عرض مشاركة واحدة
قديم 09-27-2015, 01:24 AM
المشاركة 1387
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع ... عبد العزيز المشري


الكتابة والمرض
عبد العزيز المشري
september 26, 2015

عن القدس العربي

عندما قال الشاعر العربي أمل دنقل في آخر أيامه، أنه لا يخاف الموت، بل يخاف العجز، لم يكن محطماً إلى نقطة يظنها البعض الاستسلام.. لا، بل كان يرى في قرارة قناعته أنه أكبر من الإصابة بهذا الخلل الطبيعي السخيف، وكانت نظرته «في البطاقات التي تحمل أسماء قاتلي الزهور، المقدمة إليه من أصدقائه الزوار».
وإذا كانت قناعته النهائية، بأن زائراً أخيراً سيكون مضيفه الأبدي، اسمه الموت، فإن هذا لم يقطعه أبداً عن الورقة والقلم.. عن إدراكه الكامل بالهمّ الخارجي.. بألم الآخرين، وبطمي الجنوب، وباستدراكات أخرى يراها في غاية الهمّ، بعيداً عما يفكر فيه أصدقاؤه وزائروه .
أعتقد أن الإنسان، عندما ينوي الموت، وهو على فراش المرض، فإنه يختار هيئة موته، إنه يموت. المسألة لا علاقة لها بالمنظور الميتافيزيقي، وليست من باب الافتراض المثالي، بل أرى أنها الحقيقة، وضد هذا الشأن من يجد أنه لم يتهيأ للموت، ليس لأنه يخافه، بل لأنه يجد في قدراته التغلب عليه، وأنه يحتاج إلى عمر أطول وأبقى، من أجل أشياء سامية، ليس بقرار الحفاظ على الذات المسكونة برغبة الاستمتاع الاستهلاكي لساعات الحياة.
إننا نجد في التاريخ شخصيات شهيرة وذات رسائل إنسانية تاريخية، لم يجدوا من بقائهم بعد تأديتها سوى أن يتهيأوا للموت.. وكان لهم ذلك، لقد أدوا أماناتهم، وقالوا للناس ما يريدون أن يقولوه، ثم أعدوا لحياتهم ميقاتاً.
بالطبع لا يمكننا أن نجعل من حالات تقبّل أو رفض الموت، والإحساس بالتهيؤ له من عدمه، قانوناً. ولا يمكن اعتباره مقياساً علمياً كاملاً على كل الحالات، إذ أن هذا الشأن يحتاج إلى بحوث طويلة متنوعة الموارد، يعنينا أن تظل في إطار القياس، من خلال التجربة الخاصة، المختلطة برغبة الحياة، والإبداع، والجمال النسبي المعجون بهمّ الكتابة الإبداعية.
ولعل ذلك العشق الجنوني، والركض على حوافّ ثواني العصر، برغبة النبض الدموي في الكتابة، لم يساوم في قبول أي معطل، ولا يراهن على شيء مثلما يراهن على الاستمرارية.. الاستمرارية المطلقة، تلك التي لا ترضى بالتخبؤات والمداهنة، وليس لها أي منافس ولا مقابل ولا معوض، الرغبة الجامحة المبهمة في الإبداع.
أحد الحالات المتكررة في ظرفي الصحي، الذي «ليس من صداقته بدّ»، أن نتائج ضمور أعصاب الأطراف تكاد تحول دون الكتابة، وتبقى الأصابع مشتعلة بالحرارة العالية، مما يستوجب وضعها في الماء، فأحضر «طشتاً» على طاولة الكتابة، أغمس اليدين عشر دقائق لتبرد نصف المدة، أنفقها بين الورقة والقلم، تكون الحروف كبيرة أحياناً ومعوجة، وتتشابك السطور. غير أنها تبقى مسكونة بالرغبة المحمومة، بالانتشاء والمسرة.
لا خلاف، ولكن ما سبب تلك المسرة؟
لا نستطيع أن نقتبسها بميزان ثمرة الإبداع، وأبداً ليس بميزان الانتصار، الذي قد يفسره من يعلم. فالأمر لا رابط بينه وبين التحدي أو «الشطارة». لا، فإنما أجدني ضعيفاً وخاملاً، وقابلاً للانكسار، ومراراً يرتادني حسّ بالغباء، والطفولة في ثوب إنسان كامل البناء، لا رابطة بين ما يظن أنها قدرة غير اعتيادية وبين ما تحمله دواخلي، القوة المحملة بالمسرة تأتينا من هنا فقط.. من الطقس الكتابي، والإبداعي، أما ما عدا ذلك ففي الجورب العتيق.
والآن…
هل يمكن تحويل الألم إلى إبداع؟
قد يبدو سؤال كهذا قشورياً، وربما تعززه بإضافة: وكيف؟
بديهياً نعلم أن المعاناة المعتمدة على التجربة الخاصة، وإلى حد مبالغ فيه، تدفع بالكاتب والمبدع على وجه العموم، إلى استخلاص مركب، يكون بمثابة الرحيق، يقطر بحرارة واقتصاد عن أداة فنّه، وبالتالي فهو محاسب أمام إبداعه عن ذلك الاستخلاص، وهو أيضاً ـ وبدون تكلف ـ سيمضي بانقياد نحو إفاضة مهذبة (لا أعني أخلاقياً) نحو التعبير، وعليه فإن بديهية السؤال في مكانها.
لكننا نرغب في التعرف إلى كيفية الربط بين الألم والكتابة، فعندما يسيطر الألم المتقرح من بيولوجية البشر، فإنه بالضرورة يأتي على هيئة الحس، وهو المدى التأثيري المسيطر على كل انفعالاته ووظائف أعضائه، وهو تلك النافذة الضيقة المحصورة، التي يطل منها إلى الحياة، وعبرها تتحدد نظرته ومفهومه المخزون لفلسفتها. وحينما يكون هاجس الكتابة ممتزجاً بدماء الكاتب، فهو بلا شك مقترن بالألم حين حدوثه.
الكاتب لا يحتاج إلى شهود، حتى يقدموا له مرأى الحواس، بأنه ملتقط ذكي للأشياء، وعاكس حذق للأوجاع المبثوثة في دواخله أو خارجها في المحيط الماضي. فكيف وهو يصارع أوجاعه؟ كيف وهو الذي يعايش الأمر في كل ثواني حياته؟
في تلك الومضة الفاصلة بين نهاية الألم وبين الدخول فيما بعدها، تبدأ حكاية جديدة بلسان وعين مزدهرة لتكفير الآثام، حكاية أخرى لم يكن يحسب لها حساباً لو لم يكن الألم قد عصر صحته.. إنها كالمكافأة الحلوة والمجزية، لا يجد ما يعادلها. جمالها في أنها تتجدد، وفي كل مرة خروج من حالة ألم مستجدة، تتكرر تلك الحكاية، وهكذا.
إننا لا يمكننا وبأي حال من عدم الإدراك، أن نتصور أن الكاتب المتجاوز لآلامه، يختلف عن طبيعة الآدميين في حسه بالألم، فمهما بدا في عين الآخرين أسطورياً، إلا أنه لا يجنح خارج مطارق الألم. الفرق هنا أنه يحوله إلى إبداع، ويجد فيه كامل العزاء والانتصار، وبالتالي الأحقية في تكثيف المقاومة من أجل إبداع أكبر وأجمل. فالألم هنا ـ وهذا ما أريد التنويه عنه ـ ويطوف هناك خارج بدنه، يتحول بين الآخرين، وينصهر بمحبة بالغة، ليكتب عن آلامهم المختزنة في دواخله على شكل تراكم همومي عميق، لذلك فإيـجـابية الألــم تـــكــون بـــارزة عنده، وموظفة توظيفاً نابضاً، مثلما تواجهه أية صدمات تشويهية خارج ذاته.
من «مكاشفات السيف والوردة»، 1993

سارد الجنوب

في سنة 1987، استمع الكاتب والروائي السعودي (1954 ـ 2000) إلى نصيحة من الروائي المصري صنع الله إبراهيم؛ بأنْ يُصدر، في كتاب، الأقاصيص والكتابات والشذرات التي دوّنها من وحي المرض (أصيب المشري بداء السكري في مرحلة مبكرة من حياته، وانعكس عذابات المرض، ومشاقّه العملية، على مسار حياته كإنسان وككاتب أيضاً).
وهكذا كان، فصدرت المجموعة القصصية «الزهور تبحث عن آنية»، التي حملت بعض تجارب المشري في المستشفيات وعلى أسرّة المرض،

- وعكست رغبته الجامحة في إقامة «موازنة يقظة» بين مستوى وعي الكاتب وفنّية كتابته، وبين «لغة مفهومة» تتيح التخاطب مع الناس، وفي الآن ذاته «تستدرك زمام شكلها الفني بصورة جميلة وغير مخلة بمستوى الفنّ فيها»، كما قال.

- قبل هذه المجموعة، في شكل القصة القصيرة دائماً، كان المشري قد أصدر «موت على الماء»، و«أسفار السروي»؛ وبعدها نشر «بوح السنابل»، و«أحوال الديار»، و»جاردينيا تتثاءب في النافذة».

- وأمّا في الرواية، فقد صدر عمله الأول، «الوسمية»، سنة 1982، والذي غاص عميقاً في مناخات القرية السعودية الجنوبية خلال خمسينيات القرن الماضي،

- والتقط الكثير من تفاصيل الحياة الشعبية في 13 لوحة، على نحو جمع بين الواقعية والرمزية،

- وغامر بطرائق في السرد لم تكن مألوفة آنذاك ضمن المشهد القصصي السعودي، فبدا وكأنه ينقّل المؤثرات في أدبه بين يحيى حقي ويوسف إدريس على الصعيد العربي، وبين أونوريه دو بلزاك ووليام فوكنر على الصعيد العالمي. وبمبادرة كريمة من أصدقائه، وخاصة الشاعر السعودي علي الدميني، صدرت بعد وفاة المشري أعماله الروائية في مجلدين، ضمّا «مكاشفات السيف والوردة»، «الغيوم ومنبت الشجر»، «ريح الكادي»، «الحصون»، «صالحة»، «في عشق حتى»، و»المغزول». كما صدرت له مجموعات شعرية، بينها «ترنيمة»، «توسلات في زمن الجفاف»، و»خطوط من رحيق الريشة».

- كان المشري سارداً مثقفاً، بمعنى أنه وظّف في باطن حكاياته الكثير من عناصر الفلسفة والتشكيل والشعر والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والأساطير والرموز،

- ولم يكتفِ بتمثيل ميادين واسعة في توتّر القديم والحديث، ومجتمع البداوة والصحراء ثمّ النفط والعمران، بل تقصّد رسم شخوص كونية الطابع، عريضة الترميز، عابرة للجغرافيات والثقافات.

- وثمة إجماع، بين كتّاب السعودية، غلى المكانة الحداثية التي شغلها المشري، ليس في عداد أبناء الجيل الثاني من كتّاب المملكة فقط، بل على مستوى ريادة فنون السرد وتطويرها أيضاً.

عبد العزيز المشري