عرض مشاركة واحدة
قديم 07-08-2016, 01:12 PM
المشاركة 66
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في تاركت بدأت حياتي التعليمية ، على بعد عشر كيلومترات من تالوين ، وعشرين عن الملت ، دوار بارد جدا ، تتجمد مياهه شتاء وتصبح زجاجا لامعا ، أبيت في جلباب صوفي طوال فصل الشتاء ، زميلي في المسكن بيضاوي ، لطيف ودود ، عشير جيّد ، تتشقق يداه و رجلاه من البرد ، يدهنها كلّ يوم قبل النوم بمرطّبات الجلد ، مهنة التعليم متعبة ، تهيّئ كلّ ليلة على الأقل عشرة أوراق لتستطيع تقديم دروسك بشكل مقبول ، أدرّس المستوى الخامس ، زميلي يدرّس المستوى الأول هو معرّب التكوين ، منذ البداية اخترت الاتزام ، رغم أن الأمر ليس سهلا ، لكنّني ملتزم بشكل جيّد ، أعدّ دروسي جيّدا و أقدمها أيضا بكثير من المسؤولية ، في هذا العام تزوجت أختي أقام لها أبي عرسا في عطلة دجنبر ، حضرت العائلة كلّها ، كان أبي يريد تزويجي أيضا لكنّني رفضت ، كان همّي الأول أن أجعل إخوتي لا يعانون في مسيرتهم التعليمية ، صلاح الدّين التحق بالإعدادي ، عبدالفتاح يدرس في المستوى الخامس ابتدائي ، عبد الناصر التحق هذا الموسم بالمدرسة ، نعيمة هناك في أكادير لا تزال تحارب ، رشدية غادرت المدرسة ، أختي أمينة الآن عروس تزف لزوجها . أبي تسجّل في لائحة الرّاغبين في أداء مناسك الحجّ ، يتمنّى أيضا أن يرافق جدّتي ، لكن لا يملك ثمن مقعدين ، كنت أكتب لعمّي عبدالسّلام عساه يدفع حصة جدّتي ، أبي يتمنى أن يدفع عمّي الحصّتين معا ، أكتب له رقم الملايين اللازم للمنصبين ، يرغمني أبي على تحويل المبلغ إلى العملة السويسرية ليعرف عمّي المبلغ بوضوح ، يتناسى أبي أن عمّي يضرب الأرقام في السماء ، لكن طمعه في تلبيّة ندائه تجعله مصرّا، انتظر أبي طويلا وصول الملايين ، و لمّا استيأس دفع حصّته مفرغا جيوبه . كان هذا قبل أن أحصّل على راتبي الذي لم يأتني إلا في مارس ، عندها قدّمت نصف حصيلة الستّتة أشهر لأبي ، اشترى بها مولّدا كهربائيّا ، ومدّ الأسلاك في ربوع منزلنا ، أطعمت الجميع من مرتّبي ، لم أترك منه ريالا واحدا ، يومها كانت احداهن تحدثني عن شراء قطعة أرض لأبني فيها مسكني في تالوين أو في فيلاج يوفّر ظروف حياة جيّدة لي و لأبنائي ، أخطأت الحساب يا فتاة ، هكذا قلت لعمّي في زيارته الأخيرة ، عندما سألني ما بال الجميع في هذا البيت مكتئب :" ألأنّني لم أحضر سيّارة ، السيّارة إذن أحسن منّي ." شرحت لعمّي : " الأمر ليس كذلك ، أنت لم تحضر السيّارة لأنها ترهقك في السفر ، وتفضّل الطائرة ، أنا أعرف هذا ، أيضا أبي ليس هذا ما يجعله يبدو متجهّما ، فقط هو يريد أن يحسّ أنك فعلا في الخارج كما باقي المهاجرين ، يبنون مساكن جديدة ، يشترون المقاهي ، و غيرها من المشاريع ، نطق عمّي : " أيخاف أبوك أن أسأله عن الأرض مستقبلا ، أنا تركت له كلّ شيء ، أنا لن أعيش هنا " كان غاضبا حقّا . عرفت أنه لن يفهمني أو لا يريد أن يفهمني ، غيرت الموضوع ، أنا أفهمك يا فتاة ، و لكن من الصّعب أن تفهميني ، فغيرت الموضوع . عرفت يومها أنّنا لا نملك طموحا جارفا للحياة ، كدت أجيبها بصلافة كما فعل عمّي ، لكن لا أستطيع أن أجرحها ، لأنّني عرفت و تيقنت أنّني على الطريق الخاطئ ، و كنت أعرف دوما أنّني على الطريق الخاطئ ، والزمن الخاطئ و الظروف الخاطة ، كنت أعرف أن الوجود خدعة كبرى.
أتدرون لماذا لا أحب الالتزام ، لأنه كلّما التزمت بشيء ، تضيفه شيئا آخر ، فآخر، فآخر، والمحصّلة المزيد من الضغط ، المزيد من الانبطاح المزيد من فقدان الحريّة . يكفيني هذان الالتزامان ، التعليم والسّعي في تعليم إخوتي في ظروف جيّدة ، هكذا قدّرت و هذا هو النهج الذي سرت عليه ، ذهب أبي إلى الحجّ و أكمل مناسكه ، عند عودته ابتهجت الملت و ذبحنا و أطعمنا ، و استقبلنا الدواوير المجاورة ، و استقبلت جميع زملائي في المجموعة المدرسيّة . حلّت عطلة الصّيف و لم أوفّر درهما واحدا ، أبي يقول: "جميل أن تشتري لإخوتك لاقطا فضائيا ليتابعوا القنوات الفضائية " جميل يا أبي صحيح ، انتظرت حتّى جاءني مرتب الشهر الأخير ، و اشتريت لهم ما أرادوا ، وغادرت إلى مراكش و منها إلى تغدوين ، و منها إلى أعالي قمم الأطلس ، هناك و جدت أختي ، تقوم هي و زوجها الذي يشتغل إمام مسجد في الملت بزيارة لأهل زوجها ، بقيت هناك بضعة أيام ، رجعت إلى تغدوين ، فيها يوجد الكثير من المراكشيين المصطافين يمرحون في عيونها الشافية و مياه وادي الزّات ، أمضيت هناك فترة وتسلقت الجبل مرة أخرى و منه عدنا جميعا إلى الملت منتظرا مجيء راتب الشهر الأول من العطلة ، جاء الراتب و به أمضيت بقية الصّيف و به أيضا دفعت أثمنة كنانيش إخوتي من نعيمة إلى أصغرهم ، وحين التحقت بأولوز حيث سأشتغل هذا الموسم بعد مشاركتي في الحركة الانتقالية وجدت المدير لم يحضر لي مرتب الشهر الباقي من عطلة الصّيف ، عند عودتي فاتحت أبي في الأمر فغضب منّي غضبا شديدا ، و قدّم لي بعض الأوراق النّقدية و رجعت إلى أولوز لتبدأ دورة حياة أخرى .

التحقنا بأقسامنا ، عيّنني مدير المجوعة المدرسية في أقرب فرعيّة إلى مركز أولوز ، حيث يوجد البيرو الذي حبسني فيه القائد أيام طفولتي ، جميع أطفال أقارب عمر يرتادون هذه المدرسة ، هنا إذن جاءت بي الأقدار ، لا يفصلني عن قبره الكثير ، أكاد أشتمّ رائحته في كلّ موضع ، تعود الذكريات تباعا ، عندما أذهب إلى المركز يأسر عيني ممرّ يؤدّي إلى بيته ، أمّه مرارا ذرفت الدموع وهي تلمحني من بعيد ، لم أجرؤ يوما على زيارة منزله ، فقط أجلس أحيانا مع أبيه وأخيه في مركز أولوز حيث توجد محلاّتهم ، هناك يبيعون الخشب و القصب ، أخوه الصغير قريب إلى عمر في صورته و شخصيته ، لتستمرّ يجب دائما مسح فترة من عمرك ، و إن بقيت هناك ستضيع ، أجبّو عندما يعود من البيضاء يزورني في المدرسة ، و كذلك يفعل العديد من رفاق عمر ، عشيري مرة أخرى بيضاوي ، أدرّس المستويين الثالث والرابع عربية و فرنسية ، قسم مشترك ، كانوا أطفالا رائعين حقّا ، مجدّون مجتهدون و متميّزون ، روابط غريبة تلك التي تنشأ بين المعلم و أطفاله ، كما كنت في تاركت أصبحت هنا ، كنت هناك المنشط الوحيد ، أعيش مع الأطفال ، أعلّمهم المسرح والأناشيد ، أقيم بينهم مسابقات ثقافية و رياضية ، في نفس الوقت كنت صعب المراس متى تهاون أحدهم في واجباته ، خليط غريب ، قسوة و شدة ، عطف و لعب ، كنت طفلا حقيقيا .
عشيري هذه المرّة لم يفارقني طيلة السّنة ، هشام في السنة الماضية تركني لفترة وحيدا ، التحق بمعلّم آخر أرسل زوجته إلى موطنه ، هشام أيضا متمذهب ، هي المذهبية تحتاج دوما إلى شريك ، المذهبية تقتل فيك الفرد ، تجعلك تميل إلى الجماعة ، هي بحاجة دائما لمن يشدّ أزرك لتستمر ، هي ثقيلة على الفرد وحده ، إنها مثل كرة القدم ، تحتاج دوما لمن يلاعبك و تلاعبه ، الكرة لن تمارسها وحيدا ، الفريق فيها ضرورة ، الآن عرفت لماذا لا أستحلي كرة القدم ، إنها سلوك اجتماعي ، أحسست عذوبة حين سكنت لوحدي ، يرافقني المدير بين الفينة والأخرى إلى مسكني ، يتهاطل عليّ شباب الدوار ، أغلبهم كنت أعرفه في تالوين ، جوّ أحتاجه كثيرا. عبد العزيز أيضا متمذهب ، لكن بدرجة أقلّ ، يقول لي دوما حين نناقش موضوعا ، إن دماغك هذا سيستقيل منك يوما ، أنت تعذبه أكثر ، تدخله متاهات غريبة ، خذها بلطف ، و لا تبحث عن أشياء لن تفيدك في شيء ، هو مذهبيّ و لكنه برغماتي أكثر، لطيف جدّا ، حاصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية .
آن الأوان لتضيف التزاما آخر يا نورالدين ، بداية تخلّص من التدخين ، نجحت بسهولة في الأمر حتى بدا لي يومها أن كلّ شيء ممكن ، الخطوة الثانية هي القراءة ، لا يجب أن تبقى حياتك كلها مجرّد انطباعات ، خذ من تجربة الآخرين و تعلم الأفكار ، الخطوة الموالية والحاسمة كفاك من الهوى و التزم التديّن .
خطوات أنجزتها بكثير من الحرفية ، هذا العام بالضبط سأبدأ في تعرف ينابيع الحركات الإسلامية ، سأقرأ لراشد الغنوشي ، و سيد قطب و عبد السلام ياسين ، و محمد قطب ، و القرضاوي ، سأتعرف على المهدي بن عبود ساقرأ بعض الكتب الدينية رياض الصالحين للنووي ، فقه السيرة لرمضان البوطي . سأقرأ بعد ذلك للمهدي المنجرة و سأتعرف أكثر على عابد الجابري و ضريف في محاضرات مسجّلة تقدمها النقابة ، سأستشعر دور المؤسسة ، ومعاني الدّيموقراطية والمجتمع المدني والعقد الاجتماعي ، سأفكر بطرق أخرى ، أقوم بمراجعات عديدة ، علاقة قوية تربطني ببعض مدرّسي مدرسة الملت أيضا ، واحد منهم يحبّ القراءة باللغة الفرنسية ، نصحني بقراة بعض كتبه ، عنده تعرفت على الإتجاه الفرنكفوني في الكتابة المغربية ، فاطمة المرنيسي "أحلام النساء " سمية نعمان كسّوس " ماوراء الحشمة" أيضا أعطاني روايتين الأولى مجرّد قصة راعي بقر ، الثانية من الروائع العالمية لألان باتون حول الميز العنصري في جنوب أفريقيا . الإدمان غريب ، حين كنت مدخّنا كنت شرها جدّا ، حين بدأت القراءة ، كنت شرها أيضا ، ألا تعرفين يا نفسي الوسطية يوما ، لا أستطيع ، لا أعرف معناها الحقيقي ، كلّنا ندّعي الوسطيّة ، و كلنا لا نعرف متى نتطرّف ، إدمان شيء ما لصيق بالذات و لو تعلّق الأمر بفرقعة الأصابع ، هي الحياة هكذا تسير.
في الموسم الموالي ، عملت في فرعية أخرى هناك التقيت شابّا آخر ، عملة أخرى ، يكتب بعض الخواطر ، أسمعني بعضا منها ، هو يقرأ بالعربية ، معه قرأت رحيل باطما ، و زمن الأخطاء لشكري ، و في هذا الموسم دفعت ملفّي لاجتياز الباكلويا من جديد شعبة الآداب ، لأستطيع التسجيل في الجامعة ، لم أذهب للامتحان ، حاولت أن أراجع المقرّر ، بدا لي الأمر مربكا ، رغم أن قريبي إدريس يحضر من تالوين أحيانا إلى أولوز ليسلّمني المقرّر ، هو واحد من أبناء موسى ، تجمعنا علاقة قوّية ، ابن بلدي البار ، فيلسوف ناعم ، معه قرأت مؤلفي المقرّر ، الريح الشتوية لمبارك ربيع ، و أوراق العروي .
ربيع زميلي قرأ أغلب رويات إحسان عبد القدّوس ، وجدتني لا أميل إلى الرواية العربية و من الآن فصاعدا لن أقرأ في الرواية العربية إلا القليل القليل ، و سأختار فقط بعض كتبات جبران لأن أجنحته المتكسّرة لمست في نفسي وترا غريبا ، لذلك كلّما جاء في طريقي جعلته مؤنسا هو و توفيق الحكيم . العقّاد أيضا آسر فلم أفرّط في قراءة عبقريّاته .
عليّ ، صديق آخر ، رجل سوسيّ الطباع ، رحابة صدر و اعتزاز بالنفس دون غلو ، متسامح كريم ، متزوج يجعلك تحب الزواج ، قريب جدّا إلى نفسي ، رائع الصّحبة أنت ياعلي ، هو و ربيع يحبّان الرياضة ، معهما سأجد نفسي أضيف إلتزاما آخر ، ممارسة الرياضة بشبق حقيقي ، هي السنوات لا تخلو من عيوب ، في هذا العام اشتبكت مع معلّم رابع و صلنا على اثره إلى رجال الدّرك ، لم يكن السبب إلا عدم قبول الإهانة .
في هذه السنة زارني عمّي حملته على درّاجتي النّارية إلى أيت مبارك حيث أدرّس ، سبعة كيلومترات عن أولوز ، طريق طينية ، كلّما سقط المطر أصبت بركا مائية ، طينها شديد التزحلق ، وجدت عمّي هادئا جدّا ، شيء في الرجل لجم حيويّته ، لست أدري ما به ، يحاول التظاهر بين الحين والحين بأنه مرح ، لكنه شيئا يكبّله ، لا يبدو عليه الحزن ، و لا القلق ، لكن وجهه غابت عنه إشراقته المعهودة . لست أدري إن كان رمضان هو ما قهره أو ماذا . غادر إلى سويسرا و كانت هذه آخر مرة يزورنا فيها و يذهب ، في المرة القادمة ، سيعود ليستقرّ في الملت .
في الموسم الموالي رجعت إلى تكركوست حيث قضيت الموسم الأول في أولوز ، هذه المرّة لن أسكن في بناية المدرسة مع عزيز ، اخترت السّكن في مركز أولوز مع واحد من أبناء تكديرت قرب تاركا ، سي محمد ، في هذا العام يسكن معي أخي عبد الفتّاح الذي انتقل إلى الإعدادي ، سي محمد أيضا معه واحد من اخوته يدرس في الإعدادية ، اكترينا منزلا في أولوز ، وهكذا بدأنا العام الجديد ، سي محمد مهما وصفت فلن تجد له مثيلا في تعقّله في مرحه في حياته في رزانته في كلّ شيء ، قد يعتبرني صديقا ، لكنّني أعتبره أكثر من ذلك ، نموذج حي للإنسان الذي يملك فن الحياة ، الحياة ليست مكتسبات فقط ، ليست تصنعا ، ليست خبثا ، ليست ذكاء ، ليست دهاء ، إنها فن العيش، إلى الوقت الذي عاشرت فيه سي محمد لم أكن أعلم أن الحياة فن ، رجل حياته قصيدة ، حياته لوحة ، حياته نغمة ، بسيط جدّا ، راق جدّا ، يمتلك موهبة التّصرف في كلّ المواقف . جميل أن يجعلك القدر تعيش بعض أيّامك مع من يحسن فن العيش .
في هذا العام سأركز على الروايات الفرنسية تحديدا ، قرأت لجيمس هادلي شاز العديد من الروايات البوليسية المترجمة إلى اللغة الفرنسية ، قد تصل إلى أربعة عشر رواية ، و كذلك أمارس الرياضة بهوس شديد أصبحت أتفنّن في كرة القدم بالرجل اليسرى ، أمارس الكراطي في نادي أولوز ، أصبحت رياضيّا حقيقّيا و مبارزا عنيدا ، لكن الأمور لا تسيردائما كما يشتهيه الإنسان ، ذات ليلة من ليلي شهر مارس ،ذهبت لإقاف المحرك الجديد الذي اشتراه أبي في الموسم الماضي ، نستعمله في ضخ الماء و أيضا في إضاة بيتنا ليلا ، وجدت المصباح هناك منطفئا ، فضلت إسكاته دون العودة إلى المنزل لإحضار المصباح الجبيّ ، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا ، مددت يدي في الظلام أحاول إيجاد المحرك الذي يزعجني هديره القوي ، مع أول لمسة أحسست لسعة في أطارف أصابعي ، و صفير ينطلق من المحرك ، أزعجني الصفير ، فرجعت أدراجي بحثا عن مصباح جيبي لأرى ماذا حل ّبه ، عند دخولي البيت تفقّدت يدي أين أظافر أصابعي ، لكأن جنّيّا اقتلعها ، أمعنت النظر ، عظم أصابعي ظاهر كما لو تم تقشيره ، عجبا أين الدّماء ، إنها لم تجد طريقها بعد ، لم تعرف بعد دمائي أن يدي أصيبت ، أيقظت صلاح الدين ، و أحضرت المصباح من عند أمّي و أوقفنا المحرّك ، سكبت الكثير من الكحول على أصابعي التي بدأء تنزف بغزارة ، بعد رتوش خفيف على مظهري ، قمت إلى أساكي بمعية أخي صلاح الدين ، يدي تتقدمني و قد لففتها في قطعة قماش كما لو أنّني في قاعة ملاكمة ، دمائها أحس بها عند مرفقي ، بين الحين والحين أنتظر أن يغمى عليّ من كثرة الدماء النازفة ، لحسن حظي وجدت هناك ناقلة متوجهة نحو أكادير ، ركبتها هابطا قبالة المركز الصّحي في أولوز ، هناك وجدت ممرضا من معارفي ، الطبيب أيضا يعرفني ، أسعفوا يدي التي انتفخت أصابعها الثلاثة المصابة ، لم يسلم غير الخنصر و الإبهام ، ركبت سيارة الإسعاف إلى مستشفى تارودانت ، دخلنا المستشفى قرابة الثانية صباحا ، في قسم المستعجلات يهنّئني الطبيب ، لحسن حظك العظام لم تتكسر ، مرة أخرى فتحوا جراحي و الألم يعتصرني ، أعادوا تضميضها ، فإلى قسم الجراحة ، صلاح الدين عاد مع سائق سيارة الإسعاف إلى أولوز ، و منها سيعود إلى البيت ، أنا بقيت هناك لإجراء العملية .
كان حدثا مؤلما حقا كتبته بتفاصيله الدقيقة ، ربما يوما سيرى النور كقصة قصيرة ، كتبته بيدي اليسرى لأن يمناي كانت عليلة لمدة غير يسيرة ، حتى عندما استأنفت عملي كنت أيضا أكتب على السبورة باليسرى حتى نهاية الموسم . هذا الحدث كان من الأحداث الرئيسة التي جعلتني أكتب .

انتهى الموسم إذن بنهاية الامتحانت ، لم يتبق غير توقيع محضر الخروج في نهاية يونيو ، كنت في الملت أخطّط إلى أين سأسافر في هذا الصيف ، في الموسم الماضي كنت في زاكورة و أكادير ، في صيف آخر كنت في البيضاء ، هذا الموسم لم أقرر بعد أين ستكون وجهتي ، هذه فرصة للتركيز و عند توقيع المحضر نهاية السنة الدّراسية ، سأكون قد اتخذت قراري . كان اليوم جمعة ، و أنا أتهيأ للذهاب للصّلاة ، إذ دخل علينا عمّي عبد السلام فجأة ، فرح جدّي فرحا عظيما و كذا جدّتي ، تعاظمت الحركة في البيت ، أمّي ستعيد طبخ طعام الغداء ، فهذا عبد السلام قد جاء ، يجب أن يكون الغداء على قدّ المقام ، يسلّم عليهم عمّي بكثير من الحرص بل الخجل ، بل شيء غريب ، يقوم إلى خارج البيت دون سبب ، ربما سيدخّن سيجارة ، يعود في طرفة عين ، يشارك في الكلام حينا ، يغيب حينا ، أسمع منه جملا غير مفهومة ، يخرج أبي لأداء الصّلاة بعد أن شربنا الشاي مع الحلوى ، أقوم أنا أيضا للالتحاق بالمسجد ، عمّي يفاجئني أنا أيضا سأذهب إلى المسجد ، يقصف رعد باطش والسماء ملبدّة ، نحن في طريقنا إلى المسجد يهطل مطر قطراته بدينة ، أسرع في خطاي ، عمّي يفتح يديه للسماء و وجهه تصفعه القطرات ، ينطّ كطفل صغير ، يبتهج بانتعاش الجو في يوم شديد الحرارة ، نؤدي الصّلاة ، يلتفّ حوله أهل القرية ، أسحبه برفق ، الغداء في انتظارنا ، يودّعهم على أمل اللّقاء ، يأخذ يدي يتفرس في أصابعي ، هذا هو ما تحدث عنه في الرسالة ، أنا أعرف سبب هذا ، أتذكر لمّا كنت تضرب الحمار بعنف ، كنت تسلخه بلا رحمة ، ما كنت تعرف أنه سينتقم منك .نتناول الغداء ، يخرج من جيبه ورقة نقدية سويرية ، يكمّشها ، يرسلها بعيدا ، هذه مزورة ، يخرج مرة أخرى ، يعود ، أترى يا أبي هذا أنا ، يشير إلى رأس يشبه الروبوت ، غالبا الأوربيون يضعون صور الأموات في أوراقهم النّقديّة ، لكن هذه الورقة خصّصوها لي ، أنا أملك سرّا بنكيا " تو سي نوردين ، لو سكري بونكير " أومأت رأسي المنزلق في غياهب الملكوت ، يقوم مرة أخرى حتّى قبل إنهاء الطّعام ، نسي حذاءه ، يمشي هكذا ، قمت أنا أيضا إلى غرفتي ، آه لو كنت أدخّن لملأت جوفي دخانا ، يعود يقتحم الغرفة عليّ ، تعال يا نورالدين ، أصاحبه ، أنا لن أعود هناك ، سأبقى في بلدي ، سأتزوج ، أتعرف فلانة ، كان أبوها اقترح علي حتّى قبل ذهابي إلى سويسرا أن يزوجني أختها الكبرى ، الآن سأتزوج هذه ، أتعرف مقهى فلان ، سأعمل فيه إنه الآن مغلق ، أنا من سيفتحه ، أنا أتقن العمل في المقاهي أحمل ديبلوما أوربيا ، انتبه ، شممت رائحة ثعبان ، إنه هناك كم هو كبير ، أين يا عمّي ؟ لست أدرى أين ذهب ؟ يدخن سيجارة أخرى ، يرميها بعيدا ، أحسن ما فعلت يا نورالدين تخلصك من هذا الويل .

لا ينقص هذا البيت من كلّ الخيرات غير الجنون ، يا لخراب أبناء موسى ! كان الأمر كابوسا مرعبا ، تصوّر أن تحس يوما بظهرك محميّا و لو خداعا و زورا ، فنحن نخدع أنفسنا أكثر ممّا نخدع الغير ، تستفيق و تجد نفسك مكشوفا عاريا مسلوتا ، كل العوادي لن تقف إلا عندك ، كلّ السهام متوجهة نحوك ، يا رحمااان ارحم ، يا لطيف مزيدا من اللّطف ، كان الوقع شديدا علينا جميعا ، كان الخطب عظيما ، كان و كان ، والحقيقة ليست أكثر من أن عبدالسلام مجنون . كنت أعلم منذ زمان أنّني الأقرب إلى الجنون ، حتى ربيع سألته عائلته ذات يوم مع من تسكن ، فردّ عليهم ، أسكن مع أحدهم ولكن لم أحسم بعد من المجنون فينا ، أنا أم هو ، أنا أيضا في هذه اللحظة يا ربيع ، لست أدري من المجنون أنا أم عمّي ، هو الجنون راحة للمجنون و لو أن المعاناة تظهر عليه ، لكنه طامّة كبرى لدويه ، أي لغة ستفقه ياعمّي ، أنا لم أتعلّم بعد لغة المجانين ، أي أسلوب تريد أن نتبع في التّواصل ، أي منطق تستحليه ، من يعلم .
كانت لحظات رهيبة حقّا ، لكن ما العمل ؟ من كان يملك مفاتيح أسرار الكون فليختر منه ما يريد ، هي الحياة تتغير ، هي الأوضاع تتغير يا عمر . لو أنك هنا يا عمر لأصابك من الدّهول ما أصابني ، فأنت تعرف الرّجل ، ولكن ربما اتّفقتماعلي ، واحد تزوجه القبر و آخر ضمه الجنون إلى عشّه ، لكن صبرا صبرا ، أنا أتحمل عنكما ما لا تطيقانه ، حتى وإن كسر ظهري فسأكون شهيد شهامة ، المجانين هم في طرقي ماذا أفعل ، عبد الهادي انزارن واحد منهم ، مارادونا هو أيضا منهم ، كانطونا أيضا . فمن غيري يحب المجانين ، لنا بعض صفات مشتركة ، شيء في جيناتنا يحب الجنون. لو أصبت بالجنون ما أذهلني الأمر ، فأنا في طريق معبدة إليه منذ الصّغر ، لا يحكم منطق حياتي ، ذاتي لا تحبّ اللّجام ، أليس هذا هو الجنون بعينه .
قال سي محمد يوم حكيت له مصابي : مع الأسف حياتك كلّها ستتغير ، صدقت يا سي محمد ، أنت خير من يعرفني ، حياتي أصابها إعصار ، طوفان ، قل ما شئت إنه التسونامي .

رغم ذلك في العطلة كلّها لم أفارق عمّي ، أشتري له سجائره ، أنام بجانبه ، أضاحكه ، أخرج معه إلى أساكي ، يشرب قهوته ، ذهبت معه إلى أكادير ، في زيارة خاطفة ، انتشى على الكورنيش ، إلى أن أصبح متعافيا بنسبة كبيرة ، أستطيع أن أقول تسعين بالمئة ، لأن عشرة بالمئة من الجنون توجد في الجميع كحد أدنى . أصبح الرجل يعرف ما أصابه ، يعرف أين وصلت به الأمور يسترجع بعض الذكريات ، بعض الفرص الضائعة ، بعض و بعض ، وكلّما أحسست أنه يبالغ في البوح و سيتنقل إلى جلد الذات غيرت الموضوع ، أعطيه فسحة بين الفينة والأخرى يختلي فيها بذاته ، كان شغلي الشّاغل طوال ثلاثة أشهر و حين جاء موعد الذهاب إلى أولوز ، ألححت عليه بمرافقتي لكنّه رفض ، اقترحت عليه أن يزورني من فترة لأخرى فقبل . أراسل طليقته ، قسوت عليها في كثير من الرّسائل ، حتى خبرت الكثير من معاناته و تركتها تواصل حياتها .