عرض مشاركة واحدة
قديم 12-29-2010, 07:56 PM
المشاركة 137
عبد السلام بركات زريق
مشرف منبر الشعر الفصيح

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية المشرف المميز الألفية الأولى الحضور المميز 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي

المصدر
ديوان نداء الرميم
رقم القصيدة (3)



شُلَّتْ يَميني



كتبها الشاعر عند بتر ساقي شقيقه
الأصغر"غازي" وكان عمره ثمانية
عشر عاماً إثر حادث أليم عام 1976



شُلَّتْ يميني فلمْ تُعقدْ لزْنَّاري
إذ وقَّعتْ يا ضِيا عَيْنيَّ إقراري


خُيِّرتُ فيكَ ولم أخترْ فأَحرجني
قولُ الطَّبيبِ على عمدٍ وإصرارِ

وقَّعتُ باسميَ أوراقاً لوَ انَّ بها
روحاً أحسَّتْ لَظى الإحراقِ من ناري


وقَّعتُها وبودِّي لو أمزِّقُها
كما تمزَّقَ قلبي عندَ إنذاري


كم كنتُ أعشقُ توقيعي أنمِّقُه
على الطُّروسِ بإجلالٍ وإكبارِ

به تقاضيتُ آلافاً مؤلَّفةً
خلالَ عشرينَ تدريساً لأَطهارِ

كم من رسائلِ حبٍّ كنتُ أكتبُها
ومن قصائدَ ضمَّتْ كُلَّ أسراري


ذيَّلتُها بتواقيعي مؤنَّقَةً
خلَّدتُ فيها أحاسيسي بأشعاري


واليومَ أمقتُ توقيعي لأنَّ به
سلَّمتُ ساقيكَ وا تعسيْ لبتَّارِ


* * *

قالَ الطبيبُ تخيَّرْ في أخيكَ وفي
ساقَيْهِ واحكمْ ولا تجنحْ لأعذارِ

فاتَ الأوانُ فماذا كان يشغلُكُمْ
عن المجيءِ به في نصفِ أيَّارِ

قلتُ : الطبيبُ مساءَ السبتِ أنذرني
ألا أسيرَ بهِ لو بضعَ أمتارِ


دمشقُ : ماذا بها ؟ سلْها لقد شهدتْ
أنِّي المُجلِّي ولن تسطيعَ إنكاري

غداً يعودُ على ساقيهِ مُنتصباً
هذا اختصاصي ولم أُلحقْ بمضماري


لكنَّه عادَ بعدَ الشَّوطِ مُرتدياً
يومَ الثلاثاءِ ثوبَ الخِزيِ والعارِ


إلى المواساةِ* أسرعْ في أخيكَ وخُذْ
هذي الرسالةَ فيها كلُّ أوزاري


كذا قضى اللهُ في ساقَيْهِ فامضِ به
إلى دمشقَ ولا تعبأْ بأسفارِ


* * *

فضَّ الرسالةَ "يحيى"* وهو متلمِسٌ
عُذراً لمُستهتِرٍ بالطبِّ جَزَّارِ


وراحَ ينظرُ في ساقَيْ أخي وعلى
شفاهِهِ دونَ نُطقٍ ألفُ إشعارِ


لا بدَّ من بَترِ ساقيهِ بلا جَدلٍ
جلَّ المُصابُ وهذي حكمةُ الباري


* * *

وجاءني الصحبُ والآلامُ تطحنُني
يحاولونَ بُعيْدَ البترِ إخباري


الحمدُ للهِ .. تَمَّ البترُ فامضِ إلى
سريرهِ بفؤادٍ جدِّ صبَّارِ


سلِّمْ عليهِ ولا تُظهِرْ لهُ ألماً
واحبسْ دموعَكَ كالصِّديقِ في الغارِ

* * *


وأقبلتْ نسمةٌ عذراء صافيةٌ
كأنَّما الوحيُ في أعطافِها سارِ

دخلتُ والبسمةُ الحَيرى تؤنِّبُني
وتُنذرُ الصَّمتَ في صدري بإعصارِ

أحرقتُ سيلَ دموعي وانحنتُ على
سريرهِ وأمامي ألفُ تَذكارِ

بالأمسِ كانَ على ساقَيهِ يرقُصُ لي
والأهلُ من حولهِ أطواقُ أزهارِ

أمي أبي .. أخوتي .. عمِّي .. وزوجتُه
أبناءُ عمِّي .. وأخوالي .. وأصهاري

في كلِّ يومٍ لهمْ في البيتِ أُمسيةٌ
أبهى من الزهرِ في أحضانِ آذارِ

أبي يغنِّي وأمي تَنْتشي طَرباً
تُخْزي العيونَ بإعلانٍ وإسرارِ


"غازي": وألفُ صلاةِ اللهِ يا ولدي
على النبيِّ يليها فيضُ أذكارِ


* * *

هذا الشريطُ الذي لا ينتهي أبداً
مدى الحياةِ غدا يَحتلُّ أفكاري


إنْ زارني النومُ لا أغفو على حُلُمٍ
إلا رأيتُ أخي ما بينَ أخطارِ


يواجهُ الحادثَ المشؤومَ وا لَهَفيْ
عليه ينزفُ ملفوفاً بأطمارِ


فيهربُ النومُ مذعوراً ويتركُني
لِمَا أعانيهِ في أغوارِ أغواري


* * *

أنا الذي بُتِرتْ ساقاهُ ليسَ أخي
ودُقَّ في نعشِ موتي ألفُ مسمارِ

إيهٍ أخي .. يا جراحاً أجهدتْ كَبِدي
وجمرةً أحرقتْ لحني ومزماري


ودَّعتُ كلَّ أغاريدي التي سَلَفَتْ
وبِتُّ أمقُتُ أوتاري وقيثارتي


قد كنتُ آسو جراحاتِي أضمِّدُها
بالصَّبرِ حيناً وأحياناً بسُمَّارِ


حتى إذا الغيبُ وافاني بما صَنَعَتْ
كَفُّ المقاديرِ تُعشي نورَ أبصاري


تذرَّعَ القلبُ بالصَّبرِ القتيلِ على
ضفافِ جُرْحٍ عديمِ الشطِّ نغَّارِ

ورحتُ أحفرُ قبري ثم أردُمُه
وقَلَّمَ الحفرُ إثرَ الحَفرِ أظفاري

وعُدتُ أَحملُ آلامي مجسَّدةً
في بترِ ساقَيْ أخٍ كاللَّيثِ زآرِ

تجرَّعَ الموتَ في المشفى وجَرَّعني
مرارةَ الصمتِ في يَحمومِ أقداري

حتى وصلتُ به وادي حماةَ وقد
أَحسستُ أنِّيَ مجروفٌ بتيَّارِ


أمي التي لم تزلْ في البيتِ قابعةً
ماذا أقول لها ؟ يا شؤمَ أخباري


ووالدي وجميعُ الأهلِ إذْ حَسِبوا
أنِّي رَجعْتُ بإكليلٍ من الغارِ

تَرقبونيَ شهراً تَستحمُّ بهِ
آمالُهم بين تصديقٍ وإنكارِ

ما أهونَ الموتَ يَطويني على عَجَلِ
وما أشقَّ دُخولي ساحةَ الدارِ


وانشقَّ عن صدرِ أمِّي الثوبُ واندفعتْ
نحوَ السَّريرِ بثديٍ غيرِ درَّارِ

قد جفَّ من لَهَبِ السَّبعينَ فاغتنمتْ
هذا اللقاءَ لتَرويْ النَّارَ بالنارِ


*المواساة .. من أهم مشافي العاصمة دمشق
*يحيى .. الطبيب يحيى حمادة الخيَّاط