عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-2016, 03:20 AM
المشاركة 67
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عبد الفتّاح في الإعدادية يتغيب في الموسم الثّاني ، تسرّعت بعض الشّيء يا أخي ، كنت أنتظر منك أن لا تتمرد إلى هذا الحدّ منذ الإعداديّة ، كان عليك أن تنتظر حتى تصل للثّانوي كما فعلت ، التقيت بحارسه العامّ ، و أوصيته أن يتّصل بي كلّما تغيب ثانية ، فاتحته في الموضوع و حاولت استكشاف أسباب تغيبه ، فحدّثني عن ضعفه في اللّغة الفرنسية كما الرياضيات ، لذلك سأسير معه خطوة خطوة في هذه الدروس ، كلّ درس يقرأه أراجعه معه مساء ، بعد ذلك وجد السّبيل إلى مسايرة المقرّر ، و تحسّنت نتائجه ، في النّادي أمارس الكراطي ثلاث حصص في الأسبوع ، بقيّة وقت فراغي ، أمضيه مع مجموعتنا ، بورخا معلّم مثلنا ، شخص تملأه الفكاهة ، نحن ننصت وهو منشط الجماعة ، أسلوب مميز ساخر ، السخرية فن جميل ، يسخر دون أن يؤذي ، يقظ ، جدّيّ إلى أقصى الحدود ، هو أوّل من يبني داره في كوكبتنا ، حين يضحك يمارس الفكاهة تحسبه شخصا منفلتا ، لكنه مؤدّب للغاية ، قريب إلى نفسي بدرجة كبيرة ، يستحقّ لقب صديق مخلص ، حين فكرت في الانتقال إلى الملت حذّرني أنها مغامرة عقيمة ، رغم كلّ ما قدّمت له من معطيات بدا غير مرتاح لقراري الذي قد يبدو ردّ فعل أكثر ممّا هو فعل حقيقي ، كان بالإمكان أن أنتقل إلى الملت منذ السنة الأولى التي قضيتها في تاركت ، لكن منذ البداية لا أريد أن أعمل في قريتي ، هو شعور يعم كافّة أبنا المنطقة ، لن تجد فيهم من يهرول إلى مسقط رأسه ، يختارون مدارس تكون قريبة من مواطنهم ، يزورون أقرباءهم كل أسبوع أو مرة كل خمسة عشر يوما ، هكذا أفعل أنا أيضا ، لكن على عكسهم ، فأنا مرتبط جدّا بالعائلة ، ظروفي تفرض عليّ ذلك و كذلك تربيتي ، ربّما أبي قدّم أقصى ما لديه حين وصلت إلى وظيفة ، يريد معيلا حقيقيا وليس فقط معينا أو موجها أو من يتدخل وقت الأزمات ، أنا أعرف ما يسرّ و ما يظهر ، يريد شيئا غير موجود في الدّنيا كلّها ، يريد من ابنه أكثر ممّا يحتملّه ذهنه و مرتّبه و مقوماته و قدراته ، أبي ليس وسطيّا كما يعتقد ، ربّما أنا أيضا ساهمت كثيرا في جعله مدلّلا ، أنا بارّ أكثر من اللازم ، أتدخل لمعالجة الكثير من تصرفاته ، أعوّض إخوتي عن حنان أبوة قد يفتقدونه ، رغم أنّني ساكتشف لاحقا أنّني لا أستطيع إعطاهم القدر الكافي من الحنان ، فجعلتهم ربما أكثر دلالا ، هي التربية ، أصعب ممّا نتخيله ، وخاصّة عندما يكون هناك شيء غير مفهوم وغير قابل للسيطرة عليه ، أبدّل الخطط كثيرا منذ زمن بعيد ، عساني أصل إلى الجو الذي أراه مناسبا لهذه الأسرة ، كي تستطيع النموّ ، هذا لا يعرفه أصدقائي ، فلذلك خطوة ذهابي إلى الملت لم تكن إجراء انعكاسيّا لعودة عمّي ، رغم أن ردّ الفعل في الفعل قائم ، أنا اخترت أسرتي كواجب ، يعني أنه عندما يكونون في الحاجة إلي سيجدونني بالقرب ، هذا خيار منذ الزمن الغابر ، حتى في طفولتي كنت دائما حاضرا و بقوة ، نورالدين رقم صعب داخل الأسرة كلّها ، يكاد يكون رجل المنزل الذي يتحمّل هبل الجميع ، قد أكون عصبيا في بعض الأحيان ، لكنّني أكثر قدرة على التحمّل منهم جميعا إلاّ أمّي طبعا ، جاء عمّي و أنا أرى النتيجة ماثلة أمام عينيّ ، الرجل مريض ، يحتاج إلى عناية ، و أكثر من ذلك أبواه غير قادرين على تحمّل شخص بعقله وما أدراك بمن فقد صوابه ، أعرف أنه سيعذبهم جميعا ، سيرهقهم شرّ إرهاق ، لأن جنونه ليس كلّيّا ، فهو في منزلة بين المنزلتين ، ينطلق من شي مألوف لتخرجه استنتاجاته إلى السّراب ، يضحك الآن وتقول هذا هو عبدالسلام ليغضب في اللحظة ذاتها ، كلّ هذا ظهر منذ التحاقه بالشغل ، مقاول يسفلت الطريق الرابطة بين أساكي وإغرم ، طرق تمرّ بالملت ، هو التحق بالعمل كتقني دون أن تشفى جراحه ، الالتزام ولّد عنده الضغط ، والضغط جعله يفقد مرونته ، فاضحت العصبية و الانفعال والمزاجية تطغى على سلوكه ، كلّما أصرّ على العمل ازدادت حاله سوءا ، لهذا كنت أرغب في مجيئه إلى أولوز ، كنت أريده أن يبتعد عن الضّغط ، حتى ضغط الأسرة ، و ناس الدّوار، أريده أن يستنشق عبير الحرية ، لم يسعفني في مرادي . حاولت مرارا وتكرارا أن أمحو فكرة العمل من ذهنه ، لم أوفق ، والداه لايزالان يتصرّفان معه عاقلا ، إن قال لهم قوموا قاموا ، و إن أجلسهم جلسوا ، أذكر فرحة أبي يوم عرف أنّي عدت إلى الملت ، رغم معارفه الكثيرة والغزيرة ، ففي عمقه خوف مزمن أن نتركه ونذهب ، فقدان الثّقة بشكل رهيب ، هي المعارف لا تعطينا شخصيّتنا ، هي الذات فقط من يستطيع التّحكم فينا ، مهما عرفت فسلوكك لا يستجيب لمعارفك و لأفكار ملأت بها ذاكرتك ، هوالسلوك نابع من الذات ، والسلوك مؤشر قويّ على حقيقة الذات ، إنه الموقف ، المواقف هي من تقول من أنت . أبي هكذا ، لن أستطيع تغييره ، ولن يستطيع شخص آخر تغييره ، شكيم اللّسان ، ينفعل لأتفه الأسباب ، قد يؤلمك أمام من لا تريد ، ينفلت لسانه ، عندما تتحدث عن فكرة ما ، يقحم الذات في الأفكار فيضرب الأمثال بنفسه ، أعرف أنه عاجلا أو آجلا سيصبح مع عمّي كفأر وقطّ ، تصوّر أنك تناقش مجنونا بالمنطق ، فكلاكما مجنون ، لن يفهمك و لن تفهمه ، أبي لا يعرف منذ القدم إلا الصّرامة ، و عوّد ذاته عليها ، فكيف سيكون متفهما و هو يلامس السّتّين ، هوالعمر يظهر عيوبنا ، يجعلك تتعرى أكثر من راقصة الستريبتز ، فقط هي تظهر محاسنها و الزمن يظهر قبحنا ، وخاصّة حين تكون الظروف عصيبة ، أو فيها ضغط ما ، أو قلّة حيلة ، هي الدّنيا جحيم حقيقي للبعض ، موباسون التقيته هذا العام ، سأجد فيه الرجل العارف بالنفسيّات المهزومة ، قطب من أقطاب التيار الطبيعي من الواقعية الفرنسية ، وجدت الرجل يغوص بعمق غريب في السلوك الإنساني ، يحبك القصة و يهتم بالتفاصيل الصغيرة ، يمرمد أبطاله ، يعذبهم عذابا أليما ، النهاية عنده مؤلمة لن يكون إلاّ مجنونا آخر سينضاف إلى مجانيني ، منه سأنطلق إلى زولا و ستوندهال و بلزاك ، أمرمد نفسي أنا أيضا دون أن أعرف ، بل أعرف ، فعلى الأقل ، قال لي عزيز أنّ عقلك هذا سيستقيل منك يوما ، هي الحياة هكذا ، لن يسلم منها إلا من أخذها بمرونة ، سأذهب إلى بيتي ، ليس لانّني أملك عصا موسى ، و ليس لانّني سأجد الحلول ، سأذهب إلى هناك فقط لأحاول بلسمة الجراح والحيلولة دون ارتطام الأواني الزجاجية . كنت أعرف أنّني مغامر لا أكثر ، لكن ماذا ستفعل ، أن تفعل خير من أن تتفرج عن بعد ، هكذا بدا لي الأمر يومها ، قد لا تكون الحقيقة هكذا ، فلكل ذات حقيقتها ، و وفقها تأتي تصرفاتها .
كوكبتنا أيضا تضم شبابا آخرين ، بعضهم خارج المهنة ، ولكن لا تستطيع دوما الإحاطة بكل شيء ، لأنك ستجعل النصّ مترهلا أكثر ، سينفلت و تطغى عليه البانورامية ، خذ البعض فقط و معذرة للذين يستحقون الذّكر هنا ، و ما أتيحت لهم الفرصة ، زملائي في تكركوست وحدهم فقط يستحقّون الصفحات ، أصدقائي في الملت أيضا ، لكن ما العمل ، ليس كلّ شيء متاحا. و ربما جاءت الفرصة ذات يوم و وجدتم أنفسكم في الطليعة .
هكذا جئتك بلادي ، أصلحت بعض مرافق منزلنا ، و سبق أن جهزته بالطاقة الشمسية للإضاءة ، و سبق أيضا أن طلبت من أمّي أن تختار لي زوجة ، هي رفضت و قالت :" أنت من سيختار " كنت أفكّر أن أضرب عدّة عصافير بحجرة واحدة ، تؤسس أسرة ، و في ذات الوقت تعتني بالجميع ، عمّي أيضا يفكّر في الزواج ، أحاول أن أقترب منه فيبتعد ، أريد أن أرى هذه الفتاة يا عمّي ، يسوّف و ذات يوم قال لي لن تراها ، عندما رأيته مصرّا على الزواج ، وجدّتي تؤازره و جدّي لا قرار له ، و أبي ضاعت صلابته ، أجّلت مشروع زواجي ، خطوة خطوة يا نورالدين ، ذات يوم سافرت إلى وارزازات لإحضار ورقة تأمين درّاجتي و في نفس الوقت للتنفيس عن نفسي وقد أنهيت الإصلاحات المتاحة ، اصطحبهم عمّي جميعا ليخطب فتاته ، حتى جدّتي الأخرى الجارة كانت معهم ، عندما وصلوا إلى الدّوار المعلوم ، اكتشفوا أن لا وجود للفتاة و لا الخطوبة ، افتعلوا زيارة واحد من معارفهم ، ورجعوا محسين بخيبة عارمة ، أتعلمون لماذا جئت إلى هنا ، متى غفلت يا نورالدين سيقع شيء ليس في الحسبان .
عمّي يحدّثني بعصبية كبيرة ، ضاع عمّي الذي تركته هنا في الملت الموسم الماضي ، رغم ذلك أتحيّن فيه الفرص حتّى بدأ يثق بي ، عند ذاك رافقته لزيارة الطبيب في تالوين ، ونحن في طريقنا إلى المستشفى ، كلّما لمح كيسا بلاستيكيا خطفه بسرعة وكمّشه ولفه ليضعه تحت حجارة ، لا أعاتب عليه فعلته ، وأنا عارف أنه يعيش أيضا عالما آخر غير الذي نشتركه ، الطّبيب بعد استقبالنا ، منحني ورقة لمرافقته إلى تارودانت قسم الأمراض العقلية والنفسية ، عندما خرجنا من المستشفى أصبح شخصا آخر ، يا عمّي سنذهب إلى تارودانت ، زيارة خفيفة ، ما بك ؟ لم يستجب و لن يستجيب ، بل يسب الأطباء ، أنت لا تعرف ماذا فعلوا بي في سويسرا ، هؤلاء المجانين ، أنت لا تعرف تلك السموم التي كانوا يقدمونها لي ، حاولت مرارا لكنه لا يستجيب ، لا يزال يمارس عمله كتقني ، يأتي كلّ أحد مغبرا كما لو أنه يسبح في التراب ، حالته مؤلمة جدّا رغم ذلك مصرّ على أن يعمل ، مصر على عدم الذّهاب إلى المستشفى ، بين الجنون و العقل يعيش ، صعب جدّا أن تعرف هذا المنطق . أنا أيضا أحاول الاندماج في الملت ، أدرس في فرعية جدّتي من أمّي ، أزورها و رأسي تؤلمني أنثر البهجة في وجهها المتدفق بالطيبوبة ، أرى فيها رونق البساطة والروح المؤمنة ، ما أطيبك جدّتي ، أجاري زملائي الجدد في هبلهم رغم أنّني أحسست أنّي كبرت على هذا ، رغم ضيقي الشديد وروحي التي تريد أن تغادر ، فانا أجابه عالمي بمسؤولية ، بروح مرحة ، أزور أولوز ، التقيت هناك بمجنون آخر عاشق للسينما ، عند ربيع وعلي ، شاهدنا التيتانيك جماعة ، شريط غريب حقّا ، إنها النهاية المأساوية ، لكن بعد كل بداية بداية ، لا تشغل نفسك بالنّهايات ، هكذا قرّرت ، أحيانا لا نملك من الحلول إلاّ التعايش مع ذواتنا مع نواقصنا مع أمراضنا مع واقعنا ، متضايق نعم ، زرت الطبيب أعطاني بعض المهدئات و بعض الفيتامينات ، أزور بورخا و سي محمد و أذهب عند عزيز ، عند لمودن و حسن ، في الدوار بين الفينة والفينة أخالط ناس الدّوار ، رغم أنّني أحس بنهايتي وأكتب رياح الخريف ، لكن من العار أن نسلّم أنّنا انتهينا .


هذه نهاية الجزء الثالث من هذه السيرة و الوقت مبكر جدّا لكتابة الأجزاء الأخرى ، لذلك هنا سأتوقّف .

و شكرا على تحمّلكم نزقي و قلقي .