عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2010, 10:53 PM
المشاركة 3
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

وفى الفصل الأول تحدث بن الجوزى عن الفئة الأكثر وقوعا تحت تأثير التلبيس وهى فئة أهل البدع ,

فمن المعروف أن أهل البدع أشبه بالكرة التى يتقاذفها الأطفال وهى لا حول ولها وقوة , فكذلك هم فى يد الشيطان يتلاعب بهم بمنتهى اليسر والسهولة ودون أن يكلفوه جهدا
ومن الطبيعى أن وصف أهل البدع كان له محل فى زمان بن الجوزى الذى كان الخير لا زال باقيا بين العوام بالشكل الذى يصنع التواصل بينهم وبين العلماء , أما بعصرنا الحالى فقد غاب مفهوم البدعة عن لفظها ولم تستطع العوام أن تميز خطاب علمائها الذى يبين لهم معناها وأمثلتها
وملخص تعريف البدعة التى حذر الرسول عليه الصلاة والسلام منها مرارا هى أى شيئ يستحدث فى أمر من أمور الدين سواء فى العقيدة أو العبادات لم يتم تقريره بحكم شريعة ,
ولكى نعرف الفارق بين البدعة وبين الزيادة فى النوافل , فالبدعة تنصرف فقط إلى الفروض المحددة سلفا كعدد ركعات الصلاة أو عدد التسبيحات التى تتلوها أو الأدعية النبوية الواردة بالسنة أو فى أمر من أمور الحكم والتشريع العامة والتى حددها القرآن والسنة مسبقا , أو أمور الزكاة وما إلى ذلك من طرق أداء الفروض أو الغيبيات المسكوت عنها أو المبادئ العامة لنظام المجتمع
فلكى نتقي البدعة فى هذا فإن الواجب يقتضي أن تنفذ ما ورد بشأن الفروض والعبادات والمبادئ العامة بالشريعة كما أنزلت وكما وردت بلا زيادة أو نقصان أو اجتهاد مع نص
أما إن أحببت الزيادة من قبيل النفل لنفسك فهذه قربي لله تعالى شريطة ألا تجعلها طريقة يقلدك فيها غيرك فتدعوه إليها بحذافيرها ,
فلك أن تدعو غيرك ليحيي الليل أو بعضه بالقيام , لكن ليس عليك أن تحمله حصرا على تقليدك فى عدد ركعات معين تفرضه عليه فرضا
وهناك أنواع من البدع الفكرية كأن تخوض فى موضوعات نهانا الله ورسوله عن الخوض فيها أو الجدل تحت مسمى البحث العلمى , أو أن تخرج على الناس فتنكر أمرا ما قد أجمعت الأمة على قبوله منذ سالف العصور وليس فيه ما يخالف النص ,
هذا فيما يخص العبادات , أما ما يخص المبادئ العامة فليس للمجتمع أن يستجيب لبدع النظم الحاكمة أو المجموعات المتحزبة الداعية لترك التقليد لما ورد بالقرآن والسنة واتباع التقليد لما ورد بالفكر الغربي !
وهذا لا شك أنه من التلبيس إذ كيف يمكن أن تفاضل شرع الله لك فى الحياة وهو خالقك وتفضل عليه مذاهبا أثبتت التجربة فشلها
كما أنه من البدع أن تبالغ فى التبديع , وهذا من التلبيس الذى يقع فيه الكثيرون , فتحت حرصهم المبالغ فيه لتحرى السنة دخل بهم الشطط لرفض ما سمح به الله من اجتهاد تبعا لمصالح الأمة ودنياها , وفى العموم يتم تعريف البدعة على أنها اجتهاد فى مقابل نص تشريعى ثابت , وبالتالى فإن كان التصرف اجتهادا فى مواجهة اجتهاد فلا يدخل تحت مفهوم البدعة
أما إذا أردنا أن نتعرف على مفهوم البدعة ومفهوم أهل البدع فى عصرنا الحالى , فهم أكثر مما نتخيل ,
فكل من تراه يزكى نفسه ويرفض غيره أو يسفه سابقيه هو من أهل البدع , وكل من تراه يعطى الأمر لأهله فى كل مجال إلا فى مجال الفقه والشرع تراه ينفرد بنفسه بعيدا عن أقوال وأحكام العلماء ضاربا بهم عرض الحائط فهو من أهل البدع , وكل من تراه داعيا لمذهب فكرى معين يناقض به المعلوم من الدين بالضرورة هو من أهل البدع
وتحت هذه الأوصاف الثلاث تندرج سائر المبتدعة فى عصرنا الحاضر
والمتفق عليه قديما وحديثا أن الفارق الرئيسي بين أهل البدع وأهل السنة , هو أن أهل البدعة يؤمنون بفكرة معينة أولا , ثم يصرفون جهودهم لإثباتها من خلال النصوص أو اختلاق الإثبات لها من خلال لى أعناق النصوص لو لم يجدوا نصا صريحا ,
بينما أهل السنة تراهم يعرفون الحكم أولا قبل أن يؤسسوا عليه الفكرة والقناعة ,
مثال ذلك ,
وهو أشهر مثال فى سائر عصور الإسلام , ألا وهو مثال الشيعة الذين تبقت من فرقهم المتعددة ثلاث فرق قط لم تندثر وهم الإثناعشرية الرافضة , والإسماعيلية والنصيرية العلوية ,
فهؤلاء ابتكروا مفاهيم جديدة اخترعوها لتناسب أهواءهم ثم بحثوا فى النصوص عما يؤيدها ولما لم يجدوا قدموا التأويل بين أيديهم على النص الصريح , فسقطوا فى أكبر حماقة عرفها تاريخ الإسلام وهم يلبسون نصوص الثناء على الصحابة فى القرآن ثياب الذم , ويستبدلون نصوص الذم بالمنافقين ليسقطوها على أهل الإيمان وهم يظنون أنفسهم فرقة ناجية بأسمائهم لكونهم سجلوا فى نادى أولياء أهل البيت وكأن ولاية البيت عبارة عن إعلان باللسان وابتعاد عن العمل والإتباع وغير ذلك مما سنتناوله فى موضعه إن شاء الله


الفصل الثانى : شرح تلبيسه على العوام


هذا الفصل لم يورده بن الجوزى فى أول الكتاب بل أورده فى آخره حيث خصصه لشرح تلبيسه على الناس فيما يخص طول الأمل وترك العمل,
و كان تركيزه على الفئات التى تشذ عن القول السديد فينبه عليها , ولم يحمل هما فى مواجهة العامة لكون العامة على مستوى رفيع من الاستجابة والإدراك والتمييز والانتباه لأقوال العلماء , فلم يكن الأمر يؤخذ إلا عن أهله وحسب ,
أما عالم اليوم فيعانى من اختلاف مصادر الثقة والتلقي مصداقا لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام
" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من الناس بل يقبضه بقبض العلماء ... الحديث "
وبمجرد قبض العلماء يتخذ الناس رءوسا جهالا فيفتون بغير علم فيضلون ويُضلون وبالتالى صارت أزمة العوام ليست قاصرة على طول الأمل وقلة العمل بل أصبحت متعددة بتعدد وجوه التلبيس الذى جلبه الجهل والتغييب
وقد أصبحت شاشات الفضائيات أحد أهم مصادر التلقي للجماهير واندفعت تلك الأخيرة تتخذ لها شيوخا ودعاة بحسب الميل الشخصي أو بحسب الشكل الظاهرى أو بحسب أسلوب الحديث ولباقته وقربه للجمهور ,
وآخر معيار تفكر فيه الجماهير هو معيار المكانة العلمية ! , وتلك كارثة عظمى لأن هذا المعيار هو الوحيد اللازم لتحديد الثقة فيمن نأخذ عنهم
وكنتيجة فعلية لذلك رأينا المهازل التى لم يكن يتوقعها أحد إلا على سبيل الطرفة , من ذلك مثلا :
انتشار الوعظ والإرشاد الدينى على وجهين متطرفين أحدهما يتبع أسلوب التشدد المبالغ فيه , والآخر يتبع أسلوب التفريط الغير متصور
فالجبهة الأولى صورت الشريعة على أن الأصل فيها المنع والحظر خلافا لأهم قاعدة أصولية تقول أن الأصل فى الأشياء الإباحة , والجبهة الثانية جعلت من الدين أشبه ما يكون بلوائح نادى اجتماعى أو سوق تجارى كبير يعتمد القاعدة التجارية القائلة " الزبون دوما على حق ! "
وتحت مسمى أن الدين يسر سقطت مفاهيم الإلتزام حتى فى بعض الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة , وأصبح الناس بتأثير الإعلام توازن بين الدعاة وتقدم الأيسر فالأيسر !
وغابت تماما حاسة التقييم التى كانت تميز المجتمع المسلم فلا تراه يأخذ إلا عمن يلتمس منه العلم والتقوى والمزكى من أكفائه من أهل العلم , وهذا إن كان تأثيره ذو خطورة على ثقافة المجتمع , إلا أنه لا يساوى مقدار خردلة فى أن المجتمع لم يكتف بـأخذ الثقافة بل التمس الفتاوى وانتشرت عبر الهواتف والفضائيات ظاهرة فتاوى التليفون والسؤال فى شتى شئون الحياة والدين وتوجيه تلك الأسئلة لكل أحد ومن ثم انتشرت ظاهرة الافتاء بغير علم بشكل مَرضي ولا زال فى ازدياد
والأطم من ذلك انتشرت ثقافة بالغة الخطورة فى المجتمع تعامل أركان الدين معاملة منفصلة , ولا تتعامل معها كوحدة واحدة
وتلك النظرة هى التى فتحت الطريق أمام تلبيس إبليس الجديد الذى يجعل من المرء يرتكب سائر الموبقات طيلة العام ثم يذهب إلى عمرة رمضان لكى يحوز المغفرة , وهو مقتنع تماما أن العمرة ستغسل تلك الذنوب , وهذا تلبيس بالغ الخطورة يجعل من العبادات أشبه ما تكون بصكوك الغفران , لأن التوبة معناها نية الإقلاع عن الذنوب وحتى إن عاد التائب للذنب فعودته هنا يجب أن تكون بعدم التبييت المسبق للنية على تكرار المعاصي ,
وتحت تأثير ذا نرى ونسمع كل عام عن موائد الرحمن التى تقوم عليها الراقصات , ورجال الأعمال أصحاب الثروات المشبوهة , وغيرهم ,
وهذا كله جاء بتأثير ما يسمى الدعاة الجدد أو الدعاة المودرن ! وهم أولئك الذين فتحوا الباب على مصراعيه أمام شتى الشهوات بحجة أن الدين يسر !
ومع هذا الصنف ظهر صنف آخر يعتقد اعتقادا جازما أنه طالما يؤدى الفرائض فى انتظام فقد أدى حق الله عليه , وهذه لعمرى مصيبة جامعة !
أولا : لأن مجرد التصور أن الإنسان يستطيع بعمله أن يؤدى ما لله من حق عليه هو تصور من الممكن أن يدفع بالمرء إلى أسفل درك من النار لأنه حتى الأنبياء ـ مصداقا للحديث النبوى ـ يلتمسون من الله عز وجل الرحمة كطريق للجنة وها أولى وأجدر بالعامة أمثالنا
ثانيا : أن تصوير الفرائض على أنها كل الدين أدى بالبعض إلى اعتبار أدائها ذريعة ورخصة ليفعل بعد ذلك ما يشاء طالما أنه أدى حق الله عليه , وبناء على ذلك ترى هذه النوعية تمنح لنفسها حقا أكيدا فى ممارسة حياتها بعيدا عن أى التزام يراه , فما دام قد صلي وصام وأدى الزكاة والحج فالحياة تصبح له مرعى بلا ضوابط ,
وهذا هو عين خفة العقل وعين التلبيس لأن أداء أركان الدين وحدها بشكل ميكانيكى لا تأثير له على سلوك الإنسان فى حياته إنما هو فراغ لا يؤدى لنتيجة , فالصلاة لو لم تنه صاحبها عن الفحشاء والمنكر وتذكره الخضوع لله فليست بصلاة , والصوم لو لم يتبعه صيام عن الموبقات بالقول والفعل فليس الصوم عندئذ إلا امتناع عن الأكل والشرب

وصنف ثالث , يدخل عليه التلبيس من باب التماس الفتاوى التى تناسب الأهواء سعيا منه لإرضاء ضميره أو إقناع نفسه أنه متبع للشريعة الغراء , فتجد الشخص منهم يقود الهدايا أمامه إلى أحد العلماء أو الشيوخ طمعا فى ترقيق قلبه لكى يعطيه فتوى أو حلا لمسألة يعانى منها ! وكأن الفقهاء والعلماء بيدهم أمر الحل والعقد بالشريعة وليسوا إلا منفذين لما شرعه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام , وهناك من الفاسدين أصحاب العلم من يتخذ هذا الطريق ويساهم فى زيادة التلبيس بالفعل
ويندرج تحت هذا الصنف أيضا , نوع آخر لا يقل حماقة حيث يذهب للسؤال فى الفتوى ولديه هوى وغرض بعينه فتجده يلتمس الشاذ من أقوال أهل العلم أو يلتمس القول من أهل الإفتاء الرسمى الخاضعين لأهواء السلطان ويكتفي بأن يقول أنه متبع لأهل العلم وهم من يتحملون وزر الفتوى !
وهذا تلبيس خطير لأن القاعدة الأصولية فى طلب الفتوى هى طلبها بتجرد تام عن الهوى والرغبة وإلا شارك المستفتي مفتيه فى الإثم دون شك
ومن المفارقات المثيرة للسخرية أن المجتمع أصبح يعامل هؤلاء الدعاة الغير مؤهلين أصلا للفتوى بمعاملة لم تتحقق لأكابر الأئمة السابقين , وذلك أنهم جعلوا فتاواهم أشبه بصكوك الغفران ما إن تستمع إليها حتى تكون قد أخذت طريق النجاح !

وصنف رابع من الاتجاه المناقض المتبع لأقوال المتشددين أو أهل التنطع تجده يترك كبار العلماء الثقات المعروفين ويلتمس أى فتوى من مدعى طالما أنها تتشدد إلى أقصي درجة , وهذا التلبيس هو عين التلبيس الذى دخل على الخوارج حيث كانوا يلتمسون من كل أمرين أصعبهما خلافا للقاعدة النبوية وهى اختيار الأيسر فى معزل عن الهوى
وهذا الصنف أصابته عقدة نفسية مؤداها أن الأصل فى المجتمع الفجور وعليه لا يقبل رخصة أبدا حتى لو كانت رخصة أجمعت عليها أقوال أهل العلم ,
بالإضافة إلى ترسب العداء العنيف لسائر المجتمع باعتباره مجتمع فتنة فتجده يعاملهم بأصل الجفاء لا أصل المودة , وتجده لا يقرأ فى القرآن الكريم أو يستشهد إلا بآيات العذاب دون الرحمة , بل ووصل بالعوام منهم إلى أنهم استخدموا مع أقرانهم أسلوب الاحتقار والتهديد بالنار والفخر المسف بأنهم على جادة الطريق وغيرهم على الباطل ,

وديننا الحنيف لا يقبل بهذا أو ذاك , فهو دين الوسطية , لكنه فى نفس الوقت لا يقبل الوسطية فى أحكامه المقررة
ومعنى هذه العبارة أن الإسلام فى أحكامه القطعية هو الشريعة الغراء الجامعة التى أصلت للعبادة وقواعدها كلها أتت فى صالح البشرية لكونها جاءت من خالقهم وهو أعرف بهم سبحانه وتعالى , ومع تلك الوسطية فى التشريع جاء الإسلام بقواعد قطعية صفتها الوسطية لكنها ملزمة لا تقبل تأويلا أو زيادة فى التبسيط أو تحريفا عن مواضعها
مثال ذلك ,
شرع الله لعباده صلوات مفروضة وجعل فى أحكامها رخصا تناسب الأعذار المختلفة لكنه لا يقبل أبدا أن يتخذ إنسان من تلك الرخص قواعد أصلية فيعمل بها بمعزل عن مسبباتها وشروطها

وكل تلك الأصناف من العوام أساسها التلبيس الذى قام على إبطال مفهوم العلم والفتوى لدى الناس , حيث اتخذ الناس علماءهم وفى بعض الأحيان ـ جُهالهم ـ كرهبان كنائس العصور الوسطى لا يرد لهم قول,
بينما أصل شريعة الإسلام أن أقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بها ,
بمعنى أن قول العالم وفتواه لابد أن تعضدها الأدلة لأنه لا يفتى من تلقاء نفسه أو يعطى من كيسه بل يفتى على أساس عقائدى وتشريعى قائم لابد من عرضه ,
وهذا التلبيس سببه رغبة الناس فى إرضاء الضمير وإسكاته بإلقاء المسئولية على غيرهم تحت ظن أنهم غير مسئولين كعوام , وهذا ما بينا بطلانه كقياس فاسد

الفصل الثالث : تلبيسه على الفرق المختلفة

سأحاول أن أتعرض لمفهوم الفرق بلغة سهلة أو معاصرة كى نقرب معناها للقارئ الذى ليس له دربة على قراءة لغة الكتب الأصول , لأن لغتهم كانت تميزها مصطلحات متعارف عليها فى زمانهم مما يجعل قراءتها الآن بغير تدريب كاف أمرا صعبا عند الاستيعاب
ومفهوم الفرق البدعية ببساطة
هى عبارة عن شخص أو أكثر يتخذ فكرة معينة تخالف ما هو مسلم به فى الشريعة ويدعو لفكرته تلك فتجتمع حوله بعض الفئات فيكونوا فرقة تحمل مبادئ مختلفة وتميزها عن كافة الفرق الأخرى وعن اعتقاد الجمهور من العلماء والعوام
ومفهوم الفرق كاصطلاح أسسه الرسول عليه الصلاة والسلام فى حديث انقسام الأمة الشهير ,
" تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة ... الحديث "
وكان التحذير من تلك الفرق فى أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام مكملا وشارحا لما جاء فى القرآن عن الابتداع والتحزب والتقول على الله بما لا يعلمون ,
ويجب هنا لفت النظر بشدة إلى حدود العلم ,
حيث أن حدوده متسعة للغاية والاجتهاد فيها مسموح بإطلاق , ولكى نعرف حدود العلم وحدود العقيدة التى ينبغي التوقف عندها , علينا النظر من خلال معيار الغيبيات المطلقة ,
فما هو داخل فى علم الغيوب الكلية والمنصوص على التصديق به بلا سؤال أو استفسار , هو مجال العقيدة الذى لا يسمح فيه باجتهاد وهو نوعان
الغيب الذى تتكون منه عناصر الإيمان المتمثلة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والحساب والقدر خيره وشره والساعة
والغيب الذى نص عليه سبحانه بالقرآن ونسبه لذاته العليا منفردا كقوله
[إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {لقمان:34}
وكقوله عن الروح
[وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] {الإسراء:85}
فكل غيب حصره الله تعالى بعلمه وحده , فهذا من المتشابه المنصوص على تلافي القول فيه , أما الغيب النسبي الذى بينه القرآن مقترنا بالتفكر فيه فهذا ينصرف إلى باب العلم , كالتفكر فى خلق السماوات والأرض ودراسة الأمم السابقة ونحو ذلك , بل إن هذا التفكر من أشد ما يتقرب الإنسان به إلى الله طالما أنه تقرب للفهم مع رسوخ الإيمان فى القلب , حيث يكون البحث والتفكر هنا سياحة للعقل المؤمن وزيادة تثبيت
ولهذا , فإن الصحابة والسلف من تابعيهم ما تركوا قضية غامضة فى القرآن إلا وبحثوا فيها فيما عدا القضايا التى نوهنا عنها ,
فحاولوا تفسير آيات الخلق والإبداع والأمم السابقة وتحدثوا فيها ووقفوا عند ذات الله تعالى وعند الروح وعند موعد الساعة وغير ذلك مما بيناه
وهذا الإيضاح كان لازما لكى لا يفهم القارئ أن الإسلام يطلب من المسلم غلق عقله , كلا
بل إن الإسلام يحفز العقل والبحث لأبعد الحدود وثلث القرآن تحض آياته على التفكر والتدبر ولم يرد الإستثناء بالمنع إلا فى القضايا التى حكم الله فيها بقضائه أنها غيبه المطلق وبالتالى مهما حاول فيها المفكرون فليس يجنوا منها إلا الجنون
والفرق تختلف عن المذاهب , من عدة وجوه أهمها
الوجه الأول : أن الفرق تختلف فيما بينها على العقائد وما يندرج تحتها من أصول الإيمان وهذا الإختلاف منهى عنه بإطلاق لأن الأمة لا يجوز لها أن تمارس فى العقائد ما تمارسه فى الفقه , فالعقيدة ليس فيها اجتهاد وتقليد وليس فيها اختلاف أو ابتكار , ذلك أن الله تعالى حددها بالقرآن وبينتها السنة حصرا فكل ما جاء ذكره مع وجوب الإيمان به غيبا وجب علينا التسليم به دون سؤال ,
وكل ما سكت عن بيانه أو نهى عن التساؤل فيه ينبغي التوقف فيه ,
أما المذاهب فهى الإختلاف فى الفقه والأحكام القابلة لذلك , والاختلاف فيه ثراء مطلوب طالما كان فى غير ما ورد به نص صريح ,
الوجه الثانى : أن الدين يجوز لنا أن نتخذ مسميات الإنتماء للتمييز بين أوجه التقليد للفقهاء والإتباع , فيقال مثلا فلان شافعى أو فلان مالكى , بينما فى العقائد لا وجود لغير المسميات الأصلية كالإسلام والإيمان والتى عرفت العبادة بهما على أنها دين الإسلام وسمانا الله تعالى بها المسلمين
وعليه فأى مسمى يضاف لكلمة مسلم هو بدعة مرفوضة بإطلاق ,
وهذا أمر طبيعى فالعلم عندما جاز فيه الإختلاف على حسب قدرة الاستنباط جاز فيه التمييز بالمسميات أما العقيدة فلكونها مجالا معروف حصرا بالنصوص لا يجوز فيه الاجتهاد , من هنا حرم فيه الانتساب
الوجه الثالث : اختلاف المذاهب لا يعنى تناحرها وتنافرها بل اختلافها اختلاف تنوع وتكامل ولهذا كان الأئمة متكاملى الفقه والدين حافظين أقدار بعضهم البعض تحت لواء العقيدة الواحدة ,
بينما الفرق فى اختلافها كانت ولا زالت تكفر بعضها بعضا وهذا طبيعى لأن الإختلاف بينهم ليس فى الفروع بل فى أصل الأصول وهو مفهوم الإسلام والإيمان والنظرة للغيبيات

ومن الملاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما حدد كنه اختلاف الفرق وركز التحذير عليه بينما أجاز الاختلاف فى الاجتهاد والفهم وشجع عليه .,
والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على ذلك
فقد سكت بإقرار على اختلاف الاجتهاد بين الصحابة فى مسألة صلاة العصر فى بنى قريظة , وأقر الفئتن , من أدى الصلاة فى وقتها رغم عدم وصولهم لبنى قريظة , ومن لم يؤدها والتزم النص فصلي العصر بعد فوات وقته عند بنى قريظة
إلا أنه كان غضوبا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى تحذيره على أى شبهة اختلاف أو بحث فى العقائد , مثال ذلك ما حدث عندما رأى فى يدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة أخذها عن أحد اليهود فنهاه عن ذلك وصعد المنبر منبها " ألا إنى قد جئتكم بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك "

نخلص من هذا إلى أن الفرق هى الفئات التى دخلت فى جملة العقائد الغيبية تحاول البحث فى كنهها وقامت بإثارة قضايا منهى عن إثارتها نصا واجماعا مثل التفكر فى ذات الله تعالى أو صفاته أو مخلوقاته الغيبية أو نحو ذلك
وعندما ظهرت الفرق واتخذت لنفسها المسميات كان أمام الأمة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام لمن يبغي النجاة منهم حيث قرر لزوم الجماعة والمنهج الذى كان عليه هو عليه الصلاة والسلام وصحابته ,
وهو المنهج الذى يتبعه العامة والعلماء السالكين على طريق السنة والذين تميزوا عن سائر الفرق بمميزات واضحة منها
أولها : أن أهل الفرق جميعا اتخذوا لهم مسميات مميزة مثل الخوارج والشيعة والمعتزلة والجهمية وغيرها , وظل عامة الناس على ما تلقوه من الكتاب والسنة بدون مسمى يفصلهم , وفى هذا يقول بن تيمية عن تعريف الجماعة أو أهل السنة " أنهم الذين لم ينفردوا بمسمى معين "
ثانيها : أن جميع الفرق اتخذت لها عقائد لم يسبق إليها من الصحابة أو التابعين أحد , ثم بحثوا عن تأويلات واثباتات لها فى النصوص , بينما كانت الجماعة متبعة ما كان عليه الخط الأول لسلفها الصالح
ثالثها : تميزت الجماعة بكونها تقر بالقرآن ومعه السنة الصحيحة التى حفظها علماء الحديث فتثبت ما فيها وتنفي ما تنفيه , وتجل قدر السنة النبوية باعتبارها صنو القرآن , والتزمت الجماعة أيضا بتقديم النص وعدم تعديه مطلقا
بينما كانت سائر الفرق مبتعدة تماما عن السنة ومنكرة للأحاديث إما كليا أو جزئيا وقدمت العقل على النصوص وجعلته حاكما على النص لا محكوما به , ولهذا لا توجد فرقة من فرق الأمة المتناحرة فيها من يهتم لعلم الحديث أو يلتفت إليه
رابعها : قامت كل فرقة بتكفير من عداها من الفرق أو أهل السنة بإطلاق , بينما كانت الجماعة السالكة درب السنة تمنع تكفير المعين بإطلاق إلا بشروط جامعة مانعة لا تقبل الاستثناء أو التأويل
خامسها : كل فرقة من الفرق التى اتخذت هذا المنهج بدأ فى أولها كفرقة واحدة ثم تفرعت لعشرات الفرق المتناحرة المكفرة لبعضها البعض , حتى أن فرق الشيعة منفردة بلغت نيفا وسبعين فرقة

ومن هذه الفوارق فى ضوء أحاديث التحذير من النبي عليه الصلاة والسلام يتضح لنا أن النجاة التى وصفها الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هى فى اجتناب أى فرقة توافرت فيها أحد الأوصاف السابق بيانها سواء باتخاذها مسمى معين أو ابتداعها فى العقائد أو تكفيرها من عداها أو فى استهانتها بالسنة وعلوم الحديث أو فى تقديمها العقل على النقل الثابت , وهذا هو طريق السلامة