عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2012, 12:35 AM
المشاركة 789
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الوسمية رواية تقترب من العالمية

لا بد من تقديم شكل جديد ليعترف الغرب بنا

عابد خزندار

من سنين عديدة، وبالذات منذ أن قرأت "الطوق والأسورة" ليحيى الطاهر عبد الله، لم يشد انتباهي أي عمل محلي أو عربي، اللهم إلا أعمال رجاء عالم، وقد كتبت عنها غير مرة. وبالطبع لم يكن أمامي سوى أن أتحدث عن أعمال غربية، وبالذات عن شكسبير، وعن تيار ما بعد الحداثة باعتباره تياراً لم يطرح على الساحة العربية، في حين أن الحديث قد فاض واستفاض عن "الحداثة" رغم أنها تيار أدبي انتهى في الغرب، وكنسه التاريخ منذ أكثر من خمسين عاما. وفي نفس الوقت حرصت على أن أطرح على الساحة المحلية قضية ما بعد البنيوية في الوقت الذي ما زالت فيه الآراء تصطرع وتحتدم حول البنيوية بين مؤيد ومعارض، وهي قضية انتقلت كما انتقلت معها الحداثة، من الجدل الموضوعي والعقلاني إلى اللا موضوعية. وهذه بالطبع نهاية مأساوية، ستقودنا حتماً، أو هي قد قادتنا فعلاً إلى الصراع الفكري، بدلاً من أن تفضي بنا إلى نوع من الحوار العقلاني الذي تلتقي فيه الآراء حتى لو كان هذا الالتقاء في منتصف الطريق، ذلك أن هذا يعني أننا قد وصلنا إلى غاية مشتركة.

مهما يكن فإنني - كما قلت - وبالذات بعد عودتي من باريس - لم أجد إلا في القليل النادر أي عمل محلي أو عربي يستحق أن أكتب عنه. وفجأة اكتشفت عبد العزيز مشري، اكتشفته من خلال مشاركتي المحدودة في مهرجان الجنادرية، ومن خلال الندوة التي عقدت لقراءة روايته "الوسمية" وهي قراءة قام بها الأستاذ معجب الزهراني، ومن خلال التعقيب والنقاش الذي قام به الدكتور البازعي وفهد الحارثي، والسريحي، والغذامي، والدكتور الشوش، والدكتور سعدون حمادي.. إلخ وقد اكتشفت المشري من خلال الجدل الذي ثار حوله، رغم أن هذا الجدل كان جدلاً عقيماً، ذلك لأن مقدم الورقة وهو الأستاذ معجب الزهراني اتخذ عنواناً لورقته هذا العنوان "لغة المعيش اليومي في الوسمية"، أو شيئاً من هذا القبيل. وعندما انتهى النقاش احتدم الجدل بين حضور الندوة - وقد ذكرت - فيما سبق بعض أسمائهم - حول قضية الفصحى والعامية، بين نقاد للمشري لاستعماله للعامية في عمله الأدبي، متهمين المشري بأنه يريد القضاء على الفصحى، ثم بين هؤلاء وبين نقاد مؤيدين يقررون أن اللجوء إلى العامية أمر لا بد منه إذا أريد منا أن نصف الواقع وصفاً أميناً وصادقاً..إلخ. وفي وسط هذا النقاش العقيم. ضاعت روعة العمل الأدبي، ولم أتمكن من التعرف عليه واستقرائه.
وبعد العودة من الندوة صاحبني في السيارة في الطريق إلى الفندق الصديق حسين علي حسين، وطلبت منه أن يزودني بنسخة من الوسمية. وفي اليوم التالي وجدت في صندوق البريد الخاص بي هذه الرواية، ووجدت بجانبها العمل الأخير لمشري وهو "أسفار السروي" وكانت النتيجة أن حبست نفسي في غرفتي يوماً كاملاً، بنهاره وليله لقراءة المشري وإعادة قراءته، وكما قلت في بداية المقال لم يشد انتباهي في الأعوام الأخيرة أي عمل محلي أو عربي سوى "الطوق والأسورة" وسوى "الوسمية" وقد أحسست عندما فرغت من قراءتها أنني إزاء عمل أدبي لا يرقى إلى مستوى "الطوق والأسورة" فحسب بل يكاد يرقى إلى مستوى أي عمل أدبي عالمي كرواية "مائة عام من العزلة" لماركيز، والفرق بين هذه الرواية وبين "الوسمية" هي أن الأولى ثرية بالأحداث والوقائع والفانتازيا الأمر الذي يجعلها تبدو وكأنها عمل سحري أو تخييلي ليس بمقدور أي كاتب عادي أو حتى جيد بأن يأتي بمثله، بينما نجد أن الأحداث والوقائع نادرة ومحدودة وتكاد تكون عادية في الوسمية، ولكننا إذا أعدنا قراءة الرواية فسندرك أنها تتحدث عن الحياة والموت وقضية البقاء والنجاة في مجتمع زراعي معزول هو الآخر.
و"الوسمية" تنفذ إلى أعماق هذا المجتمع ودخائله لكي تجسم لنا قضية الصراع مع قوى الموت، ومحاولة قهرها في سبيل المحافظة على نوع بدائي ومحدود من الحياة، حياة ليس فيها أي ترف أو رفاهية، بل حياة لا تؤمّن للإنسان إلا القليل من مطالبه البدائية كالأكل والشرب، وحتى هذا القليل مرهون بدورة الطبيعة وتقلباتها، مما يجعل بقاء الإنسان واستمراره في الحياة معتمداً كل الاعتماد على الطبيعة وعلى قدرته في مقاومة الظروف المعادية له، دون أن يتوقع أي مساعدة من الخارج، من المدينة مثلاً، أو من الدولة، والإنسان في الوسمية يحيا ويعيش ويتغلب على الظروف المعادية بدون أن يحتاج إلى قوى من الخارج تسنده وتساعده على البقاء. إن الخارج غائب تماماً عن مجتمع الوسمية، وأبسط دليل على ذلك أنه لا يوجد أي شرطي فيه... وبالطبع لا يوجد بالمقابل أي هيئة، أي أن مجتمع الوسمية ليس بحاجة إلى الخارج بل بالعكس سنجد أن الخارج عندما يصل إلى المدينة عن طريق السيارة فإن مجتمع الوسمية يتفكك ويتلاشى ولا يصبح له أي وجود ويذوب في النهاية في مجامع المدينة.

وكما قلت فإن مجتمع الوسمية لا يستسلم للظروف المعادية، وفي نفس الوقت لا يعتمد على الخارج، وهو ينجح في البقاء من خلال تلاحم أعضائه، فالمجتمع هنا عائلة واحدة مترابطة ليس فيها مكان لأي شاذ، ومجرد وجود هذا الشاذ يعني تخلخل المجتمع وحرمانه من شروط البقاء. ولهذا فإن الوسمية عندما تتأخر ينصرف الذهن فوراً إلى أنه لا بد أن يكون في القرية خائن أو مخرف لم يعترف بذنبه وحينئذ لا بد من قراءة "الراتب" ونموذج "الراتب" ليس نموذجاً مقصوراً على مجتمع "الوسمية" بل يبدو لي أنه من النماذج العليا التي تحدث عنها يونج والتي يتوارثها الإنسان من إنسان البدايات الأولى، ونحن على أية حال نجد هذا النموذج في المجتمع الإغريقي وبالذات في طيبة، حيث يحدثنا سوفوكليس، أن هذه المدينة تعرضت للجفاف والوباء.. ما يتجلى في حديث الكاهن في هذه المسرحية".

" هذه طيبة كما ترى تُهز هزاً عنيفاً وقد اضطرت إلى هوة عميقة، فهي لا تستطيع أن ترفع رأسها، وقد أحدقت بها الأخطار الدامية من كل مكان، إنها تهلك فيما تحتوي الأرض من البذر. إنها تهلك بما تصيب النساء من إجهاض عقيم..إلخ.." (ترجمة طه حسين) ثم نفهم فيما بعد أن السبب فيما حل بطيبة هو أن هناك جريمة لم يعاقب عليها فاعلها، وأن المجرم هو نفسه ملك طيبة أوديب الذي قتل أباه، وتزوج أمه، دون أن يدري، وتنتهي المسرحية بخروج أوديب من طيبة.. ونجاة المدينة من الجفاف والوباء.

وقد قرأت وأنا أكتب هذا الكلام توصيات مهرجان الجنادرية، وقد شدت انتباهي توصيتان الأولى هي :
ثالثاً: دراسة علاقة المأثور الشعبي العربي بالموروثات الشعبية في مختلف أنحاء العالم، وإبراز دور المأثور الشعبي العربي باعتباره حلقة من حلقات الوصل المهمة في الموروث الشعبي العالمي.

أليس هذا هو ما فعل المشري، وهو حتماً لم يقرأ أوديب، وإنما تحدث عن مجتمعه وموروث هذا المجتمع الشعبي، وبدون أن يقصد لفت نظرنا إلى صلة هذا الموروث بالموروث الشعبي العالمي، أي صلة "الراتب" بما حدث في طيبة ومسرحية أوديب لسوفوكليس..

والتوصية الثانية لمهرجان الجنادرية هي:
سابعاً: المحلية في القصة هي خطوة أولى في تاريخ العالمية، ولن يتأتى للقصة العربية أن تحقق هذا الهدف ما لم تنبع من البيئة التي تكسبها الصدق الإنساني.

ونحن هنا في "الوسمية" إزاء عمل محلي نابع من البيئة المحلية، فهل يمكن أن يتجاوز النطاق المحلي ويحقق العالمية؟ وهو ليس نموذجاً محلياً فحسب بل يكاد يكون في نفس الوقت نموذجاً عالمياً. إذ أن مجتمع "الوسمية" ليس مقصوراً على بلادنا، بل أنه موجودٌ في كل المجتمعات الزراعية في العالم، (وخاصة دول العالم الثالث) التي بقيت معزولة عن المدينة، بل أن مجتمع "الوسمية" لا يختلف كثيراً عن مجتمع ماكوندو، القرية التي تدور فيها أحداث رواية "مائة عام من العزلة" والفرق بينهما أن مجتمع ماكوندو قد اقتحمته شركة الموز، وبذلك خرج من عزلته وتبعثر في أنحاء البلاد في حين أن أسرة بيونديا، الأسرة التي أسست ماكوندو، لم يبق منها أحد وانقرضت إلى الأبد، بينما مجتمع "الوسمية" لم يتعرض لغزو أجنبي، وإنما تعرض لغزو المدينة، ومنتجات المجتمع الاستهلاكي الأوروبي، أي أن الطريق الذي بناه أهل القرية كان وبالاً عليهم، لأنه بدلاً من أن ينقل منتجاتهم الزراعية إلى المدينة أغرقهم بمنتجات الخارج التي لا يستطيعون منافستها في أسعارها. وبذلك تركوا عملهم الزراعي، وتفرقوا في أنحاء البلاد للبحث عن وظائف حكومية، وانتهى بذلك مجتمع الوسمية إلى الأبد.
ولا يقتصر وجه الشبه بين مجتمع "الوسمية" ومجتمع ماكوندو على طريقة أساليب الإنتاج الزراعية، بل الأمر يذهب إلى أبعد من ذلك، فهذان المجتمعان يشبهان المجتمعات البدائية، مجتمعات ما قبل التاريخ، في ارتباط دورة الحياة من زواج وإخصاب وإنجاب وولادة وبلوغ دورة الطبيعة من ربيع ومطر وبذور وإخصاب وإنبات، وهو ما يبدو جلياً في أسطورة برسفونة، (رمز) الربيع عند الإغريق وابنه زوس وديمتير، والتي خطفها هاديس (حارس الجحيم) عندما كانت تجمع بعض الأزهار في صقلية، وأخذها إلى الجحيم أو العالم السفلي واتخذها زوجاً له. ولكن أمها ديميتر استعطفت زوس وطلبت منه أن ينقذ ابنتها من براثن هاديس، فتوصل مع الاثنين إلى حل وسط، وهو أن تبقى برسفونة ثلث العام في العالم السفلي، وثلثيه الباقيين فوق الأرض، وبذلك انقسم العام إلى مواسم الخصب والحصاد وموسم الشتاء. وبذلك ارتبطت دورة الحياة بدورة الطبيعة في حياة الإنسان البدائي وهو الأمر الذي نلمسه بوضوح في الوسمية، ولعل المشري (بحسه الفني) قد قصد إليه قصداً، فالفصل الأول يتحدث عن انتظار الوسمية، والفصل الثاني يتحدث عن هطول المطر، والفصل الثالث يتحدث عن زواج بنت حميدة، أي أن نص المطر يستدعي نص الزواج، ومع بداية نمو النبات وبزوغه نجد حكاية عن زلة فتاة، ونجد حكاية عن بلوغ أحمد... الأمر الذي اعتقد أن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي صوره أيضاً حين قال في قصيدته (كان لي قلب):
وأصوات البهائم تختفي في مدخل القرية.
وفي أنفي روائح خصب.
عبير عناق،
ورغبة كائنين اثنين أن يلدا
ونازعني إليك حنين
وناداني إلى عشك
إلى عشي.
طريق ضم أقدامي ثلاث سنين

أي أننا هنا إزاء مأثور شعبي عالمي آخر غير مأثور "الراتب" وهو ارتباط مراسم دورة الحياة بالمواسم الطبيعية.. وهو ما يؤكد توصية مهرجان الجنادرية بارتباط المأثور الشعبي العربي بالموروث العالمي.

وهذا كله يقودنا إلى أن نطرح سؤالاً يتعلق بالتوصية الثانية لمهرجان الجنادرية وهي انطلاق العمل الأدبي من المحلية إلى العالمية. وهذا السؤال هو: هل وصف البيئة المحلية بأمانة وصدق - كما فعل المشري - يكفي لتجاوز المحلية والانطلاق إلى العالمية خاصة إذا كان النموذج المحلي - كما هو الحال في الوسمية - موجوداً على نطاق عالمي؟
في رأيي - وهو رأي تكوّن نتيجة لما حققته الأعمال العربية المترجمة من انتشار أو لا انتشار - إن ذلك لا يكفي، ولا يحقق العالمية، لأن الذي يحقق العالمية هو الشكل وليس المحتوى. وقد يبدو هذا القول غريباً ولكن هذا هو الذي حدث ويحدث فعلاً في تعامل الغرب مع النماذج الأدبية التي تأتيه من الشرق، ولعل أقرب مثل يرد إلى الخاطر في هذا الصدد هو تعامل الغرب مع ثلاثية نجيب محفوظ عندما ترجمت إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وفيما أعرف لم تحدث الثلاثية أي صدى عند المتلقي الإنجليزي، رغم أننا في عالمنا العربي نعتبرها أعظم عمل روائي عربي حتى الآن، أما في فرنسا فقد تصادف حين ترجمت هذه الرواية إلى الفرنسية أنني كنت أعيش في باريس، وقرأت عنها تعليقاً قصيراً ومبستراً في ملحق صحيفة اللوموند الأدبي الذي يصدر في يوم الجمعة من كل أسبوع، وبعد ذلك لم أقرأ عنها أي شيء في الصحف والمجلات الأدبية الفرنسية، ولعل مقال اللوموند كان حاسماً في الحكم عليها بالإعدام، ذلك لأن نجيب محفوظ استخدم في الثلاثية شكلاً من أشكال الرواية الأوروبية يعرف باسم الرواية النهر - Romam Fleuve والتي يسميها نجيب محفوظ نفسه برواية الأجيال، وهو شكل انتهى ودخل التاريخ منذ أكثر من سبعين عاماً، ولم يعد له وجود على الساحة الأوروبية، وحلت محله بالطبع أشكال أخرى من أشكال الرواية، ولهذا فعندما يفد إليهم عمل من الشرق مستورد منهم وفي نفس الوقت مضى وانقضى من واقعهم، فإن النتيجة المنطقية والطبيعية هو أن لا يعبأ به أحد وهذا ما حدث فعلاً بالنسبة لثلاثية نجيب محفوظ، والعديد من الأعمال الأدبية التي ترجمت إلى لغات الغرب. وعدا ذلك فإن العمل الأدبي الوحيد الذي وفد إلى الغرب من الشرق وبها هو ألف ليلة وليلة.. لماذا؟ لأنه قدم لأوروبا شكلاً من أشكال القصص لم تعرفه من قبل. لقد عرف الأوروبيون الملحمة والدراما والتراجيديا والرواية والقصة وربما الحكاية الشعبية، ولكن ألف ليلة وليلة فاجأتهم بشكل جديد لم يعرفوه من قبل، إنها ليست ملحمة وليست رواية وليست قصة، إنها شيء مختلف عن كل ذلك، وهي بالتأكيد ليست مجرد حكاية، إنها بناء فلسفي معقد ينهض على الحكاية، ولكنه يعدوها ليقدم لنا مجموعة من الحكايات التي تتداخل مع بعضها البعض، وتشكل في نفس الوقت حلقة موصولة ومواصلة من التجارب الإنسانية الثرية وهذا ما يجعلها تختلف عن الرواية بشكلها الأوروبي، فالحكاية كما يقول الناقد الألماني بنجامين شفهية، بينما الرواية عبارة عن كتاب لا يتحقق وجوده إلا بالكتابة، ولهذا فإن ظهور الرواية وانتشارها لم يكن ممكناً إلا بعد اختراع الطباعة، وما يمكن نقله وتداوله من فم إلى فم بكل ما يحوي من ثراء ملحمي يختلف كل الاختلاف عن طبيعة محتوى الرواية.
إن الحكم الشفهية التقليدية ملك مشاع للجميع، وتداولها من فم إلى فم يجعل منها تجربة إنسانية مشتركة، ويشارك فيها الراوي والمستمع... والمستمع عندما يصبح راوياً يحكي الحكاية لمستمع آخر.. وهكذا دواليك بحيث لا يعرف في النهاية اسم المؤلف الأول (كما هو الحال في ألف ليلة وليلة)، أما الرواية فتظل ملكاً خاصاً بالمؤلف، لأن المؤلف معزول عن قارئه، وهي عـين اختيارية، وبمجرد أن يعزل المؤلف نفسه عن الآخرين فإنه لا يستطيع أن ينقل لها تجربته الذاتية، إنه لم يتأثر بالحكمة الجماعية التي يكتسبها الراوي (راوي الحكاية)، ولهذا فإن عمله يخلو من أي حكمة، وإذا أخذنا أول وأعظم رواية وهي دون كيخوته فإننا نجد الثروة الروحية والشجاعة والفداء تتحول إلى أعمال طائشة حمقاء خالية من أي حكمة، وما ينسحب على الرواية ينسحب أيضاً على القصة القصيرة، فهي أيضاً قد انعزلت عن التقليد فهي في القصص الذي يتمثل في نسيج متواصل من الحلقات، تستدعي كل حلقة فيه نقطة جديدة، أو إضافة جديدة، أو غزلاً لا ينتهي، مثلما حدث لشهرزاد التي ما أن تنتهي من حكاية حتى تبدأ في التفكير في حكاية جديدة، تضاف إلى الأولى وتكملها، وما أن تنسج هذه الحكاية الجديدة، فإنها تبادر إلى نسج حكاية أخرى.. وهكذا دواليك حتى تصل إلى مجموعة من الحكايات يربطها خيط واحد، لأنها نسجت على منوال واحد، وهو منوال التجربة الجماعية.

صفوة القول إننا إذا أردنا أن نصل إلى العالمية فلا بد أن نقدم للغرب شكلاً جديداً لم يعرفه من قبل، وهذا لا يتحقق بالطبع بتقليد ألف ليلة لأنها أصبحت معروفة ومستهلكة، وإنما بتطوير هذا الكل واستنباط شكل جديد منه، ومع الأسف فقد سبقنا أدباء ما بعد الحداثة خاصة ايتالو كالفينو إلى ذلك، ولهذا فإننا يجب أن لا نقلدهم لأننا عندما نفعل ذلك فلن نأتي بجديد، ولحسن الحظ فإن ثمة أعمالاً عربية ما بعد حداثية أصيلة ليس فيها تقليد لألف ليلة وليلة، وليس فيها تقليد للآتي من الغرب وخاصة تيار ما بعد الحداثة، وإنما تطوير الاثنين معاً، وهو في رأيي تطوير عفوي لا مقصود نتج عن الصدق في وصف البيئة المحلية والمحافظة على تقاليدها في النص الشعبي الشفهي، ومن هذه الأعمال، بعض أعمال الطيب صالح... وأعمال يحيى الطاهر عبد الله، والوسمية، ولهذا فإنني في نهاية المقال أرشح المشري للعالمية.