الموضوع: الحمام لا ينسى
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
8

المشاهدات
5159
 
خا لد عبد اللطيف
قاص وروائي مغربي

خا لد عبد اللطيف is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
80

+التقييم
0.01

تاريخ التسجيل
Sep 2006

الاقامة

رقم العضوية
2006
10-09-2010, 02:10 PM
المشاركة 1
10-09-2010, 02:10 PM
المشاركة 1
افتراضي الحمام لا ينسى
قصة " الحمام لا ينسى"

" وماذا عــلي إذا لـــم يكن عــــلى رأسي تاج؟ أليس في يدي قلم" ( فولتير.)

حلقت في سماء الحي أسراب كبيرة من الحمام،باسطة أجنحتها الناعمة في فضاء السماء الزرقاء،مستمتعة بدفء الشمس المشرقة التي أطلت في هذا الصباح الربيعي على نهر أم الربيع والساقية العميقة والربى المجاورة وضيعات الليمون والجوز والتين.
كان هديل الحمام ينساب عذبا ورقيقا،فيخترق صدور مستمعيه من سكان الحي،كأنه يقدم تحية الصباح أو يفشي السلام بين الصغار والكبار والعجزة والنساء.
أسراب تقلع،وأخرى تهبط ،تطل برؤوسها الصغيرة ومناقيرها الحمراء والبنية على باحة المنازل،فتلتقط فتات الخبز أو الفطائر أو حبات من القمح والذرة،متفرقة هنا أو هناك.
هديلها المعتاد فوق سطوح المنازل، وعتبات البيوت وفي أفنية الدور، يذكر العشاق بعدم نسيان موعد لقاء الحبيب،وينبه الغافلين عن التسبيح لله وذكره،فالحمام نفسه يسبح لله صبح مساء.
هديل يومي يكسر رتابة الحياة في هذا الحي،ويضفي على القلوب مسحة من الفرح والسعادة والبهجة.
فوق الهضاب العالية المليئة بالزنابق والسوسن والريحان،رسمت أسراب الحمائم خطوطا طويلة،وسرعان ما تنقسم إلى شطرين: حمام ميمنة وحمام ميسرة،وهي استعراضات فنية رائعة يقدمها الحمام عند كل فجر،ومع غروب الشمس.والذين استيقظوا مبكر شاهدوا هذه المخلوقات الصغيرة وهي تحوم حول النهر الكبير،وفوق الهضبة حيث يرقد الحاخام "عكو ليوي" وعلى عتبات ضريحه نام العشرات من موتى اليهود في مقابرهم العميقة.
حمام الحي وحده يعرف مايروج في تلك الغرف السرية المضيئة،ففي جنح الظلام تستحم العوانس فوق قبور الموتى من اليهود،وفي الضريح تقام حفلات الشطحة والجدبة فوق قبر الحاخام ليبارك للقائمين على خدمته،ويمنحهم الراحة والسكينة والطمأنينة.
وحده الحمام يعرف بيوت الفقراء،ومأوى المشردين والمعذبين،ووحده يستشعر آلامهم ويتابع بكاء المحزونين والجائعين.وحده شاهد على فعل العجائز اللواتي يبيتين قنينات الماء فوق قبور اليهود لكي تشربها النساء للأزواج،فيخضعون لهن،ويتحولون إلى دمى بكماء أو حمير مستسلمة تؤمر فتطيع.
أقبل المساء ووقف بوعبيد يراقب حمامه وهو عائد إلى أوكاره.
ما يزال يتذكر أول مرة عثر فيها على زوجين من الحمام،لم ينبت زغبهما بعد،كان ذلك في ليلة شتوية أخذهما إلى منزله،واعتنى بهما حتى كبرا،وتناسل الحمام وتكاثر،حتى ملأ البيت كله،ولم يصدق سكان المدينة أن يصل عدد حمام بوعبيد خمس مائة زوج.ألفهم وألفوه،ونشأت بينه وبينهم علاقة قوية وقديمة،أحبوه في السر وأحبهم في العلن.
منذ عشرين سنة خلت،وهو يطعمهم ويسقيهم،ولا ينام قبل أن يسمع هديلها يشنف مسامعه بأعذب الألحان،وعلى إيقاعه يسدل أجفانه في طمأنينة وخشوع.
كان بوعبيد رحيما بحمامه،مشفقا عليه لدرجة أنه لم يسبق له أن ذبح ولو فرخا وحيدا من الحمام،وكل الجيران يشهدون على ذلك،فقد كان يفضل النوم جائعا على أن يبصر دم حمامة مراق،أو يسمع هديل زوج حزين على فراق أنثاه.
لم يفكر يوما في بيع زوج عند الحاجة،فهذه الأفكار لم تخطر على باله مطلقا،فهو يريدها ولاشيء غيرها،ويوم السعد عنده حين تبيض،ويوم المنى هو حينا تخرج الصيصان للوجود.ومن شدة حبها لها وضع لها أسماء.كان يعرف تواريخ ازديادها وفصائلها وأنواعها وسلالتها ويميز الذكر من الأنثى.
مرت سنون طويلة،ودخل بوعبيد مرحلة الشيخوخة،فلزمه المرض،وبعد أيام انتقل لدار البقاء.
في ذلك اليوم من إعلان موته،كانت أسراب الحمام تحوم حول جثته مصدرة أصواتا حزينة،وحين شيعوه لمثواه لأخير،شهد الناس أسرابا الحمام تطوف وتحط حول قبره،حتى غطت بأجنحتها قرص الشمس.
نسي الناس بوعبيد،لكن حمامه لم ينساه،فقد كان كل يوم يحط على قبره متذكرا تلك الأيام الخوالي التي مرت دون رجعة .
خا لد عبد اللطيف.