عرض مشاركة واحدة
قديم 12-01-2011, 09:19 PM
المشاركة 4
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تَعَـوَّدَ أنْ يَسْتقِـلَّ اللـظـى
ركَابًا وَيَمْتـارَ مَـنْ حَنْظَـلِ


هنا في هذا البيت نجد عبقرية فذة وقدرة اعجازية في الصياغة باستخدام كلمة (تَعَـوَّد) فهي من ناحية تَعُودُ على الزمن، ونحن نعرف أن الشاعر كان قد وحد بين نفسه وبين الزمن في صفة النحول، فكلاهما أصبح ضامر الهيكل من شدة الحب حينما كان الشاعر بعيد عن الحبيبية، ولذلك يمكن أن نستشف من المعنى أن الشاعر يقصد في وصفه هذا أن جسده هو الذي تعود أن يستقل اللظى، أي يركب المخاطر أو النار الحامية التي لا دخان فيها وهي شديدة الاحتراق، واللظى هي النار الملتهبة والمتلهفة والتي تجذب أي شيء لأكلهوحرقه (كلا إنها لظى)، وفي هذا تشخيص آخر شبه الشاعر فيه اللظى، أي النار أو حالة الاحتراق التي كان يشعر بها، وكأنها فرس أو ناقة يستقلها ويسافر بها...

إذ يقول الشاعر بأن جسده وأثناء ذلك الزمن الذي كان يعيش فيه بشوق عنيف لحبيبته يصل إلى حد الاحتراق، لأنها كانت تنأى عنه وتبتعد، كان يستقل اللظى فرسا يسافر فوق صهوتها ربما عبر الفلا والبراح والصحاري الشاسعة في تيه كبير، وهي كناية عن شدة الشوق والحرمان الحارق الذي يكاد يصل لان يكون أشبه بالنار الملتهبة شديدة الاحتراق، ذلك الشعور ساهم لا شك في ضمور جسده أيضا.

ولم تكن حالة الضياع والاحتراق تلك التي اعتادها الجسد أثناء غيابه عن الحبيبية هي السبب الوحيد في ضمور جسده كما نعلم، بل انه الحنظل الذي تَعْوَدَ ذلك الجسد أيضا على تناوله كطعام، وربما أراد الشاعر هنا أن يقول بأن النزر القليل من الطعام والشراب الذي كان يتناوله في شروده وتيهه وسفره إلى اللامكان وهو يعاني من حالة الهذيان تلك كان مذاقه الحنظل وذلك بسبب بعد الحبيبية وصدودها، فكان جسده يحترق في لظى الحب ويصطلي بنار البعد من ناحية ، بينما كان مذاق ما يأكل ( يمتار ) بطعم الحنظل كنتيجة حتمية لتلك الحالة من الشرود التي أصابته.

وهنا أيضا نجد أن الشاعر قد ضمن هذا البيت مزيد من الحركة توحي بها كلمات (يستقل و ركابا) وكأننا نحس دبيب الخيل ومشقة السفر، ونكاد نستشعر حرارة الحب الحارقة من خلال استخدام الشاعر لكلمة (اللظى) فهي كلمة توقظ في الذهن موروث ثقافي مؤثر جدا يُذّكرُ بأشد حالة من حالات العذاب بواسطة الاحتراق وهي لفظة توقظ فينا حاسة اللمس بعنف شديد...كما أن كلمة (حنظل) تستفز في المتلقي حاسة الذوق....وقد نجح الشاعر من جديد في اسر لب المتلقي بهذه الصناعة الشعرية المتفوقة والباهرة من خلال تسخير الحركة والحواس والتصوير الجميل والبليغ...فظل المتلقي مدفوعا ليقف على رؤؤس أصابع قدميه يتابع من يجرى باهتمام شديد ويحاول معرفة ما حصل ويحصل للشاعر وقد استُنفِرت حواسه بكامل طاقتها...وكأن في فمه طعم الحنظل وتلفح جلده نار حامية تَصْلي جلده.

تَوَغَّلَ غَرْبًا وألْقَـى الغِيـابُ
نِصَالاً أصَابَتْـهُ فِـي مَقْتَـلِ


ويستمر الشاعر هنا في وصف حاله وهو يعاني من بُعد الحبيب وصدوده...فهو يمتطي صهوة القلق ويسافر مستوحشا وهو يَهذي ويستقل اللظى فيحترق بنار الحب والهجران ويأكل الحنظل فلا طعم لحياته بل هي بطعم الحنظل عندما يكون بعيدا عن الحبيب...

ولكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد فهو يتوغل في سفره وتيهه إلى جهة الغرب أي جهة الغروب، وكأنه يقارن نفسه بشمس تغرب، وربما في ذلك إشارة إلى اتجاه معاكس لسكن الحبيبة، وهو بذلك الهروب والسفر والتوغل نحو الغرب يبتعد عن الحبيبية، فكان ذلك البعد بمثابة السكاكين التي ألقاها هو فأصابته بمقتل...

وهنا نجد أن الشاعر شخصن الغياب والبعد وجعله وكأنه في حدته مثل السكاكين القاطعة وقد أصابته هذه السكاكين بمقتل وهي كناية عن شدة الحب والألم من البعد والفراق...والمشكلة هي انه هو الذي تسبب بذلك الألم الذي أصابه حين توغل غربا لأنه هو الذي ألقى السكاكين على نفسه بتوغله غربا مبتعدا أكثر عن الحبيبة.

وفي هذا البيت أيضا نجد مزيدا من الحركة نستشفها من كلمة (التوغل)، وفيه صورة الغروب وهي صورة رومانسية لافته للانتباه وتعني الأفول والغياب والبعد وهي عكس الشروق وتوحي بما يصاحب الليل من الكآبة والوحشة والوحدة والشعور بالألم.

وفي الصورة الأخرى نرى سكاكين تتطاير لتصيب ذلك الحبيب العاشق الولهان بمقتل، فنكاد نشتم رائحة الدم الحار المتدفق من جراحه، ونتألم لألمه ونحن نراه وقد انغرست تلك السكاكين في جسده...خاصة عندما نعرف انه هو الذي ألقاها بتوغله غربا وفي ذلك تعبير عن قسوة البعد والفراق....

وفي ذكر المقتل ذكر للموت وذكر الموت في العمل الفني يذكر بأزمة الوجود والعدم، ثنائية الموت والحياة، وهو الامر الأكثر جذبا لذهن المتلقي لما تثير فيه من وجدانيات ومشاعر ومخاوف والم.

إذا بريـاحِ المَـدَى أخْتَلِـي
أشِفُّ وَمَتْنَ الضَّنَـى أعْتَلِـي


وما يزال الشاعر في هذا البيت أيضا يصف حاله وما أصابه ويصيبه من ذلك الحب الذي وقع فيه ولحظات الغرام التي مر بها بعد أن رأى تلك الجميلة...

وفي هذا البيت يصف الشاعر لنا ما يحصل له إذا ما اختلى بنفسه أي جلس وحيدا مختليا بنفسه مستذكرا طعم الحب ولحظات الانبهار تلك التي اختبرها وحسن الحبيب وجماله. وقد شبه الشاعر الحب هنا بالريح العاصفة فالحب يعصف به كما تعصف به الريح بل الرياح... وقد شخصن الريح وجعلها كأنها أنثى يختلي بها.

ويقول لنا أنه في مثل تلك اللحظات من الخلوة يَرِقُ قلبه وحاله ويصبح ضعيفا شفافا، وليس ذلك فقط ولكنه يعتلى (متن الضنى) أي يصبح وكأنه مريض أصابه المرض والهزال الشديد والسقم و(الضنى) هي حالة المريض الذي طال مرضه واشتد، وفي ذلك كناية عن الم الفراق والبعد وصدود الحبيبية...وقد شخصن الشاعر الضنى أيضا فجعله وكأنه كائن يعتلي هو ظهره.

وفي البيت الكثير من الحركة التي نستشفها من حركة الريح بل الرياح والاعتلاء وفيها تشخيص في موقعين (الريح والضنى).

ويمكن قراءة البيت من زاوية أخرى إذا ما اعتبرنا (المدى) هو المكان البعيد الذي يقطن فيه الحبيب وكأن الشاعر يقول إذا ما هبت الريح من جهة الحبيب ووصلتني ولفحتني أصابني السقم والمرض...لأنها تذكره بالحبيبة تلك الجميلة التي سلبت علقه فارتحل مذهولا، تائها، مستوحشا وقد اعتلا صهوة القلق الأول موغلا نحو الغرب تاركا خلفه محبوبته تلك التي أصابه جمالها بالذهول حينما رآها.