة المتعلمة الممتهنة كرامتها من الرجل، مجروحة الجوانح من رجل مستبدّ، يعاملها بأسلوب الاحتقار والإهمال، وجاء في الرواية: "فكم من شخص في حياتها يا ترى حضر مواقفها المريبة مع عبد القادر... لم يعطها يوما قيمة الزوجة، ومن هذه المرأة التي مهما كانت صبورة ترضى على نفسها ألا يشاركها زوجها أيّ قرار؟ ومن المرأة التي تعايش تجارب الخيانة ودلائلها كل يوم وتسكت؟ ومن الأنثى التي ترضى في حقها الإهانات الجارحة والمفردات المتطايرة غير اللائقة في التجريح المتعمّد والإذلال؟ كل هذا تحملته وهيبة لا لشيء سوى لأنها تتحمل نتائج الزواج المدبّر بين اثنين من أشرف العائلات الوهرانية وأشهرها على الإطلاق ... من تلك الأنثى التي تكتم داخلها صرخة الضياع ولا تتكلم إلا بصمتها المنشود أمام كدمات وجهها اليومية التي تصارعها بأفتح ألوان الكريمات والماكياج ؟ لا لشيء سوى لأن محافظة العائلات بعضها خصوصا في مجتمع التسعينيات الجزائري الذي يكون فيه آخر يوم رسميّ للمرأة في بيت أهلها هو يوم زفافها ولا تعود له بعد ذلك سوى زائرة خفيفة الظل غالبا وبرفقة زوجها"
وتقول وهيبة ترثي نفسها من زوجها المستبد:
"...دخلتُ مكتب زوجي لأول مرة، وكم هذا غريب! لم أكن أدخله إلا لتنظيفه أو لترتيبه تحت نظرات عبد القادر الساحقة، التي جرّدتني من أنوثتي ومن ثقافتي وجعلتني راضية بأن أحاصر نفسي في صورة المرأة العادية جدا, بل في صورة خادمة ما لها من خيار سوى طاعة الأوامر وتنفيذها ... فمصيبتي الأولى أنني ارتبطتُ به وغيّرتُ نفسي، وأعترف بأنني كنت ضعيفة جدا، واستسلمتُ لقدري معه ...ومصيبتي الثانية، أنه اليوم قرّر السفر بعيدا عني وتركني تائهة في نمط حياة اعتدتُ عليه، ولكنني لم أقتنع به يوما، وبذلك كان همي ّالوحيد هو البحث عن الحرية, الحلم الكامل الذي لم أظفر به يوما في وجوده".
وتستمر في بكاء حالها:
"... وسوف اكتب ... لم يترك لي عبد القادر في حياتي شيئًا سوى الكتابة أو لقب أرملة الكولونيل، الذي كان يزن وزنًا كبيرا تلك الأيام في الجزائر, تركتُ بلادي تشتعل ووهران شاحبة مليئة بالخوف، تركتها آملة لحظة الخروج منها أن أعود إليها أو لا أعود، و أنْ اسمع عنها على الأقّل أنّها أصبحتْ بخير".
وتسرد حكايتها غير مأسوفة على زوجها:
"شعري متناثر على كتفي بألوانه البنية اللامعة تحت شفق الانتظار، تداعبني نسمات البحر ونغمات الحنين، بينما كنت أستحضر مدينة سلبني فيها عبد القادر عذريتي وكرامتي, وضع يده على معطفي".
قصة الحب الأول لوهيبة:
وهذه تبين مزاجية الرجل الذي يبدي حبه ويتخلى عنه بسهولة من أجل المال والسفر للخارج، فتقول:
"وماذا عني, هل عودة سليم لي تحمل في طياتها نبل الحنين ...؟ ولكن ما الذي يجعل رجلا يفي لهذا الحب المضمحل وسط شقراوات بروكسل وستراسبورغ ...؟ لقد عاد إلي متزوجا طالبا مني الرجوع، والحل بسيط جدا سوف يتخلى عنها مقابل ذلك ...فكرتُ مليّا بقلبي فوافق... بأنوثتي فوافقتْ... بروحي التي ما زالت تحتفظ بجراح عبد القادر فوافقتْ أن أعود لحب مضى ليمحو كل الآثار والآلام، ولكنني عندما فكرّتُ بعقلي و مبدئي كلاهما رفض... كيف أرضى لامرأة أن يكون مصيرها كمصيري تمام.
ندب وهيبة حظها خاصة وحظ المرأة الجزائرية عامة، وهي تمثل مأساة المرأة كما في الجزء الثاني وهي قي المستشفى: "الكلّ في هذه الحياة في عناية مركزة، ليس لأحد أن ْيدّعي أنّه بخير ... لكلّ منّا عُقَدٌ وعقبات وأفراح ونزوات ودمع وابتسامات هكذا علمتني الحياة"
شخصية أم وهيبة:
وهي امرأة مثلها تماما (مثل وهيبة) عايشتْ أقدارا مدبرّة ومرسومة من طرف أناس آخرين، حيث ربّاها عمها وزوجته التي من كثر ما ذاقت بها ذرعا لم تتردد في التأثير على زوجها بأن يُزوّجها أول خاطب يدق الباب, فهل لها أن تفهم.."
تخشى دوما على ابنتها من الطلاق ويمثل ذلك قولها مخاطبة:
"ما قلتلكش_ بعيد الشر_ تعرفين وردة بنت الجيران ...تطلقّتْ من زوجها البارحة ..."
وقول أم وهيبة لابنتها ناصحة لها بأن تبقى زوجة لوحش مستبد خير لها من الطلاق- وكأن الطلاق مصيبة كبيرة لا تُغتفر في المجتمع الجزتئري:
_ "الحمد لله لا ينقصك شيء في بيتك لأذهب أنا الآن".
شخصية عبد القدر:
تمثل شخصية الزوج الأناني المستبد والجنرال الجزائري بعقليته العسكرية في بيته، الذي لا يراعي مشاعر المرأة ولا مشاعر أهلها، لا يعرف احترامها ولا يسلك مسلك اللين معها، سلاحه إيذاء الروح والجسد، ودليل ذلك قول وهيبة فيه حتى بعد موته:
"حيرّني وجوده ودوخّني غيابه، شكّكني في انتمائي وفي نوايا نفسي المقهورة ... وشّككني في كل من حولي بقسوته ومرارة العيش معه, وها هو اليوم شبحه يطاردني في حضرة الغياب، ويواصل تحويلي إلى إنسانة أخرى... ما عدت أعرفها... ما أصعب جنس الرجال! إنْ أحببناهم تحوّلوا، واِنْ كرهناهم تحوّلنا وانصهرتْ ذواتنا في قالب غريب الشكل والمحتوى ..."
شخصية حياة صديقة وهيبة:
تمثل شخصية المرأة المتعلمة التي أحبت بصدق وتزوجت من منصف، لتكتشف بعد ذلك خياناته، وتقول وهيبة واصفة حال صديقتها حياة:
"انفصلت صديقتي عن منصف بعد مدة من الخيانة المستترة تحت غطاء الأعمال والأسفار ...قصة حياة عقَّدتني لا لشيء إلا لأني أصبحت لا أثق بأحد ...كيف لمنصف ذلك الملاك الراقي أن يفعل كل هذا بها بعد قصة حب دامت عشر سنين ... أ ليس ذلك غريبا".
شخصية اوديت: مارونية رائعة بريئة وعفوية وصادقة، ولا تعترف بالفوارق بين الأديان، تعيش بجمال روحها الشفاف ولنستمع لوصف وهيبة لها:
"كم أحببتها وهي التي حققّت نجاحا في الوصول إلى وجداني في وقت قياسي صغير ...لبراءتها؛ لعفويتها, لصدقها؛ لمحبتها التي زادتني اقتناعا أن المحبة لا تعترف بالأديان, مارونية كانت أوديت، ورائعة وتوأما للوجدان أصبحتْ, رغم أنني قضيتُ سنين في الجزائر أبحث عن أصدقاء من ديني ومن وطني، وشاء الله أن يجمعني وإياها بمحبته رغم اختلاف طقوسنا في عبادته، واختلاف دعواتنا وأماكن صلواتنا ...هي أيضا كانت تعيش بجمال روحها الشفافة كالشمس, تقضي مساءات الأحد في الكنيسة دائما... كنت إذا تعبتُ من همي ومن سقمي عجّلتْ لأجلي في الصلاة، في مكان روحه عذبة، يجوز لمسلمة مثلي أن تقضي فيه صلاتها..." ولقد ماتت في حادث سير في باريس لتترك وهيبة وحيدة تصارع الأقدار.
شخصية خالد:
يمثل حالة العربي الذي ملّ الغربة وكره عادات الغرب وفضّل الرجوع إلى وطنه، والذي يضحّى بالحب وبريق المال من أجل الوطن.
شخصية زياد:
تمثل حالة من ينتمي للسلك الدبلوماسي الجزائري، وأحد أهم كوادر السفارة الجزائرية بباريس، والإنسان في رجوليته وصدقه وعذوبة منطقه وأحاسيسه.
وتصف وهيبة خصاله:
لم يكن زيادا شاعرا ولا بوهميا كما هي طبيعتي، لكنه كان أميرا جعلته خصاله حلم كل امرأة، وشهامته التي تجعلني أحب فيه نقائضه وغرابته أحيانا ... صمته وبوحه وعزفه وطريقة غضبه.
شخصية روز:
تمثل المرأة المتعلمة التي خدعها الرجل قبل زواجها، وتركها حاملة لتعاني هي وطفلها من الأهل والمجتمع الأمرين، وتصفها وهيبة عندما أرادت التعرف عليها بأنها سيدة متوسطة العمر, راقية اللباس, باريسية المظهر تقف وعيناها في الأسفل، وعندما فقدت ذاكرتها لهول ما حاق بها من المجتمع والرجل، بأنها كانت تسكن في المبنى المقابل لوهيبة ينطلق صوت البيانو كل ليلة في غرفتها... لا تشتعل الأضواء سوى لحظات العزف، لتطفئ من جديد إذ عاد الهدوء إليها, عزف بأنامل الحزن لا بأنامل الآلة, فيه شيء من رائحة الأنثى ... وتصف وهيبة حالتها في غرفتها: "لا أدري كيف اكتشفتُ أنّ التي تعزف امرأة, هل من ذاكرة لديها يا ترى وهل من حكاية...؟ وتخرج بعد ساعات إلى شرفتها, تحضر لوازم الرسم, تضع شيئا من السيمفونيات الايطالية الغريبة وتبدأ في الرسم دون انقطاع".
وتصف وهيبة حال روز قي موضع آخر من القصة:
"دقائق مرّت لينطلق صوت الفيولون, سيمفونية تشبه ما كنتُ أعزفه ارتجالا, بدأتُ أسمع دقاته... ذلك اللحن لا تطرب له سوى أذن من ذاق طعم الهزيمة، ولا تأنس له سوى روح من بللّه مطر الضياع، وهو يمشي وحيدا في طرقات المجهول ليلا... ما عجبتُ له هو أنها كانتْ تعزف بنفس الأنفاس ونفس الشذوذ أحيانا... ذكرتني بما كان قبل إطلالة قدري الجديد. كل ذلك الضجيج أصبح هدوءا لا يضاهى من حولي"
والمجتمع لا يرحم ولا يحسّ بمن يصدمه ويدمّر روحه، وعندما تسأل وهيبة الفتى البائع عن شخصية روز يضحك بسخرية, قائلا:
_" لا عليك سيدتي ... هذه امرأة معقدة لا تكلّم أحدا..."
ويضيف الفتى البائع ردا عن سؤال وهيبة له:
"تسكن في المبنى المجاور, وهي سيدة فرانكو جزائرية مترّفعة لا أحد يعرف حقيقتها في الحي.
ورأي الناس فيها كما تقول وهيبة: عندما سألتُ أكثر عنها قيل لي أنها روكية جزائرية ...كانت لها ليالٍ حمراء بباريس ...بكباريهاتها وباراتها, كانت إذا خرجتْ ولو لقضاء حاجياتها تغامز عليها كلّ من مرّت بهم ... حتى بعض الجارات مُنِعْنَ من التسليم عليها من طرف أزواجهن؛ لأنها امرأة مشبوهة ...
ولكن قلة قليلة من المجتمع الجزائري من يعذر المرأة التي أفقدها الرجل ذاكرتها، كوهيبة وزياد، ويقول زياد لوهيبة متوقعا حالة روز قبل أن يتعرفا على حقيقتها:
"أنا أقول عنها باختصار، هي سيّدة مجروحة ولا شيء غير عمق الجراح يجعلنا نهرب من الناس كثيرا، ويجعل بعضهم أو كلّهم يهرب من همومنا أيضا ويرفض حتى أن يجالسنا ... "
شخصيات ثانوية.
والشخصيات الثانوية، هي كالعامل المساعد في التفاعل وربط الأحداث ببعضها أو إكمالها, وهذا لا يعنى أنها غير مؤثرة, بل هي مؤثرة لكنها غير مصيرية، وهي في الرواية:
سائق سيارة وهيبة وزوجها، وحارس العمارة التي تقطنها وهيبة مع زوجها عبد القادر، وأم وهيبة، والنساء المعزِّيات في مقتل عبد القادر وقريباته، وصديقتها حياة وزوجها منصف في عنابة، وأم حياة، وسليم الذي أحبته وهيبة قي شبابها، ويظهر في الرواية شخوص كنابليون وجون دارك والملك شارل، يديت بياف ، وايف مونتون، خالد من أحبته وهيبة والذي فضّل الرجوع للوطن على الغربة، وخوليو المطرب، واغليسياس الموسيقار، ودكتور جزائري حاذق عالج وهيبة في فرنسا، والمرأة الشقراء التي دقّت باب زياد ليلا والتي كانت عشيقة له وأصبحت بلا ذاكرة، وأمّ روز ووالدها وعمها، وأستاذها، وزوجة عمها، وأبناء حارتها، وبنات عمها، والممرض في المستشفى الذي أقامت فيه روز، والطبيب الشاب الذي كشف حمل روز، والمرأة القوادة التي حاولت تشغيل روز، وطفل روز، والعجوز التي احتضنت الطفل، وشبكة الدعارة في فرنسا ومرسيليا التي لاحقت روز.
ولقد أجادت الروائيّةُ اصطفاء الشخصيات الملائمة بالصفات المناسبة للأحداث فكانت بدايته موفقة بوضعها الأساس الأول الذي ستجري عليه الأسس الأخرى.
2- الزمن:
ويتجلّى الزمن في العصر الحديث، ويظهر ذلك في هذه الأيام، حيث الفقر يغزو غالبة الناس في الجزائر، والتفاوت الطبقي نتيجة للثروة النفطية، ويظهر الزمن جليا واضحا في الرواية في الستينات وما بعدها من القرن المنصرم، وزمن سطوة العشكر، وتظهر فيها المساءات، حيث مساءات وهيبة، فتقول:
"غريبة هي مساءاتي برونقها غير المفهوم وبعواطفها غير المرتبة ...هي مساءات كليالي العشاق، مضمحلة كضوء قمر خافت من طول السهر"
ويظهر الزمن في حديث روز عن نفسها وعن حالها في المهد وعن طفولتها المعذبة، وهي في سن السابعة عشر:
كنت صغيرة مغامرة يتيمة تتجول كل مساء في أزقة الأبيار بالعاصمة، باحثة عن لعبة ملقاة تصلح لأن أتسلى بها، لا أذكر وجه أبي؛ لأنه مات وأنا في المهد بلا ذاكرة... أما أمي فأذكر من ملامحها شيئا من القهر والتعب, أستحضرها مع كل صورة لها, ترعرعت ونشأت في بيت عمي ولم أسلم يوما من لسانه ولا من يده ...عشت ُفي جو من الخوف والإهانات.... لم اذكر يوما أنني دخلتُ مطعما فاخرا كباقي صديقاتي بالثانوية ...لم اذكر أنني لبستُ فستاناً جديدا يوم العيد، ولا أن أحدا ذكرني ليلة عيد ميلادي ولو بزهرة, كنتُ طالبة بقسم آداب ولغات ...كنتُ أحب الرسم كثيرا، ولا أغادر فضاء المكتبة أيضا... لا لأنة لم يكن لدي بيت فحسب، بل لأنني من وحدتي عشقتُ شيئا من الفن وأنا في السابعة عشر من عمري ... أذكر أنني بدأتُ أقرأ ورقا غير الجريدة وغير لوازمي المدرسية, بدأتُ أقرأ الروايات والحكايات، وحينها علَّمتني الحلم، فبدأت أحلم دون انقطاع، وألهث وراء الحرية.
ويظهر الزمن جليا في قول روز:
"لم أحسُّ بالسعادة قط منذ تلك الأيام, منذ حوالي ربع قرن من الزمن ... غريبة هي لحظات الحب قبل أن تسلبها نشوتها الجراح".
وقد ركّزت الكاتبة على تقنية الاسترجاع، والاسترجاع هو ذكر أحداث وقعت سابقا, وقد يكون داخليا يتمثل في الرجوع إلى أحداث ذكرت في الرواية, أو خارجيا يكون بالرجوع إلى أحداث وقعت خارج المتن الروائي، ومثاله في روايتنا كما جاء على لسان وهيبة قولها: "من الغريب أننيّ لم أصحُ من تلك المتاهة الضبابية إلى يومنا هذا, أما عبد القادر، فقد زاد ذلك الضباب عتمة ًورحل ... كلاهما رحل وتركاني في هذا الطقس الغريب لا أدري من أنا ومن أكون".
ويظهر الزمن في حديث روز:
فكّرت ُأنّه من الأفضل له أن يكون بلا ذاكرة (للطفل) على أن يكون له ذكرى تكشف أن أمه امرأة مثلي، ومن ثمة لم يكن في حياتي سوى الروك والسهر وبعض الحبوب المهلوسة... إلى أن شاهدت نفس العجوز ذات يوم في حصة تلفزيونية لفائدة المفقودين, أذكر أنني عانقت التلفاز بنظراتي وبكل دقة لأرى وأتأكد من ملامحها التي لم تتغير, فقط شاخت عليها خمس عشرة سنة. كما تظهر ليالي فترة ضياعها: "عندما سألتُ أكثر عنها قيل لي أنها روكية جزائرية ...كانت لها ليالٍ حمراء بباريس ...بكباريهاتها وباراتها.."
وترجع وهيبة للزمن المنصرم، وهي زوجة مع عبد القادر واصفة غضبه وأنانيته:
"كم أصبح البيت في غيابه واسعا ...يا الهي...! أستطيع التنفس, كيف لا وقد كان يقاسمني هواء هذا البيت، ويستهلك نصف الأكسجين الموجود فيه في مواقف الغضب والتعنت ..."
ويظهر الزمن في مدة الزواج بين كل من منصف وحياة"
" كيف لمنصف ذلك الملاك الراقي أن يفعل كل هذا بها بعد قصة حب دامت عشر سنين ... أليس ذلك غريبا".
وعادة يلجأ الروائيون إلى استخدام الاسترجاع أكثر من الاستباق, لأنهم بالاسترجاع يربطون الأحداث أو يكملون الوقائع, أما الاستباق فمن شأنه أن يفقد السرد عنصر الإثارة والتشويق, فذكر ما سيكون يُكَوِّنُ صورة عامة في ذهن القارئ عن الأحداث اللاحقة، الأمر الذي يجعل القارئ يعزف عن إكمال القراءة, فطبيعة الإنسان أن يترك قراءة ما يعلمه سابقا أو يعرض عما يتوقعه لاحقا. هذا بالنسبة للزمان في الرواية وما يتعلق به..كما في قول وهيبة تتحدث مع ذاتها:
وكما في قولها في صديقتها أوديت بعد مقتلها:
"كم أنت معجزة أيها القدر, أخذتَ مني صديقة قرأت اسمها على لوح قبرها وكأنني أنطقه لأول مرة, تراها ماتت بلا ذاكرة هي الأخرى، حيث لم يسأل عن غيابها أحد غير امرأة مثلي لم تذكر منها حتى بريق عينيها المنطفئ،. ماتت ككثيرات من النساء دون ذاكرة، وأصبحت في المغيب ذاكرة من العدم، وذكرى بلا معنى قابعة في جوف فارغ كجوفي".

يتبع