عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
19

المشاهدات
3140
 
عبد الكريم الزين
من آل منابر ثقافية

اوسمتي
الوسام الذهبي الألفية الرابعة الألفية الثالثة وسام الإبداع الألفية الثانية التواصل الحضور المميز الألفية الأولى 
مجموع الاوسمة: 8


عبد الكريم الزين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
14,144

+التقييم
11.42

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة
المغرب

رقم العضوية
16516
02-01-2021, 04:19 PM
المشاركة 1
02-01-2021, 04:19 PM
المشاركة 1
افتراضي قصة قصيرة الحادثة
الحادثة



انطلقت سيارة المرسديس بنز تطوي الطريق الاسفلتي الصحراوي الموحش، و استجاب مقودها بمرونة فائقة لقبضة يد المهندس فارس، في حين انشغلت يده الأخرى بهاتفه المحمول. صرخ بصوت مرتفع: " الارسال يتقطع . لا أسمعك جيدا . سأكون هناك بعد ساعة لتوقيع العقد. لم أعد أسمعك".
رمى الهاتف إلى المقعد المجاور بتبرم. دائما ما ينقطع الإرسال في هذه المنطقة الصحراوية. ثم محت ابتسامة عريضة بقايا الاستياء على وجهه الطويل، فبعد ساعة سيوقع لشركته عقد صفقة ضخمة كلفته سنوات من الجهد و السهر.

من بعيد تراءت له شاحنة كبيرة بمقطورة بنفسجية، قادمة من الاتجاه المقابل. قدر أنه سيحاذيها بمنعرج صغير مائل ، فأدار مقود سيارته ملتزما أقصى الجانب الأيمن من الطريق، لكن الشاحنة اتجهت نحوه.
بدا له سائقها كالنائم، فضغط على المنبه بعصبية. تضاعف حجم الشاحنة بسرعة أمامه. تفاداها في آخر لحظة ، فانحرفت سيارته المرسديس خارج الطريق المعبد. أجزاء من الثانية أحس بعدها بلوحة القيادة ترتطم على صدره بعنف وبظلال سوداء تحجب النور عن بصره...

بدأ باسترداد وعيه و تلاشى السواد قليلا عن ناظريه، لكن لزوجة ساخنة تنساب من الأعلى متسربة إلى فمه، و ألما شديد يجتاح أسفل جسده. نظر إلى وجهه في المرآة الداخلية. جرح عميق توسط جبهته و تنزف منه دماء حارة. حاول الخروج من السيارة، فلم يستطع سحب أسفل جسمه. أدرك أن اعوجاج مقدمتها قيد رجليه الموجعتين. أخرج منديله الأبيض و ثبته على الشق النازف من أعلى وجهه، ثم حاول أن يتذكر ما حدث. الشاحنة العريضة و صورة الطفل الضاحك الحاضن لقنينة الحليب الملصقة على مقطورتها. انحرافه عن الطريق، و جذع المغبر لشجرة مبتورة.
سلك الطريق الصحراوي مرات عديدة، و لم يسبق أن رآه ، أو أنه لم يدقق جيدا ليراه. وجوده في هذه الأرض القاحلة الجرداء أمر عجيب. اندثرت كل الأشجار منذ أن زحفت الرمال على جوانب الطريق ، و ظل الجذع يقاوم رافضا الزوال.
نظر إلى لوحة القيادة، و باب السائق الذي انخلع و استقر على بعد أمتار من السيارة، و تساءل لماذا لم تعمل الوسادة الهوائية. أزاح المنديل المتشرب بالدم و تفحص لونه الأحمر الجديد، سيسيل دمه حتى الموت لو بقي محجوزا بالسيارة. يحتاج إلى الإسعاف بأقصى سرعة.

الطريق مقفرة لا صوت فيها يعلو على صوت السكون. تذكر مقولة " مملكتي مقابل حصان ". مستعد هو أيضا أن يتخلى عن كل ما يملك لمن ينجده بالإسعاف. ارتعب حين فكر أنه قد يتخلى رغم أنفه عن كل ذلك بدون مقابل لو استمر دمه في النزيف حتى آخر قطرة. و لربما عثروا عليه بعدها جيفة محبوسة داخل سيارة محطمة.

خيل إليه أنه يسمع صوت سيارة قادمة ، ثم ازداد الصوت وضوحا، فانفرج وجهه المدمي عن ابتسامة أمل آلمت شفتيه المتورمتين.
توقفت سيارة من طراز قديم بلون أخضر فاتح. أطل من نافذتها كهل شاب معظم شعره و نظر إليه، ثم نقل بصره إلى أسفل جسمه العالق، و شغل محرك سيارته و انطلق مبتعدا عنه .
جف ريق فارس، و تكسر أمله قطعا متناثرة و هو يتابع السيارة الخضراء تتقلص لتختفي. تفجر صراخ مكتوم داخل نفسه: "العجوز اللعين . لم يكلف نفسه حتى مجرد الترجل من السيارة. مصيبة تأخذه"
عاوده الألم شديدا، و انسابت من مقلتيه دمعتان لاذعتان امتزجا بالدم على خذيه حين تذكر زوجته الشابة البشوش سهى التي تنتظره قرب مائدة الطعام، و طفليه وائل و ندى اللذين يترقبان عودته في حديقة المنزل، ليفتشا محفظته بحثا عن قطع الشيكولاطه الحلوة.

صوت محرك سيارة مرتفع انتشله من هواجسه، فالتفت ببطء. لمح سيارة دفع رباعي التمع لونها الأسود بشدة، و اصطكت عجلاتها الضخمة بالاسفلت حين توقفت قربه مباشرة. غمره ارتياح عارم و بكى قلبه المنهك من الفرح بعد أن استبدت به وساوس الضياع.
ترجل شاب أنيق يضع نظارة شمسية على مقدمة شعره. أخرج هاتفه وشرع يركب رقم الإسعاف. تبعته فتاة حسناء أخفت وجهها براحتيها مذعورة من مرأى الدماء و سيارة المرسيدس المهشمة.
توقفت سيارة أخرى كبيرة الحجم، و نزل منها رجل سمين بشارب كث. تصبب عرقا و هو يحاول ان يسحب فارس من كتلة المعدن الملتوية بدون جدوى. و أسرع سائق شاحنة نقل ماشية مارة لاحضار ثوب خشن، و شده على الجرح، لكن الدم لم يتوقف عن الجريان.
عربات أخرى بأحجام و ألوان مختلفة توقفت على طول الطريق، و احتشد ركابها حول السيارة المنكوبة. انتصب أحدهم ببذلته الرمادية الأنيقة يبدي حزنه العميق و يلقي خطابا عن خطورة الطرق و حوادث السير و الأحوال السياسية في البلاد.
تسارعت نبضات قلب فارس و زاغت عيناه متنقلة بين الأشخاص الذين رفعوا هواتفهم الذكية. يلتقطون صورا و هم يتأسفون، و آخرون يتصلون و يكررون الاتصال بمصلحة النجدة التي لا تجيب.
"الأغبياء" هتف في نفسه بحنق. ألا يعرفون أن الإرسال منقطع في هذه المنطقة. لماذا لما يذهبون لجلب الإسعاف ؟

امتعق وجهه، و تفصد بقطرات عرق باردة كالثلج. تباطئت أنفاسه و اجتاحه ضعف شديد. تشوش بصره و ثقل سمعه، لكنه استطاع أن يميز صوت صفارة حاد يقترب ، فتح بجهد عينيه واسعا، فأبصر سيارة إسعاف طبية تتقدمها السيارة ذات اللون الأخضر الفاتح.