عرض مشاركة واحدة
قديم 11-04-2010, 04:14 PM
المشاركة 25
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تَعَـوَّدَ أنْ يَسْتقِـلَّ اللـظـى
ركَابًا وَيَمْتـارَ مَـنْ حَنْظَـلِ

هنا في هذا البيت نجد عبقرية فذة وقدرة اعجازية في الصياغة باستخدام كلمة (تَعَـوَّد) فهي من ناحية تَعْودْ على الزمن، ونحن نعرف أن الشاعر كان قد وحد بين نفسه وبين الزمن في صفة النحول، فكلاهما أصبح ضامر الهيكل من شدة الحب حينما كان الشاعر بعيد عن الحبيبية، ولذلك يمكن أن نستشف من المعنى أن الشاعر يقصد في وصفه هذا أن جسده هو الذي تعود أن يستقل اللظى، أي يركب المخاطر أو النار الحامية التي لا دخان فيها وهي شديدة الاحتراق، واللظى هي النار الملتهبة والمتلهفة والتي تجذب أي شيء لأكلهوحرقه (كلا إنها لظى)، وفي هذا تشخيص آخر شبه الشاعر فيه اللظى، أي النار أو حالة الاحتراق التي كان يشعر بها، وكأنها فرس أو ناقة يستقلها ويسافر بها...

إذ يقول الشاعر بأن جسده وأثناء ذلك الزمن الذي كان يعيش فيه بشوق عنيف لحبيبته يصل إلى حد الاحتراق، لأنها كانت تنأى عنه وتبتعد، كان يستقل اللظى فرسا يسافر فوق صهوتها ربما عبر الفلا والبراح والصحاري الشاسعة في تيه كبير، وهي كناية عن شدة الشوق والحرمان الحارق الذي يكاد يصل لان يكون أشبه بالنار الملتهبة شديدة الاحتراق، ذلك الشعور ساهم لا شك في ضمور جسده أيضا.

ولم تكن حالة الضياع والاحتراق تلك التي اعتادها الجسد أثناء غيابه عن الحبيبية هي السبب الوحيد في ضمور جسده كما نعلم، بل انه الحنظل الذي تَعْوَدَ ذلك الجسد أيضا على تناوله كطعام، وربما أراد الشاعر هنا أن يقول بأن النزر القليل من الطعام والشراب الذي كان يتناوله في شروده وتيهه وسفره إلى اللامكان وهو يعاني من حالة الهذيان تلك كان مذاقه الحنظل وذلك بسبب بعد الحبيبية وصدودها، فكان جسده يحترق في لظى الحب ويصطلي بنار البعد من ناحية ، بينما كان مذاق ما يأكل ( يمتار ) بطعم الحنظل كنتيجة حتمية لتلك الحالة من الشرود التي أصابته.

وهنا أيضا نجد أن الشاعر قد ضمن هذا البيت مزيد من الحركة توحي بها كلمات (يستقل و ركابا) وكأننا نحس دبيب الخيل ومشقة السفر، ونكاد نستشعر حرارة الحب الحارقة من خلال استخدام الشاعر لكلمة (اللظى) فهي كلمة توقظ في الذهن موروث ثقافي مؤثر جدا يُذّكرُ بأشد حالة من حالات العذاب بواسطة الاحتراق وهي لفظة توقظ فينا حاسة اللمس بعنف شديد...كما أن كلمة (حنظل) تستفز في المتلقي حاسة الذوق....وقد نجح الشاعر من جديد في اسر لب المتلقي بهذه الصناعة الشعرية المتفوقة والباهرة من خلال تسخير الحركة والحواس والتصوير الجميل والبليغ...فظل المتلقي مدفوعا ليقف على رؤؤس أصابع قدميه يتابع من يجرى باهتمام شديد ويحاول معرفة ما حصل ويحصل للشاعر وقد استُنفِرت حواسه بكامل طاقتها...وكأن في فمه طعم الحنظل وتلفح جلده نار حامية تَصْلي جلده.

يتبع ،،