عرض مشاركة واحدة
قديم 07-06-2017, 03:48 PM
المشاركة 8
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
*دراسة تحليلية "للمقامة الشامية " من مقامات ناصيف اليازجي " مجمع البحرين" :



تُفتتح المقامة بجملة استهلاليّة بزمن المضي : " أخبر سهيل بن عبّاد "(1) ، كما في المقامة الأنموذج ، وقلنا سابقاً إنّ هذه الصيغة ثابتة في جمل الاستهلال . ويأتي الكلام على لسان الرّاوي المجهول ، الذي ينقل للمروي له -المجهول أيضاً -ما أخبر به الرّاوي المعلوم "سهيل بن عبّاد".
ويبدأ الرّاوي سهيل بسرد أحداث الحكاية التي صادفته في " الشام " ، عندما ذهب لزيارة صاحبه ، فاسم المقامة أيضاً جاء على غرار النمط المتّبع في تسميّة الهمذاني لمقاماته؛ بحسب المكان الذي يتمّ التعرّف فيه. وهذا أيضاً يحيلنا إلى التنبّه أنّ الرّاوي كان مسافراً ، ولولا هذا السّفر لما صادف تلك الأحداث التي يقوم بسردها. إذاً فالسّفر لازمة ضروريّة لاختلاق الحكاية وإيهام المتلقيين بصدق الرواية.
نعود إلى الأحداث ، فنجد أنّ الرّاوي يقدّم لنا وصفاً لصاحبه المريض الذي كان يتأوّه من الألم " دخلت يوماً على صاحب لي بالشام ، أعوده من داء البرسام(2) ، فجلست بإزائه ، وأنا أستخبره عن دائه ، وبينما هو يبثّ شكواه ، ويتأوّه لبلواه ، إذ قيل قد جاء الطبيب، فقلت قطعت جهيزة قول كلّ خطيب(3)".
وبعد أن يفرغ من رسم الجو العام الذي هو فيه ، ويهيء الأذهان لحدث ما ، ينتقل لوصف الطبيب الذي حلّ في مجلس المريض :
" ونظرت فإذا رجل قد أقبل يجرّ طيلسانه ، ويقرع أديم الأرض بصولجانه(4) ، حتى دخل فسلّم ، ثمّ جلس معرضاً ولم يتكلم ، فتوسمّته ، وإذا هو شيخنا ابن خزام ، فاحتفزت للقيام ، وأردت أن أستأنف السّلام ، فأومض لي بجفنيه(5) ، واستوقفني عن التسليم عليه".
فالرّاوي لم يتعرّف إلى البطل "ميمون بن خزام " إلاّ بعد تدقيق في ملامحه ، ونلاحظ أنّ التعرّف جاء قبل الحكاية : " وإذا هو شيخنا ابن خزام" ، وهذا النوع من التعرّف يترافق دائماً مع البطل -الرّاوي ؛ فابن عبّاد يروي لنا ما حدث معه ، أي هو البطل و الرّاوي في ذات الوقت ، وتعرّفه المبكّر على ابن خزام يؤكد ذلك.
ويصوّر هنا الرّاوي موقفين :
الأول : تعرّفه على ميمون بن خزام ، بعد لحظة تفرّس ، و تحفّزه للسلام الحارّ عليه.
الثاني : تجاهل ميمون له ، كي لا يُفضح أمره من بداية الحكاية.
فعندما قال : "أومض إليّ بجفنيه ، واستوقفني" كان يمهّد بشكل ضمني للحيلة التي سيلعبها ابن خزام ، وهي لعبة تواطؤ بين الرّاوي والبطل لخلق نسيج الحكاية ، فوقوع لحظة التعرّف منذ البداية أفضى إلى ضرورة وجود هذه العلاقة بينهما ، وإلاً لانتفت الحاجة إلى إكمال السّرد.


ويظهر ميمون بن خزام بصورة طبيب حاذق ، يرتدي لباس الشيوخ ، ضارباً عصاه على وجه الأرض ثقةً بشأنه ، فهو يظهر بصورة متحوّلة عمّا ألفه عليه من قبل سهيل بن عبّاد ، ولعلّه لم يعرفه مباشرةً بسبب هذا التحوّل في اللباس والهيئة والشخصيّة.
وتنطلي الحيلة على المريض ، فيشكو للطبيب أوجاعه: " يا مولاي أرى أنّ صدري قد ضاق ، وتواتر عليّ الفواق"(1)، فيقدّم له خبرته الطبيّة مرتديّاً قناع الكديّة الذي اشتهر به أبطال المقامات : " ذكر الأستاذ بقراط إنّ ذلك يدلّ على نضج الأخلاط ، وقد وصف له الإمام ابن عاتكة ، أن يُسقى شراب الملائكة ، لكنّه لا يُشترى إلاّ بمائة درهم ، فإن بذلتها نجوت من البلاء الأدهم"(2).
وليكمل خدعته لابدّ له من خلق بعض العناصر التي يأتي دورها في تقوية ما يذهب إليه من الحكي ، فابن عاتكة لا وجود له في الطبّ ، وبين الأدويّة لا وجود لشراب الملائكة ، لكنّه أراد به تعظيم اسمه لينال به ثمناً جزيلاً . و لذلك نجد أنّه تقمّص شخصيّة الطبيب لتدرّ عليه مالاً ، وبالتالي فإنّ فعله ليس منطويّاً على بنية حكائيّة بل على تشكيل حدث يتماهى به من بداية السّرد إلى نهايته.
ويمكن أن نقسّم الأحداث ضمن المقامة إلى ثلاثة :
الأول : دخول ميمون بقناع الطبيب إلى مجلس المريض ، وحيلته عليه.
الثاني : اللقاء بينه وبين الطبيب الحقيقي داخل المجلس ، ورغبة الأخير في معرفة مدى حذاقة ميمون في الطبّ ، وطرحه العديد من الأسئلة حول الأمراض على اختلافها : " قال كيف يتركّب السرسام(3) مع البرسام ، وماهي مقادير الأخلاط بالنسبة إلى بعضها في الأجسام ، وما هو المراد عند الأول ، بقسمة الطبّ إلى علم وعمل ، وماهي الكيفيّة المنفعلة ، والكيفيّة الفاعلة(4) ، وماهي الأسباب السابقة ، والباديّة ، والواصلة"(5)
وينتهي المشهد بهروب ميمون من المقام بدهائه وحسن تخلصه : " فقال الله أكبر إنّ الحديث ذو شجون ، وإنّ لك أجراً غير ممنون ، لقد ذكّرتني مائة من المسائل ، جمعتُها في بعض الرسائل ، وهي ممّا يُشكِل على الألباء ، وتُناقش به فحول الأطباء ، فإن شئت جعلنا الساعة موعداً ، وأتيناك بها غداً...فنهض وقال السلام عليك"(6)
فالرّاوي يحاول من خلال الحوار بين المكدّي والطبيب أن يخلق نقطة ينطلق من خلالها في مسار سردي يتوقعه المتلقّي ؛ وهو مواجهته للبطل المتحوّل ، وتوبيخه على أفعاله.
فنجده يصف تسلّله من المجلس ، وخروجه السريع " وهو قد اعتضد الصولجان ، وانساب انسياب الأفعوان"(7) ، ليدلّل على خبثه ودهائه.



ويعود صوت الرّاوي المجهول من جديد ، ليروي ما حدث مع الرّاوي المعلوم ، فيذكّرنا بما قاله له سهيل : "قال سهيل : فابتدرتُ الخروج على الأثر ، قبل أن يتوارى عن النظر ، فأدركته عن أمَد يسير ، وهو يُنشد كحادي البعير :
الحمدلله وللغرار (1) فقدنجوتُ من فضوح العار
أفلَتَ من جرادة العيّار ... مالي وللنضال والحوار(2)
ما أنا بالرازي ولا البخاري ... وليس لي في الطبّ من أسفار
أدرسها في الليل والنهار ... وسائلٍ مماحك مهذار(3)
يسألني عن غامض الأسرار ... جعلتُ مثل الخادع الغرّار
موعده الساعة فوق النار ... فقل له صبراً على انتظاري "(4)
فابن خزام يخلع قناع حيلته خارج حدود المجلس ، لا بل ويحمد الله على ستر ماء وجهه أمام الطبيب الحاذق ،فالساعة التي أعطاها له موعداً ، يحسبه وافياً لها يوم القيامة ، وهذا ليس بغريب على ميمون بن خزام ؛ فهو ضمنيّاً أبو الفتح الإسكندري ، وأيو زيد السروجي ، وهؤلاء الثلاثة اتسموا بالكديّة والخداع والمكر لأسباب تقتضيها البنية النسيجيّة للمقامة.
وبعد أن ينتهي ميمون من إنشاده ، يقدّم الرّاوي المعلوم نفسه للحظة المواجهة ، التي سترسم المشهد الثالث : " وقفتُ له بالمرصاد ، وقلتُ عهدتك بالأمس خطيباً ، فمتى صرت طبيباً"(5) ، هذا اللقاء كان من المفترض أن يكون لحظة التعرّف التي حدثت قبل الحكاية ، والتي لم تظهر حينها أي أمارات الدهشة أو عدم التوقّع على وجه الرّاوي ، بمعنى آخر لم نلحظ أنّ سهيل بن عبّاد قد تفاجأ بعد تعرّفه على ميمون ، بل بدا الأمر عاديّاً بالنسبة إليه ، وهذا يؤكّد لنا التواطؤ الضمني بين الرّاوي والبطل ، فسهيل رغم اكتشافه حيلة ابن خزام ، لم يفضح سلوكه ، رغم عدم رضاه عنه ، إذاً فاللعبة الحاكمة بين الطرفين هي الخداع والتستّر عليه.
فثمّة معرفة سابقة بينهما ، ونلاحظ أنّ سهيل عندما تصدّى لميمون ، كان على معرفة مسبقة به: " عهدتك بالأمس خطيباً" ، وهو يقصد بذلك، الدّور الذي لعبه ميمون بن خزام في المقامة السابقة لهذه المقامة ؛ وهي المقامة " العقيقيّة". حيث كان خطيباً على إحدى الجنازات.
ونجد في جواب ميمون على سؤال سهيل الوظيفة الضمنيّة لكلّ قناع يرتديه البطل داخل كلّ مقامة : "فقال إلبَس لكلّ حالة لبوسها ، إمّا نعيمها وإمّا بُؤسَها ".
ثمّ ينتقل ليبرر أفعاله في الخداع والمكر بشكو ى النّاس وذمّه لزمان لا يعطي للإنسان ما يستحقّ من


قيمته : " دخلتُ يا ابن أخي هذا البلد ، وأنا غريبٌ لا سَبَد لي ولا لبد(1) ،فرأيت الأديب عند أمته ، أهون من
قعيس على عمّته(2) ، فلما رأيتهم معارج لاتُرتقى ، وأراقم لا تقبل الرُقى ، جرّدتُ المبضع والمشراط ، وسأستغفر الله لي ولهم على الصراط"(3) .
ودرج تذمّر الأبطال بعد التعرّف في معظم المقامات ، غير أنّ هذا التذمّر يمثّل التململ من ضياع القيم الإنسانيّة بين الناس ، والرغبة بالتعويض عن هذا الشعور بخداعهم والاحتيال عليهم.
يقول في المقامة الرمليّة :
رأيت الناس قد قاموا ... على زورٍ وبهتان!
فلا يرعون ميثاقاً ... ولا حُرمة إحسان!
فإن راعيت إنساناً ... فما أنت بإنسان(4)
ونلمح مسحة من السخريّة الجامدة تضيء كلام ميمون : " وسأستغفر الله لي ولهم على الصراط" ، فهو يقرن خداعه ومكره لهم ، بأفعالهم وأخطائهم ، فهم متساوون على الصراط بذنوبهم ، لكنّه من باب السخرية ينصّب نفسه يوم الحساب داعيّة لله ليغفر ذنوبه وذنوبهم ، والسخرية لازمة ثانويّة داخل بنية المقامة ، وقد أجاد الهمذاني توظيفها داخل مقاماته ، وجاءت بصورة مستحبّة بعيدة عن الجمود الذي اتسمت به بعض مواقف السخرية و الظرف في مقامات اليازجي.
ويعود صوت الرّاوي المجهول ليمهّد قول الرّاوي المعلوم ، وهذا الصوت يجب ألاّ يختفي من المقامة ، باعتباره يقوم بفعاليّة الإخبار والسّرد ، وباختفائه يطرأ انقطاع بوظيفة تلك الفعاليّة. ويكمل كلامه على لسان ابن عبّاد: "قال وبينما نحن كذلك إذ صاحت الصوائح ، وعلا ضجيج النوائح ، فقلتُ له : قاتلك الله ما أقتلك ، وأحبط علمك وعملك ، قد كنت أهون من قعيس ، فصرت أشأم من طويس(5) ، لو رمى الله بك أصحاب الفيل ، أغنيت عن الطير الأبابيل"(6)
وتتداخل في المشهد أصوات النوائح على المريض الذي فارق الحياة كما يشير سهيل بوساطة الراوي المجهول ، وتلك الأصوات الهامشيّة هي استدراك لسرد الحكي والانفتاح عليه من جديد .، إذ يقوم ابن عبّاد بتأنيب ميمون على فعلته ، وتحتدّ لهجته بعد الإشارة إلى وفاة الرجل.
ثم يأتي الحكي على لسان البطل-الرّاوي مباشرة ، وينحسر دور الرّاوي الأول بقوله : فنظر إليّ شزْراً ، وأنشد يقول شعراً:
لا خير في الناس دعني ... أفتك بهم يا فلان
فليس فيهم رجاءٌ ... وليس منهم أمان
ياليت ألف طيبٍ ... مثلي يسوق الزمان
فكلّما قصُرَ العيش ... يقصُر العصيان

فخفّ عنهم عذاب ال ... أخرى وقلّ الهوان!"(1)

إنّ النقمة المنصبّة على سوء الزمان وأهله ، واختلال القيم والمعايير ، يمكن أن ترد ّإلى المؤلف الضمّني الذي بثّ هذه المعاني على لسان بطله ، فيعاود البطل هنا شكواه من الناس ، وإحساسه برغبة الانتقام منهم ومن دهره بأفعاله وسلوكياته المنحرفة عن الصواب ، ويرى في هذا الإحساس مبرراً لما يقوم به :
" ثمّ قال : هذه معذرتي ، فإن شئت القبول ، وإلاّ فدع عنك الفضول ، وإذا فارقتني فقل ما شئت أن تقول"(2).
ويأتي المشهد الأخير بصورة الميمون وهو يهروّل ، تاركاً خلف ظهره أصوات البكاء والنياح : " ثمّ ولّى يهرول ، والنائحات تولول" ، وهذه الجملة من شأنها زيادة التأثير في نفوس المروي لهم ، فكلّما زاد انفعالهم وعظُم تأثّرهم مع الأحداث ، كلّما زادت مكافأة الرّاوي سواء مادياً أم معنويّاً كإبداء الإعجاب بالحكاية . وينهي المؤلف المقامة ، برمي الأمور على القدر ، وتملّص ميمون بن خزام من فعلته ، بتذكار أنّ الموت كأس على الجميع ، لن يفلت منه أحد :" لو قدرت أن أدفع الموت لبقيتُ إلى الأبد ، ولو شفى الطبيب كلّ مريض لم يمت أحد"(3)، فهو يزيل الذنب عن ظهره ويلصقه بظهر قدر الإنسان ، الأمر الذي جعل سهيل بن عبّاد يقف عاجزاً عن الكلام ، متعجباً من سلوك البطل و أفعاله: " فرجعتُ أقول ههنا كلّ العجب ، لا بين جُمادى ورجب"(4).
وفي المقامة عدّة ملاحظات ، سنقف عليها:
1- نلاحظ أنّ لغة المؤلف الضمني كانت وعرة ، وسبب هذا اعتماده على المعاجم ، وخاصة الموحش منها.
2- اتكاؤه على الموروث القديم من الأمثال ، فجاءت المقامة غنيّة بها من بدايتها إلى نهايتها:
- قطعت جهيزة قول كلّ خطيب.(5)
-الله أكبر إنّ الحديث ذو شجون.(6)
-إلبس لكل حالة لبوسها، إمّا نعيمها وإمّا بوسها.(7)
-أهون من قعيس.(8)
- أشأم من طويس. (1 )
-العجب بين جمادى ورجب(2)

3- اقتباسه من القرآن الكريم ، وهي خاصّة متأصلة في مقامات الحريري ، وربما تفوّق فيها اليازجي عنه قليلاً ، ولاسيما أنّه جعل بطله ميمون يتوب في مكّة ، ثم في المدينة والمسجد الأقصى.(3)


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..