عرض مشاركة واحدة
قديم 02-05-2011, 05:09 PM
المشاركة 27
سحر الناجي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



** العقلانية: جدل الفلسفة والدين
د.محمد عثمان الخشت**

التعريف:
يناقش مفهوم العقلانية في الساحة الفكرية عادة تحت وطأة الجدل السياسي حول العلمانية والدين، حيث يحتكر الطرف العلماني الحديث باسم العقلانية في حين يبدو وكأن الطرف الذي يدافع عن الدور الفعال للدين في المجال العام بدوائره المختلفة يقف موقف التحفظ من العقلانية إن لم يكن العداء لها، وفي حين يرفع الفريق العلماني شعارات الاستنارة ويتهم خصومه بالرجعية والظلامية والدوغمائية بل والتمسك بالخرافة، يتهم الفريق المنافح عن الدين معارضيه بالاستهانة بالغيب والوحي وتقديم العقل على النص والرغبة في التحلل من القيم الأخلاقية والقواعد الشرعية.
هذا الجدل يحتاج لكسر حلقته المفرغة، ومفهوم العقلانية المختطف من فريق والمضطهد من فريق آخر يحتاج لاستنقاذ، ولن يمكننا أن نقوم بذلك بدون تحليل فلسفي عميق للمفهوم، وهو ما سنسعى إليه هنا.
وبداية نقول إن العقلانية ليست مذهبًا مغلقاً يضم فريقاً من الأنصار، مثلما الحال مع الماركسية أو الوجودية أو الليبرالية مثلاً، بل هي نزعة ومنهج في التفكير ينحو إليه المفكرون والفلاسفة بل والفقهاء داخل منظوماتهم ومذاهبهم الفكرية أو الفلسفية أو الشرعية، مُولِين العقل مكانة محورية سواء في نظرية المعرفة أو في فهم العالم، أو -في حالة الفلسفة والفقه الإسلامي- في تحكيم الشرع والاجتهاد في فهم الوحي وتنزيله وتطبيق السنة، وتأصيل بعدهما الإنساني والاجتماعي فيما وراء سياقهما التاريخي.
فالعقلانية اقتراب فكري يعتبر العقل مركزيًّا في توليد المعرفة الصحيحة. ويتحدد معنى "العقلانية" المقصود بحسب المجال: نظرية المعرفة، الدين، علم الأخلاق، المنطق، العلم الطبيعي والرياضي. لكن الاستخدام الأكثر شيوعاً للكلمة يتعلق بنظرية المعرفة واقتراب التعامل مع الدين (وحياً ونبوة) كمصدر للمعرفة.
أما معنى العقلانية في مجال نظرية المعرفة فهو ذلك المذهب الذي يرى أن المعرفة اليقينية لا بد أن تكون أولاً: كلية بحيث تشمل القضية جميع الحالات الجزئية، وثانياً: ضرورية بحيث تلزم النتائج عن المقدمات لزوماً ضروريًّا. وترى العقلانية الفلسفية أن الكلية والضرورة كصفتين منطقيتين للمعرفة الحقة لا يمكن أن تستنتجا من التجربة فقط، وأن عموميتها تستنتج من العقل نفسه: إما من التصورات المفطورة في العقل (مثل نظرية الأفكار الفطرية عند ديكارت)، أو من التصورات الموجودة فقط في صورة الاستعدادات القبلية للعقل التي تمارس التجربة تأثيرها المنبه على ظهورها، لكن سمة الكلية المطلقة والضرورة المطلقة تعطى لها قبل التجريب الواقعي، وأحكام العقل والصور القبلية مستقلة بشكل مطلق عن التجربة (كما عند الفيلسوف الألماني كانط Kant). بهذا المعنى تقف "العقلانية" كفلسفة وكمنهج في مواجهة "التجريبية" التي ترى أن المعرفة اليقينية تنبع من التجربة لا من العقل. وهكذا فإن تميز العقلانية يتمثل في كونها تنكر قضية أن الكلية والضرورة تنشآن من التجربة.
وأما فيما يتعلق بالموقف من الدين؛ فيشير وصف العقلانية إلى أصحاب رؤى متعددة وبالغة التفاوت بما يصعب معه -كما ذكرنا- اعتبارهم مذهبا أو مدرسة فكرية متجانسة، فمنهم القائل بأن المذاهب الدينية ينبغي أن تختبر بمحك عقلي. أو يشير الوصف أحياناً للقائلين بأنه لا يجوز الإيمان بخوارق الطبيعة، وهذا المعنى الأخير لا ينطبق على كل العقلانيين؛ لأن منهم من يقبل المعجزات ويسوغها عقلانيا مثل الفيلسوف ليبنتز، وأيضاً يطلق وصف العقلانية على الذين يقبلون المعتقدات الدينية لكن بعد اختبارها اختبارا عقليًّا، كما يطلق على المؤمنين الذين يفسرون الدين في ضوء العقل ويعتبرون أنهما لا ينفكان عن بعضهما البعض.
فالعقلانية ليست بالضرورة ضد الدين، فهي تيار واسع ومتنوع المشارب ومتفاوت فيما ينطلق منه من مسلمات وينتهي إليه من نتائج. وعلى سبيل المثال اعتقد اثنان من العقلانيين اعتقادات متناقضة تماماً وأخذ كل منهما موقفاً مختلفاً عن الآخر بالكلية بشأن علاقة الدين بالعقل، ففي حين رأى لوك Locke (1632- 1704) أن المبادئ الإلهية والأخلاقية قابلة لإقامة البرهان العقلي عليها، فإن هيوم Hume (1711-1776) أنكر ذلك، أي قال بأنها غير قابلة للبرهنة.
فيجب عدم الخلط –كما هو الحال في بعض الكتابات- بين العقلانية والتجريبية واختزالهما معاً باعتبارهما يمثلان المذهب الوضعي بالمعنى الذي يقابل الغيبي أو الديني، إذ إن العقلانية تؤمن بأفكار عن الفطرة العقلية والرشد العام والمشترك في حده الأدنى بين الناس وهي أفكار من قواعد وأسس التكليف في المنظور الشرعي وعليها تنبني المسئولية الفردية عن التزام التوحيد، بل هي مناط العبودية والحساب. فالتصنيف أعقد من ثنائية الوضعي في مقابل الديني التي نجدها في معظم الكتابات الإسلامية السائدة والتي قليلاً ما تدرس المناهج الفلسفية أو تدرك تركيبها وتنوعها بالعمق الذي فهمها به السلف من الفقهاء أو الفلاسفة المسلمين.
فقد أكد بعض علماء السلف على موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول مثل ابن تيمية، بينما انحرف بعضهم بالعقل في موقفه من الدين مثل أبي بكر الرازي.
وجدير بالذكر أن مصطلح العقلانية كان يستخدم في الفلسفة الغربية الحديثة لوصف الاتجاه المعارض للكهنوت المسيحي والدين، ولا يزال البعض يستخدم العقلانية –خطأ- لتعني معنى متماثلا مع العلمانية أو مع الإلحاد. لكن من وجهة نظر علمية بحتة لا تعني العقلانية بالضرورة هذه المعاني المعادية للدين، بل تحدث عن التوفيق بين العقل والنقل فقهاء المسلمين قبل ظهور العلمانية الغربية وأطروحاتها العقلانية التي كان هدفها التشكيك في المعرفة الدينية وتهميش دور الكنيسة المعرفي ودعم التفكير العلمي الطبيعي والوضعي إبان عصر النهضة. ويمكن القول إن موقف ابن تيمية في كتابه "درء تناقض العقل والنقل" دليل أن العقل الصريح والعقلانية الصريحة لا تدل في حد ذاتها على موقف معاد للدين، ودليل على موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول في الفقه الإسلامي.
لا ينفي هذا أن بعض العقلانيين كانوا بوضوح ضد الدين، لكن لا شك أيضا أن البعض الآخر يؤمنون بالدين، ويضعون الله تعالى في قلب منظومتهم الفلسفية، ويؤمنون بالوحي ويسعون للتوفيق بين العقل والنقل بطرق مختلفة. بل نجد فلاسفة يذهبون إلى أن النهضة الفكرية والمدنية والحضارة لا تقوم بدون الدين، فجيمس ميل (والد جون ستيوارت ميل) والذي كان من أقطاب التنوير في أسكتلندا، يؤكد على الربط بين العقل والدين من ناحية والدين والمدنية والفضائل المدنية من ناحية أخرى، ونجد جون لوك يؤكد على أن من لا دين له لا أمانة له، ولا يمكن الثقة به اجتماعيًّا، وغيرهم كثير.
وعلى أساس هذا التمييز بين الرؤى المختلفة سوف نتناول رؤى العقلانية موضحين طبيعة الاختلافات بين المدافعين عنها.