عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2010, 11:00 PM
المشاركة 6
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أما نتائج الفكر المعتزلى وشواهده فى تاريخ الأمة ومدى الأثر السلبي العنيف الذى لا زالت تعانى منه أمة الإسلام ليومنا هذا فتلك من الممكن أن نجملها باختصار فيما يلي :

أولا : اعتبر المعتزلة أصول الإسلام أصولا خمسة هى الركن الواجب الاعتقاد به وأجملوها فى التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " 1 "

من خلال تلك الأصول بنى المعتزلة عليها أقوالهم ومعتقداتهم التى تسببت فى فتنة خلق القرآن وتعطيل صفات الله وإنكارها وإنكار المعجزات الغيبية والقول بكفر مرتكب الكبيرة ,
وتكمن المشكلة الحقيقية أن أصول المعتزلة وأقوالهم فى العقائد لم تقتصر عليهم فقط بل إنها مثلت المعين الرئيسي الذى استقي منه معظم الفرق المبتدعة الأخرى " 2 "
كالخوارج الذين كفروا مرتكب الكبيرة وتبرءوا من بعض الصحابة , وبالرغم من أنهم أول فرق الإسلام ظهورا فى التاريخ إلا أن معتقداتهم الكلامية لم تنشأ مع نشأتهم بل نشأت عقب ظهور بدع فرق الكلاميين كالمعتزلة وأخذوا عنهم المنهج الكلامى فى التوحيد والصفات
وكالشيعة الذين عطلوا الصفات فى بعض فرقهم وفى البعض الآخر قاموا بالتجسيم ونحوه , وكل هذا بسبب الأصل الأصيل الذى بنى عليه المعتزلة مذهبهم ألا وهو تقديم العقل كحكم على النصوص جميعا
وعلى عادة أهل الزيغ ـ وقعوا فى تناقض كبير جدا ـ فبينما هم ينادون بحرية العقل والفكر ويدعون للخلاص من أحكام الفقهاء وجمود الدين وتحرير الناس من تلك الأقوال , فوجئنا بهم وهم على هذا المنهج الفلسفي يكفرون سائر الأمة بلا استثناء إذا لم يدرك كل واحد من الأمة إدراكا تاما مقولاتهم الفلسفية المعقدة التى تصعب على العلماء فضلا على العامة , ويناقضون الأصل الأصيل فى الإسلام أنه العقيدة البسيطة السمحة الموافقة للفطرة ,
والغريب أن كثيرا من الناس لا ينتبه إلى حقيقة أن المعتزلة وسائر فرق المبتعدة تكفر جميع المسلمين ممن لم يتابعوهم على تلك المناهج الشاذة , وتلتصق تهمة التكفير بعلماء السنة بينما هؤلاء العلماء منذ مطلع الدعوة المحمدية وهم يقررون الضوابط التى تحكم التكفير وأحكامه وهى الضوابط التى لم يعرفها المعتزلة وغيرهم

ثانيا : لما كانت أقوالهم ومباحثهم الكلامية تتعارض تماما مع نصوص السنة النبوية المبينة للقرآن فى مجمله وتفصيله لم يجد المعتزلة حلا إلا إنكار السنة التى تتعارض مع معتقدهم مهما كانت درجة ثبوتها عند علماء الحديث , وبالتالي ردوا معظم أحاديث الصحيحين والسنن وكل شروح الصحابة والتابعين المتعلقة بالعقائد , وزادوا أيضا عندما ضربوا عرض الحائط بالمرجعية النبوية فخاضوا فى القضايا المتشابهة رغم النهى المشدد ,
وهذه وحدها مصيبة جامعة من عدة وجوه , فهم ابتداء أسقطوا تماما أصول علم الحديث من جرح وتعديل ودراسة المتون والأسانيد التى تثبت بها السنن والأقوال وأنواعها , والإسناد ـ كما اتفق علماء الأمة ـ من الدين وبسواه لقال من شاء بما شاء " 3 "

ومن المستحيل أن نغفل قواعد علم الحديث عند معالجة النصوص صحة وتضعيفا وإلا أصبح الأمر هزلا , ودخل فيه كل داخل بعقله يرفض ما شاء ويقبل ما شاء
ومن ناحية أخرى وقعوا فى تناقض شديد فبينما يقررون أنهم لا يعترفون بالعقائد إلا إذا ثبتت بالتواتر نجدهم يقبلون الأحاديث والواهية والضعيفة وأحيانا الموضوعة إذا وافقت معتقدهم وهواهم , وهم بذلك يضربون القاعدة التى أسسوها لأنفسهم
ومن ناحية ثالثة , حددوا قبولهم الحديث بالتواتر فى أمر العقائد وبذلك ضيعوا جل السنة النبوية التى تتعدى سبعمائة ألف حديث صحيح بالمكرر ثابتة سندا ومتنا عن النبي
وضياع السنة بهذا الشكل يعنى ضياع الدين كله بلا جدال لأن الأحاديث المتواترة لا تتعدى بضع عشرات فقط
وبالتبعية , قاموا بإسقاط حشمة الصحابة والتقليل من أقدارهم وادعوا أن إحدى الطائفتين فى معركة الجمل فاسقة رغم أن الطرف الأول منها على رأسه الإمام على بن أبي طالب والطرف الثانى على رأسه عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعا , وغير ذلك من المعالجات التاريخية الفلسفية التى لا ترضي الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولا تنطبق أيضا على الواقع , فتلك الحروب لم تكن حروب جاه وسلطان بل كانت فتنة اجتهاد وتأويل
وبالتبعية أيضا أسقطوا كل اعتبار لعلماء الحديث والفقه ونقلة العلم المتين وأصحاب المذاهب ولم يكتفوا بذلك بل حاربوهم بالسلطان والنفوذ الطاغى فى عهد المأمون والمعتصم والواثق ووصل الأمر بالجاحظ أحد كبرائهم أن حرض المعتصم على قتل إمام السنة أحمد بن حنبل تحريضا عنيفا قائلا له " اقتله ودمه فى عنقي أنا "
ولم يعرف الإسلام قبل فتنة المعتزلة هذا الإسفاف العلنى المباشر بعلماء الأمة وسلفها الذين نقلوا لنا الدين وحفظوه

ثالثا : كان من أساس دعوة المعتزلة ولوازمها إنكار الفقه وعلوم الشريعة المبنية على الأصول المعتبرة عند العلماء واستبدالها بأهواء علم الكلام " المنطق والفلسفة وغيرها "4 "
, واهتموا اهتماما شديدا باستيراد هذا الفكر الأوربي الذى بذل قرونا فى دراسة وجود الله وتكييف الخالق والمخلوق والبحث فى قدم العالم وغير ذلك من القضايا التى لا تنفع مسلما عاميا أو عالما فضلا على سفاهة الإشتغال بها , فما الفائدة فى شغل العقل بترهات قضايا البحث عن الخالق وأمامك القضية مبسوطة ومشروحة بالقرآن والسنة ,.
ومن هذا الفكر العقيم توارثت أجيال المسلمين تلك العلوم وجعلوها من أسمى العلوم العالية منشغلين عن قضايا الأمة وتراثها
وهذا هو وجه التناقض الثالث ,
فبينما انفردت الأمة الإسلام فى سائر مجالات الفكر من شريعة وعقيدة وحديث وفقه وتفسير ولغة على سائر الأمم وتميزت عن سائر الأمم أن علمها مستقي من مشكاة النبوة وعلماء الإسلام مواريث الأنبياء بإسناد متصل لا يوجد فيه شبهة بعكس الأمم الأخرى كاليهود والنصاري التى تلقت كتبها الرسالية الرئيسية محرفة ومشوهة وبلا أسانيد ولا إثبات

نقول , بينما انفردت أمة الإسلام بهذا واعترف الغربيون بضحالة حضارتهم وجدنا المعتزلة ـ وهم دعاة الفكر كما يقدمون أنفسهم ـ يخترعون منهجا تابعهم عليه أجيال المعاصرين فى رفض تلك العلوم البالغة الثراء والانطلاق إلى العلوم الفكرية الغربية التى ليس فيها موضع اتفاق ولا موضع ثبوت ؟!
وبينما أهملوا الفكر الإسلام ومشكلات المسلمين وجدناهم يجلبون مشكلات الأوربي فى عقائد أرسطو وإقليدس وغيرهم ويعربوها ويضعون لها الحلول التوفيقية ويطرحونها للمسلمين على أنها علوم تعادل أو تفضل ما لدى من المسلمين من علوم وأفكار ؟!
ووجه التناقض هنا واضح لمن يتأمل مدى حماقة الإتجاه الذى يدعى لنفسه الفكر والعقل ويتصرف بلا أدنى عقل ولا أدنى منطق عندما يشغل نفسه بحضارة مبنية على الكلام ويترك حضارة ملئ السمع والبصر أسرف فى نقدها ودراستها عشرات الآلاف من مستشرقي الغرب الذين تركوا ترهاتهم وانشغلوا بالغنى الإسلامى , بينما المعتزلة تائهون فى بحور الجدال

رابعا : فتحوا المجال من أوسع أبوابه للملاحدة والمشككين وأصحاب الأهواء ليضربوا الإسلام من خلالهم ويحاربوه وراء راياتهم , وذلك عندما اعتمدوا العقل مقياسا لقبول الشريعة الغيبية وشرائط الإيمان , ففتحوا المجال بأوسع أبوابه لتقنين الغيب والإيمان لقوانين العقل مما فرغ مفهوم الإيمان من مضمونه وكان من نتائجه أنهم أنكروا عذاب القبر والصراط والكوثر والشفاعة والميزان بالإضافة لأقوالهم فى القدر إلى غير ذلك من مفسدات الإعتقاد لدى عامة الناس
وهذا الاتجاه نفسه ونظرا لما يمثله من هدم للعقيدة لاقي قبولا وترحيبا عارما من المستشرقين الذين أعلنوا تأييدهم سواء القدامى منهم أو المعاصرين لاتجاهات المعتزلة واعتبروهم رواد التنوير وحركة العقل وباعثي نهضة الإسلام !

ولم يتوقف المعتزلة ـ رغم ادعائهم العقل ـ للسؤال كيف يمكن للملاحدة وأعداء الرسالة أن ينقلبوا إلى تأييد المسلمين بهذه الصورة ويحتفون بهم إلى هذه الدرجة , لو أنهم بالفعل كانوا دعاة للإسلام الحق , وكان هذا السؤال وحده يفتح الباب أمام المعتزلة ومن ناصرهم ليتأمل المفارقة والتناقض الذى وقعوا فيه
وهذا هو التناقض الرابع فى منهجهم حيث من المعروف أن المعتزلة كفرقة كلامية كانت لها جهود عظمى فى مجادلة الملاحدة والروم وغيرهم واكتسبوا للإسلام عن طريق الفكر الآلاف المؤلفة , أى أن الغرب ابتداء وأصحاب الديانات الأخرى هم أعداء فكريون بطبيعة الحال للمعتزلة الداعين للإسلام
ومع ذلك فقد انقلبت تلك العداوة من جانب الغرب حفاوة بالغة بفكر المعتزلة تمثلت فى أن الإمبراطورية الرومانية لم تمانع أن تهديهم فى عصر المأمون خلاصة الفكر الجدلى الأوربي وتسمح لهم بترجمته وتشجعهم عليه وتسبغ عليهم ـ كما سبق القول ـ صفات التألق والتفوق , وكل هذا لم يلفت النظر إلى الهدف الواضح لكل عاقل وهو أن تلك الأفكار وهذه المؤلفات ما هى إلا عن مهالك يصرف فيها العقل قواه ولا يخرج منها بعقيدة سليمة مطلقا
وهكذا سمح المعتزلة للغرب أن يمتطيهم كأفراس غزو يردون به الفتح الإسلامى لبلادهم عن طريق فتح عشرات من أبواب الفتن المتمثلة فى التفكير المتحرر بلا حدود فى العقيدة

ومن خلال هذه الشواهد سنعرض لآثار مدرسة المعتزلة فى العصور الحديثة وهى الآثار التى بسطت نفسها على كثير من علماء المسلمين ومفكريهم وأغرقتهم فيها سواء بحسن نية أو بقصد مما جعل بعض الأسماء الأعلام تسقط فى هذا الشرك الذى يدور حول مدار امتهان العلماء والشريعة والحديث وأهله وأحكام وأصول الإسلام
وسنرى من خلال المقارنة أن المعتزلة لهم مواريث أكفاء قاموا فى العصور الحالية بنفس الدور الهادم لحقيقة الدعوة دونما إدراك , وسنرى أن التطابق بين المنهجين والنتائج يكاد يكون تاما وما أشبه الليلة بالبارحة !