عرض مشاركة واحدة
قديم 10-20-2013, 03:28 PM
المشاركة 10
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع،،
بصرف النظر عن الحرب وحفظ النظام الداخلي، تحقق الدولة الآن بعض المهام الإيجابية، ولا يزال هناك مهام إيجابية أخرى يفترض بالدولة أن تحققها.

يمكن أن تضع بخصوص هذه الواجبات الإيجابية مبدأين أساسيين:

أولا: هناك مسائل تتعلق برفاهية المجتمع بأكمله وعليها يتوقف حصول كل مواطن على حد أدنى، ويحق للدولة في حالات كهذه أن تلح على تحقيق ذلك الحد.

ثانيا: هناك مناسبات يجب أن تلح الدولة فيها على حفظ النظام. ولكنها إن لم تفعل أكثر من ذلك، لسهلت وقوع مظالم مختلفة من الممكن تجنبها بالسماح لضحايا تلك المظالم بالتعبير عن غضبهم. يجب أن تمنع الدولة قدر المستطاع وقوع مثل هذه المظالم.

إن أبرز مثال عن الشيء الذي تتوقف فيه الراحة العامة على حد أدنى عمومي هو النظافة العامة وحجب الأمراض المعدية. إذا أهملت حالة واحدة من مرض الطاعون، فقد تسبب كارثة للمجتمع بأكمله. لا أحد يدعي بجدية أن إنسانا مصابا بالطاعون يجب، بناء على متطلبات الحرية، أن يبقى حرا يزرع وباءه طولا وعرضا. تنطبق هذه الاعتبارات نفسها على استصلاح الأراضي وعلى انتشار الحمى وعلى بقية الأمور المشابهة. يبقى التدخل في الحريات شرا ولكنه في بعض الحالات أقل شرا من انتشار المرض الذي تتيح الحرية انتشاره. فمحو آثار الملاريا والهواء الأصفر الذي ينتج من جراء قتل البراغيث هو ربما افضل مثل يضرب عن الأشياء الجيدة التي يمكن أن تتم بهذه الطريقة. ولكن عندما يكون الخير المجتنى قليلا أو عندما يكون جنيه غير مؤكد، بينما يكون التدخل في الحريات كبيرا، سيكون من المفضل ساعتئذ ان يحتمل قسم بسيط من الأمراض التي يمكن اتقاؤها على الرضوخ إلى طغيان علمي.

من الضروري اعتبار التعليم الإجباري كالصحة العامة. فوجود حشود جاهلة بين الناس هو خطر على المجتمع. إذ أنه عندما تكون نسبة كبيرة من السكان غير مثقفة، فمن الواجب أن تأخذ كل آلة الحكومة هذه الواقعة بعين الاعتبار. يستحيل وجود الديمقراطية في شكلها المعاصر في دولة حيث جماعة كبيرة لا تحسِن القراءة. ولكن ليس في هذه الحالة ما يدعو إلى إيجاد نفس المستوى العمومي الموجود في الصحة العامة. إن الغجر (النور) الذين أصبحت طريقة حياتهم مستحيلة من جراء السلطات التعليمية، يمكن أن يسمح لهم أن يبقوا حالة شاذة ذات علائم مميزة. ولكن بصرف النظر عن حالات شاذة غير مهمة كهذه، فالحجة التي تدعم الدعوة إلى التعليم الإلزامي لا تقاوم.

ما تقدمه الحكومة الآن من عناية بالأولاد هو أقل مما يجب عليها القيام به، ليس أكثر. لا يستطيع الأولاد رعاية مصالحهم، أضف إلى ذلك أن العناية الوالدية في مسائل شتى هي غير كافية. من الواضح إذن أن باستطاعة الدولة وحدها أن تلح على ضرورة تمتع الأولاد بأقل معدل ممكن من الثقافة والصحة التي يتمناها ضمير المجتمع في الوقت الحاضر.

يأتي تشجيع البحث العلمي كمسألة طبيعية أخرى يجب أن ترعاها الدولة لأن منافع الاكتشافات تعود إلى المجتمع كله، بينما الأبحاث باهظة وليس من المؤكد أنها ستؤدي إلى أي نتيجة من خلال العمل الفردي، وإنكلترا تتأخر عن بقية الدول المتحضرة في هذا الشأن.

النوع الثاني من السلطات الذي يجب أن يكون في حوزة الدولة هو ما يرمي إلى تخفيض الظلم الاقتصادي. هذا هو النوع الذي يشدد عليه الاشتراكيون. يخلق القانون أو يسهل الاحتكارات الفردية، والاحتكارات الفردية تقدر أن تفرض على المجتمع الضريبة التي تريدها. أفظع مثل على هذا هو ملكية الأراضي الخاصة. تسيطر الدولة في الوضع الحالي على شركات سكك الحديد إذ أن الأجور ثابتة بحكم القانون، ومن الواضح انه لو لم تكن تحت سيطرة الحكومة لاكتسبت درجة كبيرة من القوة[12]. لو وجدت هذه الاعتبارات وحدها، لكانت كافية لأن تثبت صحة الاشتراكية الكاملة. ولكن العدالة بمفردها هي، بحسب تقديري، كالقانون عديمة الحركة، ولذا لا تصلح لأن تكون الأساس الأول في السياسة. فهي لا تحتوي على أي بذور لحياة جديدة، ولا على أي دوافع للتقدم حتى ولو أتيح لها أن تتحقق بشكل تام. فلهذا السبب يصبح السؤال، عندما نريد تصحيح ظلامه، عما إذا كان عملنا هذا سيقتل الدوافع إلى الأعمال الحيوية المفيدة للمجتمع هاما جدا. لا تتعلق، حسب اعتقادي، الملكية الخاصة أو أي مصدر للإيجار الاقتصادي بتلك الدوافع الحيوية المفيدة للمجتمع. وإذا كانت الحال كذلك وجب التسليم بأن على الدولة أن تكون القابض الوحيد للإيجارات.

ولكن إذا سلمت كل هذه السلطات إلى الدولة، فماذا يحدث بمحاولة إنقاذ الحرية الفردية من عسف الدولة؟

هذا السؤال هو جزء من المعضلة العامة التي تقف في وجه كل من لا يزال يؤمِن بمثل الليبرالية. والمعضلة هي كيف يتم جمع حرية الفرد ورغبته في الإبداع مع المنظمة. يتزايد في السياسة والاقتصاد تسلط المنظمات الكبيرة تزايدا مخيفا يترك الفرد في وحدة من اليأس المميت. والدول هي كبرى المنظمات وأشدها تهديدا للحرية. وعلى الرغم من هذا التهديد الواضح، فعلى ما يبدو، يجب أن تتشعب مهام الدولة لا أن تتقلص.

هناك طريقة واحدة للتوفيق بين المنظمة والحرية وذلك بمنح سلطات للمنظمات الاختيارية التي تتكون مِمن أراد أن ينضم إليها لكونها تجسد الهدف الذي يعتبره كل الأعضاء أساسيا، لا الهدف الذي يفرض عليهم بحكم الظروف أو بحكم قوة خارجية. ولما كان للدولة كيان جغرافي، فهي لا تستطيع أن تكون اتحادا اختياريا بالكلية. لهذا السبب بعينه وجب إيجاد رأي عام قوي يضعها عند حدها حينما تستخدم سلطاتها بشكل تعسفي. لا يتكون هذا الرأي العام، في اغلب الأحيان، إلا من أناس تجمعهم بعض المصالح والرغائب المشتركة فقط.

يجب أن تنجز أهداف الدولة الإيجابية غير المتعلقة بحفظ النظام منظمات يشترط فيها أن تبقى مستقلة وآمنة من تدخل الدولة طالما لا تنزل تحت الحد الأدنى الضروري الذي تطلبه الدولة. يتم حاليا إنجاز هذا الشرط إلى درجة ما في التعليم الابتدائي. يمكن اعتبار الجامعات أيضا كأنها تحل مكان الدولة فيما يختص بالتعليم العالي والأبحاث العلمية، غير أنه في هذه الحالة لا يطلب إنجاز أي حد أدنى. يجب أن تحتفظ الدولة بقدرتها على الضغط في الحقل الاقتصادي، ولكن يجب عليها أيضا أن تترك أمام الآخرين مجالا للإبداع. ليس هناك ما يمنع تكثير فرص الإبداع وإفساح أكبر مجال ممكن لمقدرة كل شخص على الإبداع. لو لم تسر الأمور على هذا الشكل، لطغى في المجتمع شعور عام بالعجز واسترخاء العزيمة. لهذا يجب أن تترك دائما مهام الدولة الإيجابية في أيدي منظمات اختيارية تشرف الدولة على دقة تصرفها وسلامته كما تشرف على حل المشاكل الداخلية والخارجية التي تحصل بينها حلا وديا. يجب على الدولة أن تظهر، بالإضافة إلى ذلك، أكبر قدر ممكن من التساهل إزاء "الشاذات" وأن تقلع إلى أبعد حد ممكن عن طلب مؤسسات ذوات نمط موحد.

يمكن أن يتضاعف إنتاج المهن والمناطق الزراعية ضمن حكومات محلية. هذه هي أفضل الأفكار التي ابتكرتها النظرة السنديكالية. إنها فكرة بالغة الأهمية لأنها تخدم كلجام للتعسف الذي يميل المجتمع إلى فرضه على بعض الفئات من أعضائه. يجب أن يرحب، تفاديا لعسف المجتمع، بكل منظمة قوية تجسد شطرا من الرأي العام، كالنقابات العمالية والتعاونيات والمهن والجامعات لكونها صمامات أمان للحرية ومناسبات للإبداع. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك رأي عام متحمس للحرية. قد يظن أن المعارك القديمة التي شنت في سبيل حرية التفكير وحرية الكلام تم انتصارها بشكل فاصل، ولكن أكثر الناس لا يزال مستعدا لمنح الحرية فقط لتلك الأفكار الشائعة. لهذا يجب أن تخاض المعارك في سبيل حرية التفكير وحرية الكلام من جديد. لا تحترم المؤسسات الحرية إلا إذا وجد أناس يعتبرون الحرية باهظة القيمة وهمْ على أتم الاستعداد لتحمل الضيقات في سبيل المحافظة عليها حية مضيئة.

هناك اعتراض تقليدي على كل قائد وآمر (imperio in imperium) ولكن هذا الاعتراض هو من ابتداع غيرة الحكام الظالمين فقط. إن الدول المعاصرة تضم في الواقع مؤسسات عديدة يستحيل على الدولة التخلص منها إلا في حالات نادرة عندما يتحرك الرأي العام ضدها. لقد كان صراع لويد جورد ضد المهن الطبية حول مرسوم الضمان صراعا محفوفا بتقلبات حظ هوميروسي. كذلك أنهك عمال المناجم في مقاطعة والش في سنة 1915 كل قوى الدولة تدعمهم في ذلك أمة مغتاظة. أما بالنسبة للممولين، فليس من حكومة تحلم بمخاصمتهم. وعندما تناشد الدولة مختلف الطبقات الشعبية بضرورة الشعور بالوطنية، تسمح للممولين بالاحتفاظ بفائدة تبلغ 5و4% وارتفاع في قيمة ممتلكاتهم. يفهم الجميع أن أي مناشدة لوطنيتهم تظهر جهلا كبيرا بحقيقة العالم. إن اقتناص الدولة أموالا من الممولين بالتهديد يرفع حماية البوليس عنهم هو أمر مخالف لتقاليدها. ولا يعود الإحجام عن هذا الاغتصاب إلى صعوبة عمل كهذا، بل إلى أن للثروة الكبيرة بريقا يأخذ ألباب الناس ولذا لا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية رجل غني تُساء معاملته.

لا يقلل من أهمية وجود منظمات قوية داخل الدولة كمنظمات النقابات العمالية مثلا، إلا الموظف الذي يطمح إلى سلطة لا حد لها أو المنظمات المبنية على المنافسة كتعاونية أرباب العمل التي تطمح إلى رؤية خصم غير منظم. ولما تصبح الدولة قوية جدا، لا يجد الناس منفذا سياسيا إلا في منظمات هامشية تهدف لتحقيق غايات محدودة جدا، ولكن عندما ينعدم وجود منفذ للإبداع السياسي، يفقد الناس حماسهم الاجتماعي واهتمامهم بالمسائل الهامة ويصبحون فريسة للساسة الماكرين ومهيجي الأحاسيس الخداعيين الذين أجادوا فن اصطياد أصحاب الانتباه السقيم.

يكمن دواء هذه الآفة السياسية في إعطاء سلطات أكثر للمنظمات الاختيارية لا في التسلط عليها، وفي إفساح مجال العمل السياسي أمام كل فرد بشكل يتناسب مع منافعه وقواه، وفي حصر مهام الدولة قدر المستطاع في صيانة الأمن وفي التوفيق بين المنافع الضاربة. إن فضيلة الدولة الأساسية هي ردعها للعنف بين المواطنين. ولكن مضارها الأساسية هي تشجيعها لاستخدام العنف في الخارج وإرهابها لكل فرد بحجمها الكبير الذي يثير فيه شعورا بالعجز التام في مقاومتها حتى في البلدان الديمقراطية. سوف أعود إلى مناقشة مسألة منع استخدام العنف والحرب فيما بعد. لا يمكن إزالة شعور الفرد بالعجز من خلال المطالبة بالعودة إلى المدينة الدولة إذ أنها مطالبة رجعية مثل المطالبة بالعودة إلى أيام ما قبل الآلة. لا تتم إزالة ذلك العجز إلا وِفق أسلوب يأخذ الاتجاهات الحاضرة بعين الاعتبار. يتكون هذا الأسلوب من جراء تحويل الكثير من وظائف الدولة الإيجابية إلي منظمات طوعية هدفها القيام بتلك الوظائف. ولا تبقى الدولة إلا كسلك فدرالية أو كمحكمة عليا لفض المنازعات. فينحصر دورها عندئذ بالإلحاح على فرض حل ما للمصالح المتضاربة. ودعامتها في فرض حل كهذا هي محاولتها لإبعاد حل يرضي كل الجهات المختصة بوجه عام. هذا هو المنحى الذي تميل إليه كل الدول الديمقراطية في حالة السلم، أما في حالة الحرب أو الخوف من الحرب فتميل عنه. ولطالما تبقى الحرب خطرا حقيقيا يداهمنا في كل يوم، فلا بد أن تبقى الدولة كالآلة "مولوخ" (Moloch) تضحي بحياة الفرد حينا وتدفع دائما بنموه الصحيح إلى ميدان معركة التسابق نحو السيادة مع بقية الدول الأخرى. إن الحرب داخلية كانت أم خارجية هي أكبر أعداء الحرية.

ترجمة: د. ابراهيم يوسف النجار