الموضوع: حديث الظلام
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
10

المشاهدات
1538
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
03-11-2021, 04:46 PM
المشاركة 1
03-11-2021, 04:46 PM
المشاركة 1
افتراضي حديث الظلام
حديث الظلام*


يتقدمه عكازه، به بتحسس إن كانت الأرض لا تزال صلبة كما *تركها قبل أن يفقد بصره، به يهش على أطياف العتمة لتفسح المجال لرجليه فتستمران في الخطو. قد تكون له فيه مآرب أخرى إن اشتد عليه الظلام، وتخمرت في دنياه لواعجه،*يسوط به القريب قبل البعيد. في الأسابيع الأخيرة اهتدى لبعض بصيرة، وقرر أن يسامر حلكة هذا الليل السرمدي رغم قبح منظره، يهادن هذه الآفة التي لم يجد منها مفرا.

وقفت سيارة الأجرة وفتحت ريحانة الباب الخلفي، ساعدته على إيجاد الفتحة، دخل منها بكثير من التخبط، لم يعتد بعد التملص من شباك هذه الظلمة الكاسحة التي لم تبق مكانا إلا ضمته لمملكتها، يخطر بباله بين الفينة والأخرى أن ضبابها سينقشع، وستتمزق حجاباتها تاركة خيوط الشمس تحيي عينيه الذابلتين، يرواده في المنام حلم زهري جميل، أنه استعاد سلطان بصره وبإمكانه أن يميز التفاحة الحمراء عن الصفراء، بل يستطيع وضع الخيط في ثقب الإبرة ليخيط تمزقات حسبها في غفلته الأولى شروخا عظيمة شوهت ملاحة عمره، توقظه ريحانه من شروده الذي بات يتكرر في الآونة الأخيرة: "التفت إلي لأسوي طاقيتك التي تململت عن موضعها." أدار رأسه نحو زوجته قائلا: "افعلي يا رفيقة الدرب، لست أدري ما أنا فاعل لولا وجودك بجانبي." همست قرب أذنه ضاغطة على كفه: "ألا تخجل؟ لسنا وحدنا هنا!" يضلله العمى فيخيل إليه أنه وحده من يسكن هذا العالم، أذنه تلتقط ما يتفوه به الأثير من أنغام تقاوم ضجيج المدينة وهدير محرك السيارة. فجأة كبح السائق السيارة بعنف فارتطم رأسه بكرسي السائق الذي أرخى أحزمة الكلام فبانت عوراته. وضع سبابتيه في أذنيه بينما ريحانة تحوقل، ولسانه يلهج في حرقة: فقد الناس أبصارهم، فقد الناس أبصارهم. *

وقفت السيارة عند مدخل الحديقة، ترجل من العرية وسلمت له ريحانة عكازه، انتصب شامخا ينتظر أن تقدم الأجرة للسائق لترشده إلى مجلس كان بالأمس البعيد روضة أحلامه، فيه أمضى شروق شبابه، قصده اليوم لينعش بصيرة كادت تذوب في بحار السواد.*تقتنص أذناه بعض الأصوات الطائشة، إيقاع نقرات حذاء يمر بجانبه مراقصا وجيب فؤاده، ضحكة منفلتة آتية من هناك، تذكره أن الحياة لا تزال باسمة، تغريدة بلبل يغني مواويل الضياء غير عابئ بصمم الطبيعة. أنفه يمتد مسترقا عطرا فاخرا ينفذ إلى أعماقه مخترقا عتمة الدجى، بينما خطواته المحسوبة تتعمق في الحديقة. جلس أخيرا في زاويته المعتادة. سأل صاحبته: ألا تزال أوراق البرتقالة خضراء؟ ردت عليه باستغراب: هل حدث لعقلك شيء؟ نعم لا تزال خضراء. طمأنها: "حسنا حسنا حبيبتي وهل لا يزال الورد بشوكه؟" أجابته بنبرة تهكم: "يمكنك أن تتأكد بنفسك، هل أدلك عليه؟" ابتسم مازحا: "لا عليك، زهور الحديقة تناديني روائحها، أستطيع محادثها عن بعد، فقط كسواتها فقدت ألوانها. انظري هناك بعيدا *هل لا تزال النافذة مفتوحة؟ من تلك التي تلوح بالمنيديل البرتقالي؟" قالت ريحانة: "ألا تزال تتذكر؟ ما أغباك! ألا تعلم أن الحي القديم سحق منذ أزمان ونبتت مكانه الأبراج الشاهقة." قال: "أعرف،لكنني أراك هناك، أرى إشراقة وجهك، أرى أنني بدأت أرى.