عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2010, 11:06 PM
المشاركة 8
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بعض رموز العصرانية المعاصرة


من أكبر الكوارث التى تعرضت لها الثقافة والفكر الإسلاميين فى عالمنا المعاصر والحديث هى كارثة أن تسعين بالمائة من المعارف المتداولة ـ بين المثقفين فضلا عن العامة ـ هى ثقافة تندرج تحت مفهوم " خدعوك فقالوا "
فمنذ مطلع القرن الثامن عشر وبدء حركة الغزو الفكرى المكثف الذى عاصر انتهاء الحملات الصليبية العسكرية وبداية الإحتلال الاستعمارى ونهايته بدوره
وهناك موجة من التغريب والتزييف والتشويه طالت كل طرق وسبل الثقافة بلا استثناء وأصبح المجتمع يردد معارف شهيرة على أنها من الثوابت التاريخية والفكرية , بينما هى من الدجل الثقافي لا أكثر ولا أقل
وبمرور الزمن ومع مطلع الخمسينيات من القرن العشرين , انفردت الساحة الإعلامية العربية بالتطور الرهيب فى وسائل الإعلام بعدد من المؤثرات الفكرية الغربية التى تشعبت فى التشويه بدرجة مهولة ,
ليس هذا فقط بل تزامن مع ذلك أن النظم العسكرية الثورية التى طرقت أرجاء العالم العربي دخلت إلى الساحة مباشرة كشريك متضامن لأصحاب التشويه والتغريب إما بدور إيجابي عن طريق فتح المجال لانتقاد كل ما هو إسلامى وانتقاد الثوابت الأصولية والحركات الإسلامية المعبرة عن السلف وفكره
وإما بدور سلبي عن طريق فتح المجال لدعاة التغريب والترويج الإعلامى المتكرر لشخصيات أطلقوا عليها ألقاب مفخمة للغاية مرددين الشعارات البراقة للعصرانية والعلمانية التى تقوم على نفس البنود التى ذكرناها سابقا

ومع قيام الآلة الإعلامية الجبارة من صحافة مقروءة ومسموعة ومرئية وغيرها من وسائل الإعلام التروجية انتشرت تلك الشخصيات بنفس الألقاب المفخمة واستقرت فى قلوب العامة والمثقفين على نحو أصبحت فيه من الثوابت التى تعرض نقادها لأبشع أنواع التنكيل الإعلامى إذا جرؤ واحد منهم فقط على نقد شخصية منها !
وبينما يقوم العلمانيون وأضرابهم بطعن كل الأصول الإسلامية متخذين أقوال العصرانيين وكتاباتهم كدليل على الإسلام وحجة عليه , قام الإعلام باسباغ التشويه على كل علماء ومفكري الإسلام الأصوليين فى نقدهم العلمى المنهجى للأفكار العصرانية المنحرفة التى تهدم الأصول وتبدد الفروع تحت زعم الحداثة والتطوير والتجديد

وكانت المعركة ولا زالت قائمة على وجه تقليدى واحد وهو قيام أهل العلم بالذب عن حياض الشريعة والثوابت فى مواجهة الأسماء اللامعة التى تتعرض لها , وذلك بأسلوب الطرح الموضوعى الذى يعتمد على دراسة آراء العصرانيين وكتاباتهم كاملة غير منقوصة وبيان عوارها وتبيين فحواها الحقيقي بأسلوب علمى رصين وبعيد عن التجريح
بينما يكون الرد المقابل من العصرانيين ومناصريهم هو اتهامات التخلف الحضاري والشهرة التى يزعمون أن العلماء يسعون إليها حين يتصدوا لعلماء العصرانية ومبشريها !
رغم أن علماء الإسلام المدافعين عن السنة هم فى القيمة العلمية أكبر بمراحل من دعاة العصرانية , ولكن المشكلة أن الصورة أمام العامة غير واضحة بسبب التشويه الذى تسببت فيه وسائل الإعلام وقامت بترويج شخصيات العصرانية باعتبارهم أهل القمة التى لا ينازعهم فيها عالم آخر , رغم الأخطاء الفادحة فى المنهج الذى يتبعه العصرانيون وأخطاءهم التى لا يقع فيها أصغر طالب علم يعرف فحوى ما يقول ويروج له
وأقل مثال لذلك ما قام به العصرانيون مثلا فى ترويج الشخصيات المنحرفة فى التاريخ الإسلامى والتى أجمع المؤرخون قاطبة على جرحهم والكلام فيهم وبيان مذاهبهم ,
فعندما يقول قائل أن القرآن الكريم هو مُؤَلف جاهلى يعتمد على ما اعتمد عليه الأسلوب الشعري الجاهلى ويوصف قائله بأنه من علماء الإسلام ومفكريهم فتلك طامة كبري
وعندما يقول قائل بإنكار سائر المعجزات الحسية للأنبياء تحت زعم عدم منطقيتها ويوصف صاحبها بأنه إمام من أئمة الفكر بل هو أكبرهم فتلك مصيبة جامعة
وعندما يقول قائل أن عصرنا الحالى لا يحتمل الصراع السخيف ـ كما يصفه ـ بين مسمى الإسلام والديانات الأخرى وأن المسلمين يجب أن يتوقفوا عن الزهو بملتهم على بقية الملل ويقال أن هذا قول يصدر من مفكر إسلامى , فتلك كارثة

وكنتيجة حتمية لانعدام موهبة القراءة واكتفاء معظم المثقفين بالقراءات الخاطفة كان من الطبيعى أن تمر تلك الأقوال عليهم فى جو من التلبيس اللغوى والإبهام والغموض الذى يمر على كثير من مطالعيها بينما لا يخفي على العين الفاحصة
ولهذا فإن العديد من المثقفين قد يفاجئون مفاجأة تامة أن هذه الأقوال وما هو أبشع منها منتشر قائم فى عشرات الكتابات التى تحمل أسماء كبراء وأعلام للفكر الإسلامى ولا تمثل أقوالا منفردة أو شاذة بل هى أقوال منهجية كاملة بمعنى أن قائلوها يتخذ منها رسالة لمشروعه الفكرى يروج لها فى ستار من الأمية الكاملة التى يعانى منها المثففون إزاء تاريخ الحركات الفكرية وهى الأمية التى سمحت لأفكار المعتزلة والخوارج والفلاسفة الباطنية بالعودة مرة أخرى !

وهى الأقوال التى عبر عن خطورتها العلامة الكبير محمد أبو زهرة وكذلك محمد الأمين الشنقيطى والعلامة المحدث أحمد شاكر وشقيقه المفكر والمؤرخ محمود شاكر وغيرهم من زعماء المتصدين لهذه الزمرة من علماء العصرانية
وفى هذا الشأن يقول العلامة الشيخ أبو زهرة
" إن كلمة التطور أصبحت تضايقنى نفسيا لأن الذين يرددونها يريدون أن يحولوا الشريعة الإسلامية عن مقاصدها الأصلية بما يوافق أهواءهم فيلغون الزكاة باسم تطور الإشتراكية ويلغون الميراث باسم التطور ويكادون يلغون الزواج والطلاق باسم التطور أيضا "
وهذا الذى قاله العلامة أبو زهرة كان أشبه ما يكون بالنبوءة لما تحقق فعلا بعد ذلك فى أواخر القرن العشرين حيث تم عقد المؤتمرات التى تدعو لهدم أصول واحدا بعد واحد تحت زعم التطور وفقه الواقع !
فسمعنا عن مؤتمر السكان الذى عقدته الأمم المتحدة فى مصر ودعا علنا إلى الشذوذ كحق شرعي لحرية الفرد ودعا أيضا لهدم نظام الأسرة التقليدى وقيام الأسرة ذات الجنس الواحد !
والدعوة التى انتشرت أيضا إلى السفور المطلق وإلى إلغاء قواعد الميراث وتشريع وقف الحدود وإلغاء ولاية الزوج على زوجته وإلغاء ولاية الأب على أبنائه وما إلى ذلك من الكوارث التى وصلت بالأسرة المسلمة اليوم إلى الحضيض
فكل هذه الأفكار إنما نبتت من رحم العصرانية التى قادها علماء ومفكرين كبار لا زال لهم فى الفكر الإسلامى المعاصر سمعة مدوية ومنافحون لا يعرفون عنهم شيئا إلا الألقاب التى درج الإعلام على ترويجها لهم ,
أى أن التغييب الإعلامى تسبب فى نشر شعبية مهولة لتلك الشخصيات غير قائمة على أساس القناعة بل قائمة على أساس الظن بسلامة الأهداف وهو الأمر الذى يسقط بمجرد مطالعة كتابات العصرانين والوقوف على دعوتها

ومن أبرز رموز العصرانية ومنظريها كان محمد عبده الذى يُوصف إعلاميا بأن مجدد القرن وجمال الدين الأفغانى الذى يوصف بأنه موقظ الشرق وطه حسين الذى يوصف بأنه عميد الأدب العربي
ولأن هذه الأسماء قد أفضت إلى ما قدمت , فنكتفي بالإشارة العاجلة لفكرهم دون الخوض فيه باعتبارهم قد انتقلوا إلى جوار ربهم , وليست مشكلتنا الآن فى تقييم الشخصيات وهل تراجعوا عن انحرافهم الفكرى أم لا ,
إنما القضية أن هذه الأفكار لا تزال إلى اليوم مطبوعة وتطبع وتضخ عشرات السموم إلى عقول المثقفين المشوهة
فمحمد عبده تبنى كامل أفكار المعتزلة القديمة وأعمل العقل فى النصوص على نفس المبادئ التى شرحناها آنفا وأحيا هذا التراث الملئ بالتغريب فكانت رسالته فى التوحيد والتى أصدرها تحت نفس العنوان تحمل نفس أفكار المعتزلة العقدية وموقفهم من علماء الحديث , وفى تفسيره للقرآن الكريم لجأ للعقل بشكل مطلق فأنكر ما سبق أن أنكرته المعتزلة بل وزاد عليه أن قدم من عنده تفسيرا عصريا لكل المعجزات الإلهية والنبوية فى القرآن بما يتناسب مع العقل
مثال ذلك تفسيره للطير الأبابيل بأنها ليست طيرا وألقت ما لديها على أبرهة وجنوده بل هى ميكروبات التيتانوس والطاعون"11"
وأيضا إنكاره لمعجزة انشقاق القمر , وغيرها
أما جمال الدين الأفغانى الذى حظى بتمجيد العصرانية إلى أقصي الحدود فليس خافيا أنه من كبارات الشيعة الرافضة وهذا معترف به حتى من محمد عبده ومحمد رشيد رضا فى كتابه " تاريخ الأستاذ الإمام " حيث عرض رشيد رضا علاقات الأفغانى بعلماء الشيعة وخطاباته التى وجهها إليهم وكانت الأسماء المذكورة ولا زالت تمثل أكبر منظرى التشيع الصفوى القائم على العقائد المنحرفة الشهيرة من الرجعة والبداء ولعن الصحابة وتكفيرهم
هذا خلافا لتأسيسه فرعا من فروع الماسونية العالمية فى مصر تحت اسم " لوج كوكب الشرق " ولم يجد ناصروه غضاضة فى ذكر هذا والاعتراف به بل واعتباره من أياديه البيضاء رغم انتشار أهداف الماسونية العالمية لكل صاحب نظر " 12 "
ومن أبرز وجوه التناقض فى محمد عبده وتلميذه رشيد رضا "13" أن الأخير صرح فى كتابه المذكور برأى أستاذه محمد عبده فى الشيعة الإثناعشرية وحكمه الفقهى عليهم وهو تكفيرهم بمجموعهم ورغم ذلك اتخذ من الأفغانى شيخا ومرشدا فضلا على أنه قام بشرح كتاب نهج البلاغة الكتاب المكذوب على الإمام علىّ رضي الله عنه وقام بملئ حواشيه بعدد من التعليقات التى تتعرض لبعض الصحابة بما لا يقره عقل قبل أن يرفضه النقل

أما طه حسين فممارساته وأفكاره أكبر من أن يحصرها كتاب مستقل , وقد استقي أفكاره التى نادى فيها ببشرية القرآن وخضوع أسلوبه للبيئة الجاهلية فى كتاب الشعر الجاهلى كما أن استنسخ نفس أفكار المستشرق اليهودى مرجليوث وروجها فضلا على استغلاله لمنصبه فى إدارة الجامعة لعرض شتى أنواع أفكار العلمانية والإلحاد سواء فى الأعمال الفنية التى كانت ترعاها كلية الآداب التابعة له أو استقدامه للمستشرقين ليعملوا على نشر أفكارهم على طلبة الجامعة
وقد تصدى الأزهر ممثلا فى الشيخ المراغي وغيره كما تصدى المفكرون وعلى رأسهم العقاد والرافعى لأفكار طه حسين وبينوا عوارها وقد قيل أنه تراجع عنها إلا أنه كتبه جميعا لا زالت تطبع من عدة دور نشر ويتم التنظير لها بكل ما تحتويه من طوام فكرية مثل كتابيه " عثمان " و " على وبنوه " الذين خصصهما للفتنة الكبري وملأ ما بين الدفتين بالروايات التى لا أصل لها عند علماء الرواية والدراية والتى تطعن فى الصحابة وأمهات المؤمنين

ومن المعاصرين فى مجال العصرانية يقف د. محمد عمارة ود. حسن الترابي وجابر الأنصاري وحسين أحمد أمين ود. أحمد كمال أبو المجد ولهم نفس الموقف الذى سبق التنويه عنه عن مذهب العصرانية
وكمثال فإن محمد عماره والذى حصل على شهادة الدكتوراه فى فكر المعتزلة قام بدور أكبر من دور محمد عبده للتنظير لأفكار تلك المدرسة والتعرض للثوابت والأصول بنفس أوجه النقد العلمانى الذى يدعى أنه يتصدى له ,
ومن أمثلة أفكاره اجتهاداته فى مجال حوار الأديان ودعوته لأن يتخلى المسلمون عن نظرية التميز التى يعتقدون بها على بقية الأديان ويري أن العقل البشري المعاصر آن له أن يخرج من وصاية السماء وغير ذلك من الأفكار التى حشد بها معظم كتاباته ومنها كتابه " الإسلام وقضايا العصر "
ولسنا بحاجة لأن نبين مدى فساد تلك الأفكار التى بنى عليها محمد عمارة نظريته فى اعتبار المعتزلة هم أهل الإسلام الحقيقي الذين تعرضوا لبطش وتسلط الفقهاء ! " 13 "
ناهيك عن أفكاره حول قضايا تحرير المرأة وحوار الأديان وولاية المرأة للولاية العظمى وانكاره لدور وشرعية الخلافة العثمانية التى يسميها الغزو التركى المدمر وغير ذلك مما تضج به كتاباته "14"

ونحن هنا نعرض مجرد أمثلة , وإلا فالملفات تنوء بالأسماء التى يهلل لها الإعلام الرسمى ويرحب بها الإتجاه العلمانى وليس هنا مجال تفصيل لذلك , بل هى دعوة للحكم على الفكر عن طريق مطالعته بتمعن خارج حدود التشويه الإعلامى الذى يقوم على التشويه تحت مسمى الجمود لكل من تصدى من علماء المسلمين لهذه الأفكار
فالواجب على كل أهل القلم والثقافة فضلا عن العامة أن يتعاملوا مع الإعلام بحيادية تامة ويجعلون الحكم لمناقشة التفاصيل التى يهرب منها أهل المذاهب المنحرفة تماما ويكتفون باللعب على وتر الإتهامات
كما أن الكتابة عن العصرانيين ليست دعوة لاسقاطهم أو الحكم عليهم , بل هى دعوة لكسر أغلال التغييب بالنقاش والتدارس بعيدا عن سيطرة الإعلام والعصبية للأسماء التى وصلت بنا للدرك الأسفل من الأمم

" وإلى اللقاء مع بقية فصول الكتاب "