عرض مشاركة واحدة
قديم 02-05-2012, 10:57 PM
المشاركة 236
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
يحيى يخلف
مجلة نزوى

ولد يحيى يخلف في بلدة سمخ على الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا عام 1944، وهاجر مع أسرته في نيسان من عام 1948، مدينة إربد بشمال الأردن، حيث درس المراحل المدرسية، ثم درس في رام الله، وحصل على دبلوم المعلمين، وانضم إلى صفوف الثورة الفلسطينية بعد 1967، وكان له دور بارز في أجهزة منظمة التحرير الثقافية، كالأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ونائباً للأمين العام لاتحاد الكتاب العرب، ومدير عام دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس المجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم، وشغل منصب وزير الثقافة في السلطة الفلسطينية من 2003 إلى 2006. أمضى ما بين عامي 1971 و 1982 مابين دمشق وبيروت، إلى أن تم ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية، فكان من المرحلين إلى بلدان شمال إفريقيا، وعاد إلى أراضي السلطة الفلسطينية بعد تأسيس السلطة عام 1994.
بدأ يحيى يخلف إنتاجه الإبداعي في ستينيات القرن الماضي بكتابة القصة القصيرة، ثم بدأ كتابة الرواية، ولفتت روايته الأولى نجران تحت الصفر (1975) الأنظار إلى إمكانيات كاتب روائي مبدع يصرخ محتجاً في وجه الظلم والقهر والتخلف بلغة متفجرة، ناقلاً همه الفلسطيني إلى حيث الظلم والاستعباد والقمع في الجزيرة العربية، عند محاولة اليمن الخروج إلى أفق جديد في الستينات. ثم أصدر رواياته التي تحمل الهم الفلسطيني فأصدر رواية تفاح المجانين (1982) التي سجل فيها بؤس حياة اللاجئين في مخيمات الشتات، وترصد محاولاتهم امتلاك عناصر القوة ورفض الظلم، بطريقة أقرب إلى الأسطورية. ثم أصدر رواية نشيد الحياة (1983) التي حاول فيها أن يستولد الأمل الضائع أو على وشك الضياع بتشتيت المقاومة الفلسطينية في لبنان، إثر اجتياح صيف 1982، ثم جاءت رواية بحيرة وراء الريح (1991) التي يروي من خلالها نكبة 1948 وما واكبها من ارتجالية واضطراب وتمزق في القوى، أدت إلى النكبة، ثم سجل حادثة جزئية في تلك الليلة الطويلة (1992) تتعلق بسقوط طائرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الصحراء الليبية، ثم جاءت رواية نهر يستحم في البحيرة، موضوع هذه الدراسة، وأخيراً أصدر رواية ماء السماء (2008) في عودة لاستكمال بحيرة وراء الريح. هذا بالإضافة إلى مجموعات قصصية أخرى. ويتنوع مستوى هذه الروايات فنياً بين الرمزية في تفاح المجانين، وبين المباشرة والتقريرية في «تلك الليلة الطويلة».

هذه الرواية:
صدرت رواية نهر يستحم في البحيرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 1997. ومن الواضح أن يخلف قام بهذه الرحلة في صيف عام 1996، ثم كتب هذه الرواية. والدليل على ذلك أن يخلف ذكر أنه تم انتشال جثة طيار إسرائيلي وقمرة طائرته من قاع بحيرة طبرية ليلة وجود الراوي في سمخ، بعد أن قضى ثمانية وثلاثين عاماً في قاع البحيرة بعد أن سقطت طائرته في معركة جوية مع الطيران السوري عام 1958. (ص 107).

لقد روى يحيى يخلف نفسه أساس فكرة هذه الرواية «وفي أول مرة زرت البلاد كانت بصحبة الصديق محمد علي طه ومعه صديقي جهاد قرشلي وأبو منهل يرحمه الله. زرنا الناصرة، عكا، سمخ، طمرة وكابل .. وكانت رحلة مهمة. بلغنا طبريا وأصر أبو منهل على أن يرى «بيرتا» .. وهي فتاة يهودية كانت تعمل راقصة في ملهى «الليدو» في طبريا قبل النكبة وكان أفندية يافا وخواجات تل أبيب يخطبون ودها ولكن لم يعجبها سوى قدورة القهوجي وهو شاب عربي عمل ميكانيكياً في طبريا .. فأحبته ونمت قصة عشق ملتهب بينهما .. الغريب أن أهالي المدينة عرباً ويهوداً اعترفوا بهذا الحب. في النكبة غادر أهالي طبريا العرب في إبريل 48 للمنافي وغادر قدورة القهوجي وعائلته إلى مخيم اليرموك بجوار دمشق فأصرت بيرتا الحبيبة على مرافقته برحلة اللجوء .. وعاشت معه شهرين حتى اكتشفت المخابرات السورية وجود يهودية في المخيم فاعتقلوها ولم يفرج عنها إلا بعد التثبت من كونها قصة حب لا قضية تجسس فسلموها للصليب الأحمر وعادت بيرتا لطبريا .. ويقال إنهما تراسلا مدة وما لبثت علاقتهما أن انتهت لكن أبو منهل أصر على البحث عنها عقوداً بعد زيارة البلاد عقب أوسلو .. وبعد جهود متكررة نجح بالعثور عليها بمساعدة معارفها في طبريا فدخل على صالون بيتها حتى دخلت عليه سيدة مسنة تلبس نظارة سميكة وفي أذنها جهاز سماعة والتجاعيد تملأ وجهها لا تتكلم، ولا تسمع ولا ترى .. فجاء يبحث عن التعايش والسلام على شخص بيرتا فوجد هذا السلام لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم وهذا الحدث هو الذي وقف خلف كتابتي رواية «نهر يستحم في البحيرة».(1)
لقد أجرى يحيى يخلف تغييرات طفيفة على هذه القصة الأصلية، عندما سردها في روايته وأضاف إليها بعض الأحداث، وذلك على لسان أكرم عابد حين رواها لراوي الرواية؛ فقد غير اسم العاشق من قدورة قهوجي إلى «فارس الفارس ابن طبرية، الرياضي، الملاكم، القبضاي، شميم الهواء، قطاف الورد.» (ص 74). وغير اسم أبو منهل إلى أكرم عابد، وأصبح مكان اللجوء في الرواية هو مخيم عين الحلوة في لبنان، وليس مخيم اليرموك قرب دمشق. وأضاف إليها قصة حشد أكرم عابد لفريق تلفزيوني ليصور اللقاء التصالحي التاريخي بين بيرتا، وليكون شاهداً على عودة التعايش القديم. وليس في مثل هذه التغييرات بأس، فليس من المطلوب أن تكون الرواية سجلاً تاريخياً دقيقاً، بقدر ما هي بناء فني قائم على التخييل، وإن كان حجم ذلك التخييل في هذه الرواية محدوداً.

إخراج الرواية:
أول ما يصادف قارئ الرواية هو غلافها، وقد انقسمت صفحة الغلاف الأول إلى قسمين: النصف الأعلى من الغلاف يحمل في رأسه اسم الكاتب بخط أحمر، يليه عنوان الرواية بلون أسود على امتداد عرض الصفحة ببنط يقترب من الخط الكوفي، وبتشكيل من تشكيلاته. وبعد العنوان وقريباً من أقصى يسار الصفحة جاء ذكر الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص وبلون أسود في كلمة واحدة «رواية»، وبحرف أصغر من اسم الكاتب، ومن عنوان الرواية. أما النصف الثاني من الصفحة فقد وردت فيه صورة فوتوغرافية ربما كانت لبحيرة طبرية، تبدو فيها البحيرة مائجة، وعلى ضفافها نبتت الأعشاب والنباتات، وفي الأفق الآخر سلسلة جبلية، ويبدو أن الصورة قد أُخذت في يوم غائم أو ضبابي، وغلب عليها اللون القاتم الأسود والبنفسجي. وفي أسفل الصفحة شريط على عرضها، يأتي في عرض أكثر من سنتيمتر واحد، بنفسجي اللون، وفي نهايته اليسرى اسم دار النشر حيث نشرت الرواية. ولم يتقدم نص الرواية أية عتبات مفتاحية كالإهداء أو المقدمة أو غيرها.
أما الغلاف الأخير فقد حمل كلمة من الناشر حول موضوع الرواية وشخصياتها، ويلي الكلمة في نهاية الصفحة بيانات الناشر والموزع في امتداد للشريط الذي جاء في الغلاف الأول.
جاءت الرواية في 144 صفحة من الحجم المتوسط، وكانت طباعتها بحرف واضح، في حين كانت عناوينها الداخلية بخط أكبر ومركز. أما أقسامها فلم يقسم المؤلف الرواية إلى فصول أو أجزاء أو أقسام كما هو مألوف، وانفتحت بدايتها على مشهد سردي وصفي من نافذة تطل على البحر المتوسط، وبدأت بدون عنوان فرعي. وقد تنوعت عناوين لوحاتها ومشاهدها، فالحديث عن أونودو تم تحت عنوان متكرر هو «مشهد» سواء كان السرد بلسان أونودو، أو بلسان الراوي عنه، أو في حوار بين الراوي وبين أونودو. وقد ضمت الصفحات الثماني والثلاثون الأولى من الرواية ستة مشاهد عن أونودو، في حين جاء المشهد السابع قبيل نهاية الرواية. وجاءت هذه المشاهد الستة الأولى حينما كان الراوي لا يزال يعد العدة للرحلة إلى سمخ، في حين جاء المشهد السابع في نهاية الرواية بعد فشل المهمة في الحصول على جثمان عبد الكريم الحمد، فيصرخ أونودو ويحتج على سجن الراوي له في دفتره، وليتحرر من أسر الراوي لكي يعود «لأراقب الشواطئ بمنظاري، وأن أحرس الفكرة التي نذرت حياتي من أجلها.» (ص141).
أما في بقية الرحلة (الرواية) فقد جاءت العناوين قليلة ومتباعدة بحيث أنها لم تتجاوز أربعة عناوين فيما يزيد عن مائة صفحة من صفحات الرواية. وقد تم الفصل بين مقاطع الرواية ولوحاتها عند تغيير السرد زماناً أو مكاناً أو موضوعاً بوضع أربعة من النجوم (****) لتفصل بين مقطع سردي وآخر، وحين يتنقل السرد أو ينقطع أو يتم القفز في الزمن وعن بعض الأحداث.
حكاية الرواية:
تقوم حكاية الرواية على تجربة ذاتية للراوي، سواء كانت تجربة بالفعل أم باستذكار ما روته له أجيال سابقه. وهي تجربة ممتدة في لقطات سريعة أحياناً من الطفولة في سمخ، إلى المنفى والغربة، ثم تجربته بعد عودته إلى الوطن، مروراً بشبابه ودراسته في رام الله وعلاقته القديمة بمجد، وإن كانت التجربة الحالية (العودة والرحلة) هي الغالبة على أحداث الرواية. وهو يورد بين الحين والآخر مقاطع من هذه الذاكرة الممتدة عبر عقود تصل إلى ما يزيد عن نصف قرن. وبالإضافة إلى ذاكرته وتجربته الذاتية، كما استلهم الروائي من التاريخ العالمي، ومن موروثه القرائي شخصية أونودو، الجندي الياباني الذي رفض الاستسلام، أو الأسر، أو إعادة التأهيل، أو البقاء في دهاليز التاريخ فقط.
عاد الراوي إلى الوطن بعد سبع وعشرين سنة من النفي والتشتت في بقاع مختلفة، عاد إلى الوطن الذي نشأ وتعلم فيه، حيث أمضى مدة من حياته في رام الله طالباً قبل حرب 1967، بعد أن كان قد هُجِّر من قريته سمخ إثر النكبة حين كان طفلاً لم يتجاوز عمره السنوات الأربع. ولكن صورة قريته ما زالت ماثلة في خياله، وهو دائم الحنين إليها، حتى أنه كان يحدث مجد عن ذلك من منفاه، ويبدي رغبة في زيارتها.
يعبر الراوي جسر اللنبي (الملك حسين) على نهر الأردن، ومنذ اللحظة الأولى لوصوله يلاحظ الإهمال الذي أصاب الوطن في ظل الاحتلال، كما يلاحظ أن الجنود الإسرائيليين هم من يديرون الحدود، مما يوحي بعدم استقلال الوطن، «في آخر الجسر كان يقف جندي إسرائيلي. جندي أشقر سمين يحمل بندقية (عوزي) ... يصعد الجنود [إلى الحافة] ليدققوا في الأوراق... مرت السيارة في طريق محاط من الجانبين بأسلاك شائكة، وبحقول ألغام، وتوقفت [السيارة] عند حاجز إسرائيلي يقف على جانبيه جنود بالبنادق والخوذ والستر الواقية من الرصاص. سحنات شرقية ... أشار لنا جندي أسود، لعله من الفلاشا الإثيوبية فعبرنا الحاجز، لنصل على الفور إلى الحاجز الفلسطيني» (ص6-7).
وتستمر الرحلة إلى غزة بدون ذكر لتفاصيلها، ويمضي الراوي وقتاً قصيرا فيها، يلاحظ فيها أن بحر غزة ما زال قائما مكانه، فالوطن لم تأخذه قوات الاحتلال معها، فهو باق مهما تعاقبت عليه الظروف، فالاحتلال زائل والوطن وأهله باقون، في حين أبدى الناس سعادتهم وسرورهم بالعائدين، وانتشرت الأعلام وإعلانات التهاني بالعودة. الحركة في الوطن ككل الأوطان، ولكن وضعه مختلف، ففي شوارع غزة ومرافقها «سيارات سرفيس، شرطة مرور، أعلام ترفرف، شعارات على الجدران، فتح – حماس – النسر الأحمر. أتربة على الأرصفة، أكوام قمامة وأوراق تتطاير في الهواء، ها هو الوطن، لحم ودم. ولكنه مثخن بالجراح ... مرت فوقه الزوابع فدمرت كل شيء ما عدا الناس...» (ص 6).
وفي غزة يتلقى الراوي اتصالاً من مجد، صديقته القديمة، تخبره أنها حصلت على هاتفه من ديوان الرئاسة، وأنها ترغب في زيارته، وقد تم ذلك، ولكن الراوي لا تثيره مجد كثيراً، فقد وجدها قد تغيرت، وكبرت، وذهب بريقها، «هل كنت أرغب في رؤيتها أم أنني أدمنت التعود على غياب الوجوه التي كنت أشتاق ذات يوم لمشاهدتها؟ « (ص13)، «لقد كبرت ورحل بريق خاص في عينيها وبدأت التجاعيد تحبو تحت جفنيها» (ص 16) صورة تعبر عن تغييرات ما كانت تروق للراوي الذي يبدو أنه صبغها بنفسيته المأزومة التشاؤمية، ويعبر لها عما يشغل باله «في البداية انتابتني مشاعر ليس لها مثيل ... إنه وطني .. إنني أعود إلى بقعة ما في وطني ...» ويكمل «ما زلت أحاول الاندماج في النسيج، وما زلت بحاجة للمزيد من الوقت كي يكون لي مناخ وطقس وعلاقات وحياة اجتماعية.» (ص 16). ويشعر بالغربة في شوارع غزة في نزعة تشاؤمية سوداوية، حيث التناقض بين العائد إلى الوطن، وما يجب أن تبعثه تلك العودة فيه من فرح وغبطة، وواقع شعوره بالضياع: «أنا العائد أقف ضائعاً في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعر بالرغبة في البكاء.» (ص26).
إنه يتوقع ويحاول أن يندمج مع ذلك النسيج ويتكيف معه بمرور الوقت، وأن يقيم نوعاً من التوازن والانسجام مع المحيط الجديد والواقع الجديد، لكن أونودو (رمز رفض الهزيمة والاستسلام) في داخله يظل يذكره بأن الواقع الجديد غير مقبول وغير منطقي، وبخاصة أن الطرف الآخر لم يتخذ من الإجراءات والسياسات ما يخفف من الاحتقان والعداء التاريخي بين الطرفين، ولم يمهد السبيل لقبول فكرة التعايش بل على العكس من ذلك. يقيم الراوي في هذه المدينة (غزة) غريبا على الرغم من حرص من كان حوله على التخفيف عنه، ولكن ما به أعمق من أن يخفف بمثل ذلك، ويظل غير قادر على الاندماج في النسيج الاجتماعي الفلسطيني الجديد. حلم الراوي بالعودة إلى الوطن فإذا به لاجئ في غزة بعد العودة، يصعب عليه التكيف، ويتعسر عليه فهم ما يجري، وكل ما يحيط به يبعث على الاضطراب والارتباك في الرؤية واستطلاع المستقبل، ويلفه حزن عميق وغضب وسخط صامت وآلام، ينبعث بعضها من الماضي ويبعث الحاضر بعضها الآخر.
الحلم في الوصول إلى سمخ يدفع الراوي للتنسيق مع مجد بعد الحصول على تصريح بالزيارة من السلطات الإسرائيلية لزيارة سمخ، بلدته المحتلة منذ 1948 «كنت راغباً في البداية أن أزور سمخ ... كنت أرغب في أن أرى الحلم الذي عاش في سويداء قلبي، كنت أرغب في أن أرى المحطة، سكة الحديد، طيور الحجل، البحيرة، البنط، بيت اللنش، نبات الشومر والمرار والكرسعنة، كنت على استعداد كي أدفع ما تبقى من عمري من أجل رؤية سطح البحيرة الذي يشبه بطن الغزالة ...» (ص19). يسافر إلى القدس ليلتقي بمجد، التي كانت قد رتبت أن يرافقهما أكرم عابد الذي يسعى إلى البحث عن معشوقة عمه فارس الفارس، يريد أن يعيد الذكرى، ويعيد الماضي إلى الحياة، يريد أن يعيد التعايش بين الفلسطيني واليهودي. كما يريد أن يزور مسقط رأسه في طبرية. ويحدد الراوي هدفه وهدف أكرم على لسان أكرم عابد «إذن أنت تنوي الذهاب إلى البحيرة لرؤية قريتك. – وأنا ذاهب أيضاً إلى البحيرة لرؤية طبرية أولاً ... أكملت مجد جملته الأخرى قائلة: -وللبحث عن بيرتا ثانياً...»(ص43).
بدأت رحلة الراوي من غزة إلى القدس بسيارة أجرة، مروراً بالقرى والبلدات الفلسطينية المحتلة منذ 1948، وقد حرص على ذكر أسمائها وملامحها، وما صادفه خلال هذه الرحلة من حواجز التفتيش، والمظاهر التي لا توحي بالسلام «طوال الطريق جنود ببنادق، وأسلاك شائكة، وطائرات مروحية.» (ص34)، مما زاد من إحساسه بأن الوطن ما زال محتلاً، وأن لا سلام حقيقياً يلوح في الأفق لأن الطرف الآخر لم يؤمن بالسلام، فما زال متحفزاً ومستنفراً. وحين وصل القدس وجدها على غير ما ألفها «أفواج السياح، جنود الاحتلال، مستوطنون قذرون، باعة على الرصيف. مسابح وصلبان وأزياء شعبية، صناديق وتحف وحقائب جلدية، باحة الحرم، قبة الصخرة، ركعتان في الأقصى، دمعة حارقة تنبجس من العين. الطيور تحلق فوق الأسوار. ابتسامة ما. الحجارة صامتة والعشب فوقها يقتات من النار الكامنة في قلبها. الصعود في درب الآلام. الرياح لا تجيد القراءة. يا لمرارة التباين، يا لحلاوة الانسجام. البحيرة لا تزال بعيدة. القدس بوابة الروح. أضيع في ازدحام الأزقة، أدق أبواب الغربة» (ص 37-38).
يلتقي الراوي بمجد التي تخبره أن أكرم عابد سوف يرافقهما في رحلتهما، وينتظرانه في مطعم في قبو يبدو قليل الزبائن لأنهما وصلا إليه مبكرين، ويذكره ذلك المطعم بقصة قبو البصل(2)، وينضم إليهما أكرم، حيث يتناولون الغداء، ويبدي أكرم ضيقه بالمظاهر العسكرية «أية حرية في هذا الحصار؟» (46)، ثم تبدأ رحلتهما إلى سمخ. وفي الطريق كانت تنتاب الراوي مشاعر الضيق مما يجدونه من كثرة الحواجز، ومن ذكريات سابقة حول مشاركاته في الأعمال الفدائية (ص46)، وما يصادف من تغيير في البلدات والقرى الفلسطينية التي أجراها الاحتلال محواً لهويتها الفلسطينية وإقامة المستوطنات التي تحمل أسماء عبرية. ويصادفون في طريقهم الإشاعات حول تغيير نهر الأردن لاتجاهه، والفزع الذي يدب في أوساط المجتمع الإسرائيلي من افتعالات تدعيها الحكومة والجيش الإسرائيلي عن وجود تماسيح تدمر وتخرب. ونصائح بالعودة من حيث أتوا، ولكن الراوي يصر على مواصلة الرحلة، ولو وحيداً.
أما مجد فقد أثارت التحذيرات التي تلقوها من الجنود فزعها الفردي، فهي تخاف أن يحدث ما لا تحمد عقباه فتظل والدتها وحيدة (ص51)، وكادت تعود وأكرم لولا إصرار الراوي على الاستمرار في الرحلة (ص56)، وهو الموقف الوحيد الذي يظهر فيه موقف الراوي في دور الفاعل والمقرر.
بعد وصولهم إلى سمخ يبقى الراوي ومجد في سمخ، في حين ينطلق أكرم عابد للبحث عن بيرتا، ويستعيد الراوي ذكريات نقلها عن أجيال سابقة، والحياة التي سبقت النكبة، ويفاجأ الجميع بالزوارق الإسرائيلية تنتشل جثة طيار إسرائيلي من قاع بحيرة طبرية بعد أن مكث في قمرة طائرته مدة ثمانية وثلاثين عاماً، ووجدت جثته سليمة. بل يمكن القول إن إحساساً بالفجيعة والاغتراب قد هجم عليه، فإذ رأى البحيرة حملته ذكرى الطفولة ورائحة البحيرة إلى التساؤل «هل حقاً أنا في سمخ. هل هذا ما كنت أنتظره وما توقعت أن ألقاه؟ لم أكن أشعر بالألفة مع المكان، فقد تغير كل شيء، اقتلعوا البيوت بالجرافات، وبنوا مكانها عمارات لا علاقة لها بنسيج وطقس المكان، حاولت أن أعيد ترتيب الأماكن والأشياء في خيالي، عند هذا الشاطئ كانت تنمو حياة من نوع آخر، فالبحيرة بالنسبة لأهالي بلدنا مثل الشمس أمِّ الحياة» (ص 99). شعور عميق بالانهزام أمام واقع التهويد، وهو ومجد غريبان بين اليهود والبيوت المهودة على شاطئ البحيرة «كنت أشعر أنني أشبه بحاراً غادر سفينته، وألصق وجهه بزجاج النافذة، وأعلن أنه مهزوم..» (ص116).
قضية أكرم أنه جاء باحثاً عن قصة حب وعلاقة غرامية وتعايش وتسامح –كما وصفها- بين عمه فارس الفارس وبيرتا الراقصة اليهودية قبل الهجرة في مرقص الليدو، ثم هاجرا معا إلى لبنان في النكبة إلى أن أعيدت وحدها لإسرائيل حين افتضح أمرهما. وما زال أكرم يحمل خاتما أهدته بيرتا لعمه، «رمز التعايش، وصورة المستقبل الممكن» وأكرم «الفلسطيني اللاجئ، المغترب، يعود إلى وطنه ليبحث عن الأمل والتعايش والمستقبل» ص122 فماذا وجد؟ عجوزاُ لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم وبالكاد تستطيع المشي بوجه متجعد وذاكرة معطوبة جداً. «لقد جاء أكرم يبحث عن التعايش، فوجد صفحته ملأى بالتجاعيد» ص132 . الخاتم (رمز الارتباط والتعايش) أثار في نفس بيرتا الحنين، ولكن التعايش المأمول الذي أعد له أكرم وسائل الإعلام ليجعل منه حدثاً لم يكن قادرا على القيام نتيجة لوضع بيرتا المشلول. يصاب أكرم بخيبة الأمل الأولى ويمتعض مما جرى وفشلت أول محاولاته. ينتقل الثلاثة في طريقهم إلى تل أبيب للحصول على جثة الشهيد خال الراوي. وبين الأمل واليأس وبين الألم والحسرة يظل الراوي مراقباً أكثر منه فاعلاً أو محاورا ذاته أكثر مما يحاور الآخرين. فماذا يصادفون؟ وماذا يرى أكرم القادم من بلاد الأحلام والتوقعات الكبرى؟؟
يبدي أكرم ضيقه بالمظاهر العسكرية ويحتج بسذاجة من لا يعرف أسس التركيبة الإسرائيلية حين يتساءل إلى متى سوف تستمر إسرائيل بهذا الشكل الأمني والتحفز العسكري وهذه الحشود المسلحة؟ وبعد الوصول إلى المستشفى في حافلة فريق تلفزيوني ليغطي الحدث، يفشل أكرم مرة أخرى في الوصول إلى جثمان خال الراوي على الرغم من السماح له وحده بالدخول إلى المستشفى لكونه يحمل الجنسية الأمريكية، يفشل ويعترف أن التعايش غير ممكن، ويطرد الطاقم التلفزيوني الإسرائيلي المصاحب، ويرفض البقاء معه في السيارة نفسها، وتصرخ المرأة من الفريق التلفزيوني «أيها الفلسطينيون لا تفقدوا الأمل» ص138. لا أدري ماذا أراد يحيى إن لم يكن يقصد الإشارة إلى المراوغات الإسرائيلية في الدعوة للاستمرار في حوار الطرشان الذي نشهده منذ البداية؟
ويصر أكرم على العودة من تل أبيب إلى القدس بسيارة مستأجرة بصحبة الراوي ومجد، ويقرر أن أمر التعايش غير ممكن: «لا فائدة ... لا فائدة.» لقد قرر الإقلاع عن فكرته. وفي الحوار الأخير على نقطة التفتيش الإسرائيلية على مشارف القدس، يعبر أكرم عن خيبة أمل حقيقية وعودة إلى أصل الصراع مجيبا عن سؤال الجندي عن السلاح: صرخ السيد أكرم في وجهه قائلا : القنبلة موجودة داخل صدري ... في أعماقي.. حذار من الاقتراب فقد تنفجر بين لحظة وأخرى». (ص 144).
أجواء الرواية:
تطغى على الراوي مسحة حزن كثيفة في معظم أجزاء الرواية، ويظل يعيش في الماضي، أو صامتاً يتأمل ويحاور نفسه، مبتعداً عما يدور حوله، وفي بعض الأحيان يبدو غير مبال بما يجري من حوله، فلم يبق ما يخاف عليه، يأكله شعور بالخيبة والمرارة واليأس والهزيمة والغربة والوحدة وعدم القدرة على التكيف أو استيعاب ما يدور حوله، فيحن إلى المنفى الذي تركه خلفه، حنيناً لا يقل عن حنينه إلى سمخ، بل قد يزيد عنه، وحين يتمشى على شاطئ بحيرة طبرية مع مجد بعد وصولهما إلى سمخ، هاجمته الذكرى، «أما أنا فقد كنت حزيناً، أرتجف من البرد على الرغم من أن الوقت صيف والشمس ساطعة.» (ص116). وشعر بغربة وانهزام حاد، ولم يعوضه دفء مجد عن دفء عائشة، بل أصبح المنفى أكثر دفئاً «المنفى جميل لأن الأحلام جميلة، والوطن صعب لأنه مثخن بالجراح وتتكسر فيه أجنحة الخيال. فلسطين الحلم ليست فلسطين الواقع. للفلسطينيين» (ص117).
يستغرب ويستهجن الراوي ما حل بسمخ من تغيير ملامحها وهويتها: «أهذه سمخ؟ ... صارت مدينة يهودية جديدة فوق ترابها، على أنقاض بيوتها... سمخ، مدينة تم ترويضها وتهويدها.» (ص80). شعور الراوي بالحزن والأسى لا يتوقف فقط عند مشهد سمخ، بل يمتد إلى الوطن له منذ وطئته قدماه، فسمخ وتغيراتها تذكره بحال الوطن كله، بحاله وشعوره وحزنه العام «منذ وطئت قدماي أرض الوطن وأنا أعيش حالة نصفها فرح ونصفها الآخر حزن وقلق.» (ص 86). ويذكرنا هذا المشهد بموقف صابر في رواية خضر محجز، اقتلوني ومالكا، فقد زار قريته، الجية، بعد احتلال 1967، فماذا وجد؟ «ويذهب إلى «الجيّة» ولا يرى فيها إلا الغرباء، وبقايا البئر و»الزاوية الحديدية» و»رمانة سلطان» و»تينة بهية»... ولا شيء غير ذلك: لا موارس(3)، ولا بيارة، ولا حواكير، ولا وادي، ولا بئر، ولا جابية(4)... ولا حتى قبور من ماتوا...»(5)
التهويد والتخريب والتدمير لم يتوقف عند سمخ، بل طال الوطن كله، فالراوي في رحلته من غزة إلى القدس يمر بالبلدات الفلسطينية التي هوِّدت وحملت أسماء عبرية «عسقلان أصبحت أشكلون، والسوافير صارت شابير، ونخلة جولس تقف وحيدة على التلة، وبقايا البيوت التي لم تقتلعها الجرافات ماتت وحيدة منذ زمن فهي تشبه الأضرحة.» (ص 34).
منذ وطئت قدما الراوي شعر بتلك الغربة والوحدة والحزن والخذلان، وكتعبير عن هذه الغربة، جعل نفسه يقيم في بيت ليس له، ثم يقيم في بيت للضيافة، مما زاد من شعوره بالاغتراب الذي عبر عنه في تردده أن يرفع سماعة الهاتف ليرد على مكالمة قادمة في غياب أهل البيت (ص 12)؛ وحين رفع السماعة وجد مجداً على الطرف الآخر، فيحددان موعداً للقاء.
بحر غزة يذكره ببحيرة طبرية وسمخ، سمخ التي احتلت من سنوات، وهي بعيدة عنه، إنها هناك، والبعد هنا ليس بعداً جغرافياً، بل هو المسافة بين الاحتلال والتحرر، حتى أنه لم يعد يميز بين دموعه ورذاذ البحر (ص22).
ويتماهى شعور الراوي في بعض اللحظات مع شماعر أونودو كما تصورها، فأونودو فضل البقاء في الجزيرة حتى بعد أن أُتي بقائده ليعطيه أمراً بوقف النار وانتهاء الحرب «لكن الحزن الذي كابده كان فوق طاقة احتمال البشر، فلقد وجد نفسه فجأة رجلاً بلا قضية ... ما أصعب أن يكتشف المرء أنه لم تعد له جدوى، وأن أيامه لم تعد ذات قيمة، وأن أجمل سنوات العمر ذهبت هباء.» (ص 37).
الحنين إلى الوطن المحرر يجعله يبحث عنه فيما وصل إليه من جزء من الوطن فلا يجده، لا يجد الوطن الذي حلم به، وناضل من أجله، وتحمل عذابات المنافي والشتات، فحين يرى ما آلت إليه الأحوال في بيسان من تغير أدى إلى تهويدها يبحث عن الماضي، يبحث عن عائشة التونسية حيث تلهمه السكينة هارباً من القلق الذي يبعثه الواقع، وفي زحمة المطعم المليء بالزبائن يشعر بوحدة تأخذه إلى الماضي «هنا، على الرغم من الازدحام، أجد نفسي وحيداً لا أملك سوى الماضي. أبحث عن حلم تشبثت به وتمنيت أن أمسك به بيدي لكتيهما ... أبحث في الماضي عن لحظة سكينة، أتذكرك [عائشة] في هذه اللحظة كما تذكرتك ذات يوم عندما كنت أركب الطائرة» (ص67).
لقد شعر الراوي الذي يمثل يحيى يخلف بالانهزام في هذه الرواية على خلاف ما كان يبعثه من تفاؤل في رواياته السابقة(6)، وسبب هذه الخيبة والشعور العميق بالهزيمة لأنه يشعر أن الهزيمة داخلية هذه المرة، وقد انتهت الثورة إلى طرف يعترف بالاحتلال، وكأن ذلك كان اعترافاً بالهزيمة والاستسلام، كما فعل الضابط الياباني «تاينغوشي» الذي جيء به ليطلب من أونودو أن يستسلم ويعترف بالهزيمة ويعود إلى الحياة الطبيعية. ولا يمكن لأحد أن يفرض مشاعره على الفدائي حين يشعر بالانهزام والخيبة، وأن عليه أن يفرح بالعودة إلى الوطن من المنفى، كما أراد منه د. عادل الأسطة(7). إن الأقرب إلى المنطق ما قاله سليم النفار بهذا الخصوص في مقارنته بين الوطن الحلم والوطن الواقع عند أمثال يحيى يخلف «إن جملة من هذه التداعيات لمعنى الوطن قبلاً وبعد، تجعل من الكاتب الراوي، ومعه جيل من المقاتلين، الحالمين لا يقرون بالانزياحات الحادة لذلك المعنى. ورغم حالة المباغتة المربكة، غير المتخيلة، لكن الكاتب وجيله الذي ذكرته آنفاً، لا يزالون على حلمهم الأول. ممسكين بجمرة الماضي/الجميل، وإن احترقت أكفهم وقلوبهم. إنهم (أونودو) الذي لا يقر بالنهايات الخاسرة، فليصنع الساسة ما يشاؤون، فإن أمثال (أونودو) لا يستطيعون تصديق وقائع مغايرة لتلك التي رسموها، من قلقهم وجهدهم.»(8)
الواقع غير منطقي بالنسبة إلى الراوي/الروائي ولا يقبل به، ولا يقبل بوضع إعادة التأهيل التي رأى الراوي أنها ستجري في منطقة السلطة الفلسطينية، ويرفض أونودو في داخل الراوي أن يؤتى به ليحبس بعيداً عن موطنه الأصلي. ولكي يتجاوز المباشرة والشعارية يستدعي الراوي شخصية موازية له، يلتقي معها، ويتماهى بها أحياناً، ويفترق عنها أحياناً أخرى، تلك هي شخصية هيرو أونودو الذي يرفض الاستسلام، ولا يقبل بالهزيمة، ويفضل العيش في جزيرة معزولة مع بندقيته الصدئة، ومنظاره القديم، لكي لا يصبح رجلاً بدون قضية. وفي ذلك يستخدم الروائي تقنيات المسرح والسينما وتقنية القصة ضمن قصة.
وللابتعاد عن الشعارية والصراخ غُيَّبَ «الغضب عن الرواية وتملكها حزن هادئ رزين وخفتت نبرتها فقاربت الهمس الشعري. «»صباح من ندى ومن كلوروفيل ومن تداعيات ومن أضغاث أحلام وفرح ناقص وابتسامة تشبه البكاء». وترافقها هذه النبرة حتى في أشد فصول الرواية تأزما عندما علم الراوي أن جثة خاله لا تزال محفوظة في الثلاجة، لم يستصرخ ضمير العالم ولا أنّب ولا أدان بل قال: يا عبد الكريم الحمد . . كيف تحملت كل هذا الصقيع طوال هذه المدة وكيف قضيت عمرا آخر في الثلاجة. ألم ترتعد فرائضك, ألم يقشعر بدنك وأنت الذي عشت عمرك كله في الأغوار الحارة؟ أنت الذي هرب من البرد والصقيع من اجل نهاية أكثر دفئا... كيف داهمك هذا البرد الذي لا يكف عن التسلل إلى عظامك ليلا نهارا هذا البرد الذي يخز الروح ويحز الوريد والأعصاب؟ (120) وهي عكس «عائد إلى حيفا»، تدين ضمنا ودونما صراخ، الطرف الآخر، فهو الذي أفشل كل مشاريع العودة. لقد اقتحم العائد حصن عدوه ومد له يدا مسالمة ولكنه رفض اليد الممدودة. رفضها عندما رفض تسليم جثة الشهيد الموجودة في البراد منذ أربعين سنة, وعندما رفض صاحب النزل إيواء الفلسطينيين لأنهما من «المناطق «وأخيرا عندما فشلت الهيئة الإذاعية من إقامة برنامجها التوفيقي بعرض قصة الطيار وعبد الكريم.»(9)
ويهتم راوي يحيى يخلف بتفاصيل الرحلة منذ وطئت قدماه الوطن العائد إليه، يهتم بالبشر وسلوكهم ومشاعرهم، ويهتم بتفاصيل المكان في الطريق إلى أريحا وفي غزة، يستحضر الأرض والطبيعة وملامحها، ويصف ما لحق بها من تغييرات على يد المحتل وما بقي من ملامحها، كما يعرض لكثير من المشاهد الغريبة ذات الدلالات كالشائعة التي تقول بأن التماسيح كسرت الأسيجة والحواجز وهربت من حدائق الحيوانات في أنحاء متفرقة من المدن التي يسيطر عليها الإسرائيليون.»(ص66). ثم «اتضح أن الأمر مجرد بلاغ كاذب» (ص72) فما هو إلا تمساح صغير، وقد فسر أكرم قول رجل الأمن بأن «الحيوانات المفترسة تهاجم إسرائيل» (ص 54)، بأنه «يقصد الخلايا السرية المسلحة» (ص54). ثم أورد إشاعة الأحداث الجيولوجية التي غيرت مجرى النهر والتي تعني أن تغييرات جوهرية أخرى ستتبع بسبب هذا، فالمياه ستمسي مالحة وستموت كل الأحياء في النهر. ثم الحواجز والخوذ وحواجز التفتيش المكثفة، ومظاهر السلاح المتعددة. تلك مظاهر جعلت العودة كابوساً بعد أن كانت حلماً، كما أنها ترمز إلى طبيعة الكيان الصهيوني وهشاشته، بحيث تأخذ منه الإشاعة منه كل مأخذ، وتشير في العمق إلى أن مفهوم السلام لم يكن وارداً في السياسة الإسرائيلية، فمثل تلك الإشاعات والممارسات تبقي الأجواء متوترة، والنفوس مشحونة ضد الفلسطينيين الذين رمز إليهم بالتماسيح والزواحف.