الموضوع: الانتظار
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
3342
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
12-27-2013, 05:41 AM
المشاركة 1
12-27-2013, 05:41 AM
المشاركة 1
افتراضي الانتظار
منذ أن أغلقوا الباب خلفه أحس وحشة تتسلل إلى نفسه التي تعودت مؤنسا ، لم يتسلم تأشرة صحبتها إلا بعد أعوام مريرة من الانتظار . روحه أصبحت مزدوجة ، فلا يقبل منذ نجح في رهان الزواج بالمشية العرجاء ،
فلا يرى حياته تستقيم هامتها إلا بدعامتين متناغمتين . اليوم أحس أنها سلبت منه ، خطفها القدر بين يديه بل جاء بها برجليه و حملها بيديه و ضعها رهن إشارتهم ، كمن يحمل حبيبه إلى القبر . ليغلق اللحد في وجهه فيعود خاوي الجوف ، بارد المشاعر ، تائه المشية . جلس على كرسي الانتظار للحظة فقامت رجلاه منتفضتين و رعب السنوات العجاف يخز ذاكرته المتكاسلة لعام كامل و هو يرتشف لذة السكون بين يدي حبيبته . سرحت رجلاه خارج المصحة و أوقد سجارة يمشي و يجيء على رصيف الحديقة المحادية للبناية الحاضنة لروحه و القلق يثقل همته ، و ينشط مواجعه ، استقرت ذاكرته عند البداية حيث ذاق أولى لحظات الانتظار ، يومها ما كان يبغي أكثر من تعبئة بطاقة هوية ، فكلما استقبله مكتب أصر على زرع الانتظار في ذهنه كشرط لا يكتمل نصاب الأهلية إلا به .
منذ ذلك اليوم و هو يأخذ من حقن الانتظار ما يجعله يدمن عليه أشد الإدمان ، فلا ينال بغية إلا و قد ثملت نفسه النهمة و تخدرت أنفاسه المدمنة ، و تغيرت ألوان وجهه مرات و مرات ، فمن قاعة الانتظارات لقضاء مآرب شخصية سقيمة إلى لوائح الانتظار لأشهر فأعوام عند المطالب السمينة . و العجيب أن أغلب حاجاته لا تلبى إلا بعد فوات صلاحية لذتها و فساد نشوتها ، بل أحيانا لا تأتي إلا بعد أن يكبر حلمه قدها ، حتى الزفاف لم يحصل عليه إلا بعد كثرة طلبات تكومت في سلات المهملات ، حتى حبيبته هذه لم تأته على جناح السرعة بل جاءت تدب ببطء السلاحف ، فيذكر كم شرطا نزل عليه نزولا ثقيلا ، و كم من الدلال حمل على كتفيه النحيلتين اللتين أضناهما كبح الغيظ و نكران الذات حتى أصبح في عمقه إمعة مسخرا لخدمة القوم ، بل أضحى خاتما ببنصر الشابة توجهه حيث تشاء .
اليوم عاد إلى الانتظار ، لعل هذا المولود هو ما جاءه مسرعا فيكاد يحس قولة بابا تأتيه من بطن حبيبته منذ أيام ، تراه هو أيضا تجرع بعضا من الانتظار هناك ؟ فأراد أن يخرج من تلك الظلمة القاتمة لعل النور و الهواء يفتحان ذهنه المخنوق في رحم الانتظار ، منذ شهور و زوجته تتوجع و الفتى الغاضب من انتظارات والده يركل الأبواب الموصدة في وجهه ، يحس غيظه المتعاظم فيرسل إليه همسات : " يا بني انتظر ، فالعمر طويل جدا ، تعلم أن تتقمص دور غير المبالي ، فإيقاع حياتنا يحب التواضع ، ألم تر كل أولئك المتسرعين فمصيرهم إلى الهلاك أقرب ، فلم العجلة يا ولدي ، فالتأني رديف سلامة و التسرع قرين ندامة . يا بني احرق كل أوراق الأنفة فيك و إلا كنت في عداد الشواذ تنعتك الأصابع ، و تحتسى بفعالك كؤوس الشاي و فناجين القهوة ، وترصع سيرتك الندوات . يا بني على رسلك فالعمر مهما كان قصيرا فهو طويل ." أفسد الانتظار ليلته فهاجم القلعة و عند بوابة المسلخ رأى الطبيب ، فقال له : " مع الأسف كان عليك أن تنتظر على الأقل سنة أخرى ، تسرعت في الإنجاب ، زوجتك عودها لا يزال طريا و بنيتها لم تستطع التحمل ، حاولنا أن ننقذهما لكن دون جدوى " .