عرض مشاركة واحدة
قديم 04-25-2012, 01:51 PM
المشاركة 472
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اهم احداث طفولة العجيلي والتي اثرت فيه وصنعة عبقريته بقلمه ومن مرفأ الذكريات لديه:


- مرفأ الذاكرة لدى كاتب هذه السطور،على اتساعه وطول أرصفته، يضيق بالأحداث والصور والأقوال التي تزاحم فيه وعليه، وليسذلك مستغربا على ما مر بي في ثمانين عاما من العمر قد انقضت لي، وعلى ظروف مختلفةعشت فيها ونشاطات مارستها في مجالات العلم والأدب، ومجالات السياسة والحرب، وفيعملي كطبيب، وفي الأسفار والعلاقات الاجتماعية ، وفي غير هذه وتلك وهاتيك. .
- بعد ما استقر في ذاكرتي من صور هي بلا شك صورة ترجع إلى سني طفولتي الأولى، وذلك حين فكنت في الثالثة من عمري أو حين خطوات أولى خطواتي في سنتي الرابعة، عرفت مبلغي من العمر أيام هذه الصورة بعد ما كبرت وسمعت ما رواه من أبنا بلدتي الصغيرة من تاريخ هذه البلدة، وهي الرقة على شاطئ الفرات في شمالي سوريا، ومن حكايات الأحداث التي مرت بها زمن طفولتي، تلك الصورة هي منظر جسم لامع، فضي اللون ، يرتسم على صفحة سماء خفيفة الزرقة ويسير على تلك الصفحة بخط مستقيم وبحركة تبدو بطيئة لبعدها عن عيني، ثم منظر قطع صغيرة، مستطيلة، تتساقط من ذلك الجسم اللامع ، قطعتان أو ثلاث أو أربع، لا أذكر اليوم كم كان عددها على الضبط ، تتساقط ويحجب عن بصري مكان وقوعها جدران المنازل اتلي كانت في الجانب المقابل للقبو الذي كنت أتطلع من بابه الضيق إلى السماء فوقي. ذلك القبو الذي كنت فيه مع أمي، ومع نساء كثيرات معهن أطفالهن، كلهن يتزاحمن ليتطلعن من باب القبو إلى السماء وإلى تلك القطع المتساقطة من ذلك الجسم الفضي السائر على صفحة السماء.
- عرفتعندما كبرت أن الجسم السائر ذاك كان طائرة حربية وأن تلك القطع المتساقطة قنابلمهلكة كانت الطائرة تلقيها على مواقع متفرقة من بلدتنا، وأن ذلك حدث في الأيامالأخيرة من شهر سبتمبر من عام 1921. هذه أبعد ما حفظته ذاكرتي من صور. ولعل استقرارهذه الصورة بهذه القوة في ذاكرة الطفل الصغير الذي كنته قد ترك في لاوعيي تأثيرااصطبغت به حياتي المقبلة في كثير من جوانبها، والجوانب الفكرية والسياسية منهابصورة خاصة . تلك الطائرة كانت واحدة من طائرات جيش فرنسا الذي غزا بلادنا واحتلهاباسم الانتداب بعدما غدر الحلفاء بالعرب وتقاسموا بلادهم . وإلقاء نقابلها علىبلدتي الرقة ، كان لأن هذه البلدة أصبحت في ذلك الحين مقرا الحركة وطنية أعلنتالرقة وما حولها دولة عربية مستقلة لا تعترف بانتداب فرنسا، ب جندت جيشا وجهته إلىحلب لمحاولة استنفاذها من يد المحتل الفرنسي، ذلك تاريخ مجهول لبلدتي الصغيرة بسطتهفي كتاباتي بعد مرور عقود طويلة من السنين على أحداثه، وليس هنا مكان روايته ،ولكنى أردت القول إنه قد يكون في استقرار هذه الصورة في خاطري طيلة ما يفوق ثلاثةأرباع القرن إرهاص لما ستكون عليه أفكار ذلك الطفل ويكون عليه سلوكه وتصرفه حينيغدو شابا وبعد أن يكتهل ثم يشيخ.
- تتزاحم الصور على مرفأ الذكريات بعد تلكالصورة الأولى المفرطة في البعد، كبر الطفل في الخامسة من عمره ، وانتقل بذلك منحضن أمه إلى حضن المدرسة، كان انتقالاً مبكرا بالنسبة لانتقال أنداده الذين كانوايفوقونه في السن، فأكسبه ذلك مكاسب وعرضه لبعض الهشاشة في تكوينه العلمي لم يتخلصمنها إلا بعد عناء وزمن طويل.
- كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل،ولكنها لم تكن كل العالم لي، كانت هناك المطحنة التي يملكها والدي، وهناك مضاربأعمامي في البادية حول بلدة الرقة ، أو بالأحرى في سهول تلك البادية التي تعشب فيالربيع فتحرق أعشابها شمس الصيف الملتهبة فترتد مقفرة جرداء. كنت أتردد على المطحنةلأحمل لأبي طعام غدائه وعلبة دخانه اليومية من منزلنا، ولأتأمل في الرحى الدائرةوهي تتلقى الحنطة حبوبا قاسية وتقذف بها دقيقا ناعما، و لأتطلع إلى المحرك ذيالدولابين الضخمين وهما يدفعان بالمكبس إلى جوفه ويجتذبانه من ذلك الجوف، في حركاتمنتظمة عنيفة ورشيقة في آن واحد ، وحدث في إحدى مرات تطلعي ذاك أن علق طرف القنبازالذي كنت أرتديه بالسير الجلدي لمضخمة الماء التي كانت مركبة فوق بئر في جانبالمحرك، وهو يدور على دولابه ، فلم أشعر إلا وأنا مرتبط بذلك الدولاب مرتفعا إلىقمته قبل أن ينحدر فيلقيني في قرارة البئر. سارع أرمين ، ميكانيكي المطحنة الأرمني،إلىّ واجتذبني من يدي بقوة قاذفا بي إلى الأرض بجانب فوهة البئر. وسلم الله ذلكالصبي الطلعة ، القليل الحذر من هلاك محقق آنذاك .
- أما مضارب أعمامي فقد كنتأتردد عليها، في الربيع، في العطل المدرسية وبعد الظهر من كل خميس ويوم الجمعةالتالي له . كان أهل بلدتنا، وأسرتنا من بينهم ، نصف حضر يسكنون منازل البلدةالحجرية نصف السنة ويخرجون إلى السهوب المعشبة في الربيع وأوائل الصيف مع أغنامهميتنقلون بها بين المراعي. والدي كان من أوائل الذين تحضروا وسكنوا البلدة في السنةبكاملها ، ولهذا كنت ألجأ إلى منازل أعمامي في بيوت الشعر في المراعي كلما أتيحت ليالفرصة، فأرعى مع صبيانهم الخراف وأطاردها حافي القدمين معهم ، وأنام تحت سماءالربيع المتألقة النجوم وأستمع في الفجر، وأنا بين النوم واليقظة ، إلى أحاديثالمتسامرين المتحلقين حول النار الموقدة في كاسر البيت قبل أن يهب الرجال ليأتوابنعاج القطيع إلي أمام المضارب وتهب النساء لتحلب تلك النعاج.
- بعدالدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى حلب لمتابعة تعليمي لأن الرقة لم تكن تحويمدرسة ثانوية، وهنا وفي ختام السنة الأولى من الدراسة الثانوية، حدث ما اعتبرته بعدذلك المنعطف الكبير في حياتي. أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أنينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ماذا كان ذلك المرض،الذي أذكره أن الدكتور مونييه، وهو الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بيفي مستشفاه نحوا من عشرة أيام ، أشار على أبي بأن يقطعني عن الالتحاق بالمدرسة عاماكاملا، بقيت العام التالي بطوله في الرقة بناء على إشارة الدكتور مونييه، وبقيتعامين بعده فيها بناء على رغبة الوالد الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينهفي إدارة أعماله وأملاكه ، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك.
كان ذلك مصيراقاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة ، ولكنرب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، كانت هذه الأعوام الثلاثةالمتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنها ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقىالمعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسةالحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدي وتحتإشرافه، عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها، أتاح ليذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدةومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهمعلى جمالهم ، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الكدش،وهي غير الأصائل من الخيل ، أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورزايةأحداث سالفة وجيدة ، هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفع الذي قاربتهأن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديثالكهول عن شئون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها. وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلوعلى رواد المضافة ، بعد صلاة العشاء كل ليلة ، فضلا من كتاب فتوحات الشام للواقدىأو من رواية سرور آغا وصالحة خانم وسلطان عبد الحميد المترجمة عن التركية ، وحينكانت تتأزم أمورنا السياسية مع فرنسا المحتلة كان حضور المضافة يتحلقون حول ذلكالعم أو غيره وهو يتلو عليهم آخر افتتاحيات نجيب الريس، في جريدته القبس، في مهاجمةالمحتل وتسفيه سياسته ، فتلتهب النفوس حماسة وتعلو الأصوات بالاستنكار والاحتجاجوالتنديد.