عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2017, 11:55 PM
المشاركة 14
صفاء الأحمد
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عودة متأخرة / قصة قصيرة .

في باديء الأمر ظننت أن كل شيء يسير على ما يرام، لكن الدهشة كانت تسبق الحدث وتخيم على جسدي مثل ظلّ شجرة خطايا ملعونة .
بعد غربة دامت عقدا ونصف العقد، عدت إلى بلدي،
لما نزلت من الطائرة رفعت بصري نحو السماء كانت ملبدة بالغيوم، لم تكن ناصعة كما خيّل اليّ، تخيلتها بيضاء مثل حجاب أمي،
عندما تمطر سوف تزهر في جسدي أشجار الياسمين و تطير في قلبي النوارس،
و أحلق ثم أتهادى فوق سطح أمنيتي فتصير حقيقة ألمسها بيدي .
حسنا، رغما عن الغيمات الداكنة، سأقطف من بين شفتي أمي قبلة بعد قليل،
سوف أحتضنها حتى لا أميز بين ضلوعي وضلوعها بعد، لا بدّ أن مفاجأتي لها ستكون اجمل هدية تتلقاها بداية هذا العام.

كانت شعلة الحماس تتوهج بداخلي، تملأني نور ومحبة، إلا أنّها كانت تتضاءل كلما اقتربت من منزلنا، المنزل الذي احتضنني لسنوات طوال.
أخيرا، انها حارتنا و هذا منزلنا، انّه عتيق، عتيق بالفعل لا يزال على حاله، الباب مفتوح، كل الأشياء في مكانها، لكنّه بارد جدا، مهجور ..
كأنه جثة آخذة بالتعفن .. يا الهي، أين أمي ؟
لأول مرة أشعر بأن قلبي مهترىء، جسدي مخدر تماما لا أقوى على الحركة ولا على التفكير !
عرفت من جارتنا أن أمي ترقد في مستشفى البلدة منذ أسابيع، هرعت إلى هناك مثل فقير يتجوع لرغيف ساخن،
لا أعرف كيف وصلت إلى غرفتها في المستشفى، كان كلّ شيء كحلم مرّ على بصري مثل لمحة برق في ليلة عاصفة.
جاست روحي الدهشة، وجثوت على ركبتي.
ياه، هذه العجوز الطاعن في ملامحها الزمن، إنها أمي!
أنا مهزوم يا أمي، مهزوم كما لم أهزم من قبل.
ما أن بدأت أتعافى من دهشتي حتى أولجني خط قد استقام في جهاز لعين يجاور أمي، أولجني بنوبة من الحسرة.
شعرت بجفاف في حلقي، نهضت ببطء وتقدمت خطوة للأمام فرجعت بي الذاكرة سنوات للوراء.
كيف لامرأة واحدة أن تكون قوية إلى هذا الحد؟
إلى الحد الذي تستطيع معه أن تودع في قلوب أبنائها نورا أبديّا، يمنحهم الدفء طوال حياتهم!
كانت أمي بارعة في صنع الحلوى و اختلاق قصص جنيات الأمنيات التي تجعلني أغفو وأحلم بجنيتي التي ستحقق كلّ أمنياتي.
كانت بارعة حتى في محاربة الحمى و ردعها عن جسدي،
لطالما كانت شاسعة كأنها المدى، ولم يكن عندي لها متسع.
فوضى عارمة اجتاحت المكان، قطعت شريط ذاكرتي.
أحدهم يصرخ: " واحد .. اثنان .. ثلاثة .."
ثم ينفض جسد أمي كلّه،
أعاد مرارا صعق صدرها بتيار كان أملي الوحيد في أن يكسر استقامة ذلك الخط، لكن هيهات.
" مسكينة كانت أمنيتها الوحيدة أن ترى ولدها الذي لم تره منذ زمن".
هكذا همس أحدهم، و كأنه غرس في صدري سكين،
ها قد أتيت يا أمي مثل أيّ شيء يأتي بعد فوات الأوان، جئت بعد أن استقام النبض الذي لطالما انتظم من أجلي.
تقدمت نحوها وفي عينيّ ماء ساخن، تمعنتها ، قبّلتها، شممتها،
مدهامة يدها تشي بالكثير من الحياة، لا زالت رائحة الحبق عالقة بكفها.
وددت في هذه اللحظة لو أغفو بجوارها إلى الأبد ، أو أتقاسم معها ما بقي من عمري.
غطيت وجهها بكفي ثم استنشقت ما علق فيه من عطر و ضوء.
خرجت من تلك الغرفة جازما أن قلب أمي هو النافذة الوحيدة المطلة على الحياة.
أن تصير شخصا مشرقا مثل أمي هذا ما لا يستطيع أحد فعله،
عندما تقتدي بها حتما ستكون لامع لكنك أبدا لن تشرق.

صفاء الشويات
1/2/2017



أدرتُ ظهري للشفق ، وسرت بخطٍ موازٍ للنور ،
و كأنّ المغيب لا يعنيني !!