عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-2010, 01:41 AM
المشاركة 16
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رسالة رقم 12


نيويورك مساء السبت 21 أيار 1921

يا مي يا صديقتي

" كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو" , هذه حقيقة بسيطة ظهرت لي منذ حين فانفتحت في روحي نوافذ وأبواب جديدة , ولما قررتها رأيتني واقفاً أمام مشاهد ما كنت أحلم بوجودها في هذا العالم.

" كثيراً وبحنو – كثيراً وبحنو" , ومن هذا الكثير وهذا الحنو قد تعلمت الصلاة بفرح والحنين بطمأنينة والامتثال بدون انكسار. لقد عرفت أن الرجل المستوحد يستطيع أن يغمر وحدته بنور " الكثير" ويزيل الاجهاد في عمله بحلاوة " الحنو" . وعرفت أن الغريب المستوحش يستطيع أن يكون أباً وأخاً ورفيقاً وصديقاً- وفوق كل ذلك أن يكون طفلاً فرحاً بالحياة. " كثيراً وبحنو" إن في هذا الكثير وهذا الحنو أجنحة تخيم وأيادٍ تبارك. صحتي اليوم أحسن مما كانت عليه منذ شهر , لكنني لم أزل مريضاً, وهذا الجسم الضعيف ما برح بدون نظام وبدون وزن وبدون قافية. وأنت تريدين أن أقول لك مم أشكو , فإليك خلاصة ما قاله الأطباء :

" اضطراب عصبي سببه الاجهاد ونقص في التغذية أدى إلى اضطراب في الجهاز العام للقلب فكان تسرع النبض نتيجة حتمية له, وقد بلغت نبضاته 115 في الدقيقة في حين أن النبض الطبيعي هو في حدود (80)."

أي يا ميّ, ففي العامين الغابرين قد حمّلت جسمي فوق طاقته, فكنت أصور ما دام النور وأكتب حتى الصباح وألقي المحاضرات وأختلط بجميع أنواع البشر – وهذا العمل الأخير هو أصعب شيء أمام وجه الشمس- وكنت اذا جلست إلى مائدة الطعام أشغل نفسي بالكلام والمتكلمين حتى تحضر القهوة فأتناول منها الشيء الكثير وأكتفي بها طعاماً وشراباً. وكم مرة عدت إلى منزلي بعد منتصف الليل وبدلاً من الخضوع إلى سنة الله في أجسامنا كنت أنبّه ذاتي بالحمامات الباردة وبالقهوة القوية وأصرف ما بقي من الليل كاتباً أو مصوراً – أو على الصليب. ولو كنت شبيهاً بقومي سكان شمال لبنان لما قبضت عليّ العلة بهذه السرعة. هم كبار الأجسام أقوياء البنية أما أنا فبعكس ذلك ولم أرث عن أولئك الأشداء حسنة واحدة من حسناتهم الجسدية. ها قد أشغلت فسحةً كبيرة بالكلام عن مرضي, وكان الأحرى بي أن لا أفعل – ولكن ما العمل وأنا لا أستطيع إلا الجواب على كل سؤال من سؤالاتك الممنطقة بحلاوة الاهتمام " والرغبة والتمني".

أين الرسالة الطويلة المقطعة المكتوبة بقلك رصاص وعلى ورق بلدي مربع التسطير في حديقة جميلة أمام صف من الذهبيات؟ أين رسالتي يا مي؟ لماذا لم تبعثي بها إلي؟ أريد الحصول عليها, أريدها بكلياتها وجزئياتها. أتعلمين مقدار رغبتي في الحصول على تلك الرسالة بعد أن قرأت نتفة منها- تلك النتفة القدسية التي جاءت فجراً ليوم جديد. أتعلمين أنه لولا خوفي من كلمة " وبجنون" لكنت بعثت إليك ليلة أمس برقية أرجوك فيها تسليم الرسالة إلى البريد؟

أترين فيَّ الطيبة يا ميّ؟ وهل أنت بحاجة إلى الطيبة؟ هذا كلام جارح بعذوبته فبما أجيب عليه؟ إذا كان في كياني يا صديقتي ما أنت في حاجة إليه فهو لك بكليته . ليست الطيبة فضيلة بحد ذاتها أما عكسها فجهالة- وهل تقطن الجهالة حيث " كثيراً وبحنو"؟

إذا كانت الطيبة في محنة الجميل وفي التهيب أمام النبيل وفي الشوق إلى البعيد والخفي- إذا كانت الطيبة في هذه الأشياء فأنا إذن من الطيبين, أما إذا كانت في غير هذه الأشياء فأنا لا أدري ما ومن أنا. وإني أشعر يا مي أن المرأة السامية تستلزم وجود الطيبة في روح الرجل حتى ولو كان جاهلاً.

حبذا لو كنت الساعة في مصر. حبذا لو كنت في بلادي قريباً ممن تحبهم نفسي. أتعلمين يا مي أنني في كل يوم أتخيل ذاتي في منزل في ضواحي مدينة شرقية وأرى صديقتي جالسة قبالتي تقرأ في آخر مقالة من مقالاتها التي لم تنشر بعد, فنتحدث طويلاً في موضوعها ثم نتفق على إنها أحسن ما كتبته حتى الآن. وبعد ذلك أنتشل من بين مساند فراشي بعض الأوراق وأقرأ قطعة كتبتها أثناء الليلة الغابرة فتستحسنها صديقتي قليلاً ثم تقول في سرها " يجب ألا يكتب وهو في هذه الحالة. إن تراكيب هذه القطعة تدل على الضعف والوهن والتشويش- عليه ألا يأتي بعمل فكري حتى يتعافى تماماً"- تقول صديقتي هذا في سرها وأنا أسمعه في سري فأقتنع بعض الاقتناع ثم لا ألبث أن أقول بصوت عالٍ " أمهليني قليلاً, أمهليني أسبوعاً أو أسبوعين فأتلو عليك قطعة جميلةً , جميلة للغاية". فتجيبينني بصراحة " يجب أن تمتنع عن الكتابة والتصوير وكل عمل آخر عاماً أو عامين, وإن لم تمتنع فأنا عليك من الساخطين!" – تلفظ صديقتي كلمة " الساخطين" بلهجة ملؤها " الاستبداد المطلق" ثم تبتسم كالملاكة فأحتار دقيقة بين سخطها وابتسامها, ثم أجدني فرحاً بسخطها وابتسامها- وفرحاً بحيرتي.

وعلى ذكر الكتابة – أتدركين مقدار سروري وابتهاجي وافتخاري بما ظهر لك من المقالات والحكايات في الشهور الأخيرة؟ ما قرأت لك قطعة إلى وشعرت بنمو وتمدد في قلبي, وما قرأتها ثانية إلا وتحولت عمومياتها إلى شيء شخصي فأرى في الأفكار والقوالب ما لم يره سواي وأقرأ بين السطور سطوراً لم تكتب إلا لي. أنت يا مي كنز من كنوز الحياة, بل وأكثر من ذلك- أنتِ أنتِ, وإني أحمد الله لأنك من أمة أنا من أبناها ولأنك عائشة في زمن أعيش فيه. كلما تخيلتك عائشة في القرن الماضي أو في القرن الآتي رفعت يدي وخفقت بها الهوا كمن يريد أن يزيل غيمة من الدخان من أمام وجهه.

بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع أذهب إلى البرية فأسكن بيتاً صغيراً منتصباً كالحلم بين البحر والغابة – وما أجمل تلك الغابة , وما أكثر أطيارها وأزهارها وينابيعها. كنت في الأعوام الغابرة أسير وحيداً منفرداً في تلك الغابة. وكنت أذهب عشية إلى البحر وأجلس كئيباً على الصخور أو أرمي بنفسي إلى الأمواج كمن يريد أن يتملص من الأرض وأشباحها. أما في هذا الصيف فسأسير في الغابة وأجلس أمام البحر وفي روحي ما ينسيني الوحدة وفي قلبي ما يشغلني عن الكآبة.

أخبريني يا ميّ ما أنت فاعلة في هذا الصيف؟ أذاهبة إلى رمل الاسكندرية أم إلى لبنان؟ أذاهبة وحدك إلى لبناننا؟ أي متى يا ترى أعود إلى لبنان؟ أتستطيعين أن تقولي لي أي متى أتخلص من هذه البلاد ومن القيود الذهبية التي حبكتها منازعي حول عنقي؟

أتذكرين يا مي قولك لي مرة أن صحفياً في بيونيس آيريس قد بعث إليك برسالة يطلب فيها رسمك ومقالة من مقالاتك؟ لقد فكرت مرات عديدة في طلب هذا الصحفي وفي ما يطلبه جميع الصحفيين وكنت في كل مرة أقول متحسراً " لست بصحفي! لست بصحفي! لذلك يتعذر عليّ أن أطلب ما يطلبه الصحفيون. لو كنت صاحب مجلة أو محرر جريدة لطلبت رسمها بكل حرية, وبدون خجل, وبدون وجل, وبدون توطئة منسوجة من الألفاظ المرتعشة" كنت ولم أزل أقول هذا في قلبي, فهل سمع الذين اتخذوا قلبي وطناً لهم؟

ها قد انتصف الليل وللآن لم أخط الكلمة التي تلفظها شفتي وتلفظها تارة همساً وطوراً بصوت عالِ. إني أضع كلمتي في قلب السكينة فالسكينة تحتفظ على كل ما نقوله بحنو وحرقة وإيمان. والسكينة يا ميّ تحمل صلاتنا إلى حيث نريد أو ترفعها إلى الله.

أنا أذهب إلى فراشي. وسوف أنام الليلة طويلاً . وسوف أقول لكِ في الحلم ما لم أخطه على هذه الورقة. مساء الخير يا مي. الله يحرسكِ

جبران
</b></i>

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب