عرض مشاركة واحدة
قديم 09-12-2012, 12:50 AM
المشاركة 7
سعاد البدري
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
القول في الاستعارة المفيدة:

اعلم أنّ الاستعارة في الحقيقة هي هذا

الضرب دون الأول، وهي أمَدُّ ميداناً، وأشدُّ افتناناً،

وأكثر جرياناً، وأعجب حسناً وإحساناً، وأوسعُ سعَةً

وأبعد غَوْراً، وأذهبُ نَجْداً في الصِّناعة وغَوْراً،

من أن تُجمعَ شُعَبها وشُعُوبها، وتُحصَر فنونها وضروبها،

نعم، وأسحَرُ سِحْراً، وأملأ بكل ما يملأ صَدْراً،

ويُمتع عقلاً، ويُؤْنِس نفساً، ويوفر أُنْساً،

وأهدَى إلى أن تُهدِي إليك أبداً عَذَارَى قد تُخُيِّرَ لها الجمال،

وعُنِيَ بها الكمال وأن تُخرج لك من بَحْرها جواهرَ إن

باهَتْها الجواهرُ مَدَّت في الشرف والفضيلة باعاً لا يقصرُ،

وأبدت من الأوصاف الجليلة محاسنَ لا تُنكَر،

وردَّت تلك بصُفرة الخجل، ووَكَلتها إلى نِسْبتها من الحَجَر

وأن تُثير من مَعْدِنها تِبْراً لم ترَ مثلَه، ثم تصوغ فيها

صياغاتٍ تُعطّل الحُلِيَّ، وتُريك الحَلْيَ الحقيقي وأن تأتيك

على الجُملة بعقائل يأْنس إليها الدين والدنيا،

وفضائل لها من الشرف الرُّتْبة العليا، وهي أجلُّ من

أن تأتيَ الصفةُ على حقيقة حالها، وتستوفيَ جملةَ جمالها،

ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تُبرز هذا البيان أبداً

في صورة مُستجَدَّةٍ تزيد قَدرَه نُبْلاً، وتوجب له

بعد الفضلِ فضلاً، وإنَّكَ لَتِجِدُ اللفظة الواحدة قد

اكتسبتَ بها فوائد حتى تراها مكرّرة في مواضعَ،

ولها في كل واحد من تلك المواضع شأنٌ مفردٌ،

وشرفٌ منفردٌ، وفضيلةٌ مرموقة، وخِلاَبةٌ موموقة،

ومن خصائصها التي تُذكرَ بها، وهي عنوان مناقبها،

أنَّها تُعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ،

حتى تُخرجَ من الصدَفة الواحدة عِدّةً من الدُّرَر،

وتَجْنِيَ من الغُصْن الواحد أنواعاً من الثَّمر،

وإذا تأمَّلتَ أقسام الصَّنعة التي بها يكون الكلام

في حَدَّ البلاغة، ومعها يستحِق وصفَ البراعة،

وجدتَها تفتقر إلى أن تُعيرها حُلاها، وتَقصُرُ عن

أن تُنازعها مداها وصادفتها نجوماً هي بدرها،

ورَوضاً هي زَهْرها، وعرائسَ ما لم تُعِرْها حَلْيها

فهي عواطل، وكواعبَ ما لم تُحَسِّنها فليس لها في

الحسن حظٌّ كامل، فإنك لترى بها الجمادَ حيّاً ناطقاً،

والأعجمَ فصيحاً، والأجسامَ الخُرسَ مُبينةً،

والمعاني الخفيّةَ باديةً جليّةً، وإذا نظرتَ في أمر

المقاييس وجدتَها ولا ناصر لها أعزُّ منها،

ولا رَوْنَق لها ما لم تَزِنْها، وتجدُ التشبيهات على الجملة

غير مُعْجِبَةٍ ما لم تكُنْها، إن شئت أرتك المعانيَ اللطيفةَ

التي هي من خبايا العقل، كأنها قد جُسِّمت حتى

رأتها العيون، وإن شئتَ لطَّفتِ الأوصاف الجسمانية

حتى تعود رُوحانية لا تنالها إلاّ الظنون،

وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها، وإنما ينجلي

الغرض منها ويَبين، إذا تُكُلِّم على هذه التفاصيل،

وأُفرِدَ كُلُّ فن بالتمثيل، وسترى ذلك إن شاء اللّه،

وإليه الرغبة في أن تُوفَّق للبلوغ إليه والتُوَفُّر عليه،

وإذ قد عرَّفتكُ أن لها هذا المجال الفسيحَ،

والشَّأوَ البعيد، فإني أضَعُ لك فصلاً، بعد فَصلٍ،

وأجتهد بقدر الطاقة في الكَشف والبحث.


يُتبع