عرض مشاركة واحدة
قديم 08-17-2010, 10:57 AM
المشاركة 13
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (7) : مُبطِلاتُ العقل


لا شكَ في أن العقل يُمثل قوة هائلة، وطاقة غير محدودة، وهو حتمًا أقوى عنصر في الوجود. إنه ناقل المعرفة والأفكار ومستقبلها، إن لم يكن مصدرها، على رأي سقراط، وغيره من الفلاسفة العقلانيين، من خلال قدرته على إنتاج الأفكار، وهو مركز المعلومات التي تتجمع في الذاكرة، وتشكل مصدر القوة المبدعة الخلاقة، وهو مركز الخيال الواسع، الذي يعتبره بعضهم صفة مميزة للإنسان عن غيره من الكائنات، وهو أيضًا القوة الكامنة وراءالإنتاج بمختلف أشكاله: الفكري، والمعرفي، والمادي، وبالتالي هو مصدر المناهج الفكرية، والطاقة التي تكمن وراء البناء والتقدم الحضاري، وتطوير المجتمع نحو الأفضل. والعقل هو مصدر الحكمة، والمنطق، والرأي الصائب، والتصرف الحسن، ما دام يعمل باتزان، وما دام تحت السيطرة، والعقل هو حتمًا أصل كل فعل بخيره وشره.

ولكن هناك كثير من المبطلات التي تعطل العقل، منها ما يؤدي إلى شلل وعجز في نشاط العقل، ومنها ما يؤدي إلى عمل نقيض الحكمة، والمنطق، والاتزان، ومنها ما يجعل الفعل شريرًا هادمًا للبناء والتقدم.

ولا شك في أن هذه المبطلات كثيرة، منها المعروف تاريخيًّا، وطبيًّا، من خلال تراكمات المعرفة الإنسانية، ومثال ذلك الجنون بمختلف أشكاله، ومنها الأمراض النفسية التي لا ترقى لمرض الجنون، ولكن البشرية ما تزال تحبو في التعرف عليها، والتعامل معها ومعالجتها، ولكنها حتمًا تشل العقل، أو تؤثر على إنتاجيته، فيعمل بظلامية، ويصدر عنه أمور مهولة هادمة أحيانًا ومدمرة.
وهناك عدد من العوامل التي تؤدي إلى تعطيل العقل بشكل مؤقت مثل:الغضب، والانفعال، والحب، والمسكرات، والمخدرات، وغيرها من العوامل الكثيرة التي تغيب العقل خلال تأثيرها الآني، ولكن العقل ما يلبث أن يعود ليعمل ضمن الحدود المنطقية التي يمتاز بها.

أما مبطلات العقل الأكثر خطورة فهي تلك التي تمارس أثرها على العقل بصورة مبطنة، وغير مرئية، وغالبًا ما تستخدم أساليب عقلية، وفكرية، ومناهج فذة في التحكم بالقدرات العقلية للأفراد، والمجتمعات ككل، وتعمل على توجيهها والسيطرة عليها، ويكون لهذه الأساليب الأثر الأكبر ضمن فئة الناس الأقل تعليمًا، وثقافة، ودراية، ومعرفة، ولكن أثرها لا يقتصر على تلك الفئة، بل يمتد إلى سائر الفئات، عبر الثقافة، والفكر، والمناهج، وهي التي تشكل النمط الحضاري في كل عصر من العصور.

ولا شك في أن العقل قد اخترع الأسطورة الأولى البدائية إثر اندهاش الإنسان، ولحاجته إلى تقديم تفسير للظواهر التي حوله، ومن ثم اخترع الآلهة الأسطورية في الأزمان الغابرة، في محاولة منه لفهم الكون، والإجابة عن تلك التساؤلات التي انبثقت في ذهنه، وإيجاد تفسير لكل الظواهر الطبيعية، لتحقيق التوازن الذهني، ومن أجل التعايش مع واقعه، ولكن هذه الأساطير أصبحت تلقائيًّا ديانة تعطل العقل، وتبطله، رغم أنها هي نفسها من إنتاج العقل.

ولم يكن من السهل التخلص من سيطرة هذا النهج الأسطوري في التفكير، والذي عطل العقل لحقبة زمنية طويلة، رغم ولادة الفلسفة التي اعتمدت على التجربة الحسية في الوصول إلى المعرفة، واعتبرت العقل عند بعضهم هو الأساس في توليد الأفكار، مما أنتج مناهج فكرية مهمة في حينه، أثرت في التطور الحضاري للإنسانية ككل.
ولكن الفلسفة عادت لتنزلق من جديد في المثالية على يد الأفلاطونية الجديدة، التي تزامنت مع ولادة المسيحية، وهذه المثالية أثرت سلبًا على استخدام العقل، فلم يعد العقل أساسيًا في المعرفة، ولذلك فَقَدَ العقل قيمته، وتم تعطيله ومحاربته من جديد، حيث غرقت البشرية على يد الكنيسة والفكر الكنسي في ظلام شديد، أطلق عليه اسم العصور الوسطى.

وفي وسط ذلك الظلام، ولد الإسلام، الذي أعطى العقل وزنًا وقيمة عالية، واعتبر التفكير، واستخدام العقل من أساسيات الدين، والإيمان، ولم يكن مناداة الإسلام بنهج الوسطية أمرًا اعتباطيًّا أو عشوائيًّا، ولكنه كان أسلوبًا وآلية لضمان عدم تعطيل العقل من جديد، لا بل من أجل توفير الفرصة والضمانة لهذا الجهاز المهول، بأن يظل يعمل بكامل طاقته، لما فيه خير البشرية.

ولكن ومع الزمن انزلقت عقول بعض المفكرين الإسلاميين في مثالية دينية متطرفة، وتبنت نهجًّا مطلقًا في التفكير، عطل الوسطية وقيد العقول، وعطلها على اعتبار أنها ليست محل ثقة، مثلها مثل الحواس، وحاربوا الفلاسفة العقلانيين، وذلك من خلال اعتبار نهجهم الإيماني القائم على الإلهام هو النهج السليم، وكل نهج غيره خروج عن الدين وزندقة وكفر.


وانزلقت الشعوب الإسلامية تحت هذا التأثير في ظلام، بينما بدأت الشعوب التي تململت، وبدأت تتخلص من حكم الكنيسة الظلامي، وعادت لتسخيرالعقل والمناهج العقلية لتنهض من جديد، فيما سمي بعصر النهضة، وفي زمن لاحق زاد الاهتمام بالعقل، ووُلِدَ مزيدٌ من المناهج العقلية التي تقدم العقل على غيره، فضعفت مبطلاته، وصارت له السيادة، فَوُلد ما يسمى بعصر التنوير، والذي انتقلت فيه الحضارة البشرية نقلات نوعية مهولة.

لكن التقدم الحضاري انعكس على الفكر من جديد في العصر الحاضر، فولد علم النفس، الذي جعل من الإنسان وشخصيته وعقله محور اهتمامه، وبذلك توصل الإنسان إلى فهم أكبر لكيفية عمل العقل، ودور كل من الانا ، والأنا العليا، والد، والذي هو مركز الغرائز في توجيه الشخصية، وطور آليات للتأثير والتحكم في الأنا العليا التي تمثل مركز المثل، وبالتالي بوصلة الشخصية والمتحكم فيها.

ومن جديد تمكن العقل البشري بقدراته الفذة من تطوير أساليب جديدة للسيطرة على العقل، وتعطيله والتحكم فيه، ويقع ضمن هذه الأساليب مدارس سعت إلى برمجة تفكير الإنسان، وتوجيهه، وقد استخدمت عدة أساليب، على رأسها التربية والتعليم، والإعلام بجميع وسائله، حيث أصبحت بعض المؤسسات، والأجهزة، والدول، تمارس ما يعرف بمسح الدماغ المنظم، أو غير المنظم، وغير المباشر، ومنها من عمل على برمجة التفكير وتوجيهه، ومنها من سخر علمه، مثلاً، في شن حروب نفسية ساهمت في حسم المعارك، وهذا الجزء من المعركة يتمحور حتمًا حول تعطيل العقول وشلها.

ولا شك في أن ولادة علم النفس، والتطور الذي حصل في فهم الشخصية الإنسانية، ساهم في تطوير برامج ذكية، ومناهج قادرة على التحكم في العقل وتعطيله وتوجيهه نحو أهداف محددة تخدم مصلحة المبرمج، وهذه المناهج تستثمر من قبل الحكومات، والدول، والأنظمة الفكرية، وبما يخدم مصالحها. كما أنها أصبحت تستخدم من قبل الشركات التجارية، التي تدفع شخصًا معينً الاختيار منتج معين فقط، من خلال قدرة المادة الإعلانية أو الإعلامية في برمجة مزاجه، ورغبته، ودفعه لاختيار منتج بدل آخر، وما ذلك إلا عملية يتم من خلالها التحكم في قدرة الإنسان على الاختيار، فهو إذن عملية تعطل العقل من ناحية لحساب ناحية أخرى.

ولا شك في أن صراعًا شرسًا، لكنه في معظمه غير مرئي وغير ملموس، يدورفي الخفاء بين المدارس الفكرية، التي تحاول كل منها دحض المدارس المنافسة، وترسيخ أفكارها ومناهجها، وذلك من خلال التحكم في برمجتها للعقول، والسيطرةعليها.

ولكن أخطر ما في الأمر هو أن يصبح الإنسان أداة طيعة في يد هذه المدارس والمناهج، حين تنجح في برمجته، فيكون مثل الآلة التي يتم التحكم بها عن بعد، يتصرف ضمن برنامج فذ، تمكن من تعطيل عقله، وإعادة برمجته ضمن تصور مفروض عليه، لكنه في الغالب يجهل ذلك، ويكون مسلوب الإرادة تجاهه، بسبب قدرة ذلك المنهج على التحكم في عقله، ودفعة للإيمان المطلق بأنه الخيار الأفضل، والأوحد.

وهذا ما يحصل عادة في الأحزاب السياسية، والمذاهب والتنظيمات الفكرية، والتي تعتمد على برمجة أعضائها ليفكروا ضمن منظومة فكرية معينة ومسيطر عليها، وعندها يبدو أن الأعضاء وكأنهم نسخ مستنسخة بعضها عن بعضها الآخر.

وأخطر من كل ذلك، هو أن يصبح الإنسان ضحية للمدارس التي تعطل العقل الفردي، وتستبدله بالفكر الجماعي للتنظيم أو الحزب، ومن ذلك التطرف بجميع أشكاله. فعندما اندهش الإنسان الأول من ظواهرالطبيعة، قدم العقل تفسيرًا بدائيًّا يحقق الرضا والتوازن للإنسان، ولكن كلما توسعت تجربة الإنسان، وضعفت قناعاته بذلك التفسير، كان العقل يتدخل من جديد من أجل تطويرالفكر، فيشكل الفكر الجديد البديل، لكن هذا البديل ظل دائمًا، في جزء منه، يعطل العقل وقدراته، على أساس أنه هو الطرح الأنسب والأكمل.

والصحيح أن العقل البشري، الذي يجمع الخبراء على أنه لا يعمل سوى بما نسبته (5%) من طاقته، سيظل فاعلاً، ونشطًا، ويعطي، وينتج أفكارًا ونظمًا فكرية جديدة، مهما تعددت وسائل إبطاله وتعطيله، فهو المتحكم في البداية، وفي النهاية ستظل له كلمة الفصل.

وكما يقول الفيلسوف هيجل "نحن لا نستطيع أن نجمد الأتي، ذاك أن ما هو قائم في أساس المعرفة الإنسانية يتغير ويتطور عبر الأجيال، لذلك لا نستطيع الكلام عن حقائق أبدية، فلا وجود لعقل لازمني".

وحيث أن العقل، مصدر الأفكار، فلا بد إذًا أن يظل قادرًا على دحض كل أساليب تعطيله وتحجيمه مهما تعقدت، وحتمًا إن فكر العالم ووعيه سينمو ويتقدم، فتراكمات الفكر تمثل اختراقات ثورية للعقل يحطم فيها كل الحواجز، والموانع، والمبطلات التي تحاول إعاقة تقدمه، رغم أنها في أحيان كثيرة تكون بطيئة.

وعليه لا شك في أن البشرية تتجه دائمًا نحو قدر أكبر من العقلانية والحرية والوعي لتصل، ربما، في يوم من الأيام إلى الوعي المطلق.