عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2010, 10:49 PM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بين صفحات الكتاب :

على عادة بن الجوزى التى يشاركه فيها بن كثير وبن قيم الجوزية وبن تيمية وبن حزم وغيرهم , جاء كتابه سهل الأسلوب حسن العبارة شيق العرض والمضمون ولهذا كانت مؤلفات هؤلاء الزمرة من العلماء أكثر انتشارا من مؤلفات غيرهم , ولهذا تنتشر بين أيدى المهتمين بكتب التراث وطلبة العلم فيه لكونهم لا يحتاجون تدريبا أو معاونة غالبا فى الإبحار بين صفحاتها

فمثلا يعتبر كتاب اختصار علوم الحديث لبن كثير الذى حققه أحمد شاكر أكثر انتشارا وشهرة من مقدمة بن الصلاح رغم كون هذا الأخير أكثر قيمة وأسبق فى الصدور ,
وكذلك كتاب بن قيم الجوزية مدارج السالكين أو الفوائد يعد أكثر انتشارا من كتاب الزهد لبن حنبل مثلا رغم اختلاف الفارق والقيمة بين الإمامين
وأيضا يتصدر كتب الفرق كتاب الفصل فى الملل والنحل لبن حزم نظيره الذى ألفه الشهرستانى باسم الملل والنحل لبراعة أسلوب بن حزم وعرضه بينما يتوازن المرجعان الرئيسيان الباقيان وهما مقالات الإسلاميين للأشعري والفرق بين الفرق للبغدادى
ويتصدر بن تيمية بكتبه فى رد الشبهات سائر من سبقه ومن لحقه من العلماء لنفس المميزات ولغزارة الرد وسرعة البديهة فيه كما هو الحال فى كتابه الشهير " الرد على منهاج الكرامة " والذى كتبه للرد على الرافضي بن المطهر الحلى فى كتابه " منهاج الكرامة بإثبات الإمامة " وتم نشر كتاب بن تيمية فيما بعد حتى عصرنا الحالى تحت اسم " منهاج السنة النبوية " فضلا على كتابه فى الرد على الجهمية المسمى " بيان تلبيس الجهمية " والذى ينتشر أكثر من كتاب بن حنبل " رد شبهات الجهمية " رغم أن كتاب بن حنبل أسبق وأقدر
غير أنه يجدر بنا أن ننوه أن براعة الأسلوب والعرض لا تعنى التفوق فى العلم بالطبع , بل إنها تمثل ميزة فى الوصول لا أكثر

وقبل عرض الكتاب ,
يجدر بنا أن نلتفت إلى مكمن قيمته أولا , ذلك أن أزمة المفكرين المدركين لقيمة التراث أنهم يتعاملون مع كتب عمالقة السلف بمنطلق عصر السلف وحده ولهذا فنادرا ما نجد من المفكرين المعاصرين من يحسن القراءة والفقه فى تلك الكتب ,
لأن كتب التراث أعظم وأثقل وأكبر من أن نتخذها للمعرفة المجردة وحدها أو الرواية التاريخية فقط , بل قيمتها الحقيقية تكمن فى استخدام تلك المعارف القديمة التى كتبها علماؤنا بما يناسب عصورهم , لنسقطها على عصرنا الحالى ونستخدم نفس الأفكار ولكن فى أوعية جديدة تفتح لنا أبواب الحلول لقضايانا
وهو أمر أشبه بالقياس المعروف بالفقه وهو أن تقيس مسألة منصوص عليها بمسألة أخرى غير منصوص عليها لتخرج بالحكم الصحيح
ولهذا فإن كتب التراث لا تحتاج المحققين فقط ليبسطوا لنا نصوصها ويبينوا لنا سلامة محتواها , بل تحتاج ما هو أعظم من ذلك , تحتاج فئة من المفكرين العارفين بأقدار تلك المؤلفات ليعيدوا بسطها وعرضها بلغة العصر وقضايا العصر , وهذا الأسلوب يكفل لنا تحقيق هدفين رائعين
الأول : صنع جسور من التواصل بين ماضينا وحاضرنا وتصحيح نظرة العوام للتاريخ على أنه أقاصيص للتسلية ليصبح التاريخ فى مكانه الطبيعى كأساس للتوعية والتجربة لبناء الحاضر
الثانى : الاستفادة من الحلول الجاهزة لقضايانا المعقدة التى نعانى منها عندما نحسن التدبر فى كيفية المواجهة التى تمت بين علمائنا وبين الأزمات الفكرية الدخيلة فى عصرهم ,
لأن الغزو الفكرى ليس وليد العصر كما يظن البعض , بل إن الغزو الفكرى بدأ منذ بداية القرن الثانى الهجرى واستمر , غير أنه لم يؤثر بمقدار خردلة على التوجه العام للأمة لأن الذين تصدوا لتلك الغزوات كانوا أبطالا فى مجالاتهم وعلمهم ومن خلفهم تآزرت الجماهير
ولهذا , ظلت الأفكار الدخيلة على الإسلام كأفكار المعتزلة والصوفية الفلسفية والخوارج والشيعة والجهمية والمرجئة عبارة عن أفكار محصورة بأصحابها لم تأخذ الطابع العام أبدا ولم ينجحوا فى الوصول للجماهير مطلقا حتى فى تلك الفترات التى سيطروا فيها على الحكم وأنشئوا دولا أو ساندهم الحكام ,
وكان سبب العزلة واضحا جليا وهو ثقة الشعوب والعامة فى علمائها الثقات الذين تملكوا زمام التوجيه فلم تتركه الجماهير لغيرهم , ولهذا نجحت المذاهب الفكرية المعاصرة فى تخريب تلك العلاقة بين العلماء الحقيقيين وبين الجماهير فتمكنوا بذلك فى تحقيق الكثير من أهدافهم عندما تخلت الأمة عن مصادر تلقيها المعتمدة , وتخلى العلماء عن دورهم تحت تأثير التهميش
غير أنه ينبغي ألا ننسي أن زمرة من علمائنا الكبار على مر العصور تصدوا ـ رغم الصعوبات ـ لتلك المذاهب فأبطلوها وجعلوا أهدافهم التى حققوها كسراب بقيعة بعد أن استيقظت الجماهير مؤخرا فاختارت الحل الدينى رغم التشويه الذى مارسته الأنظمة القمعية والعلمانية المسنودة بالسلطة على كل ما هو إسلامى
وكمثال بسيط يقصر عن الحصر جهود الإمام الشعراوى التى أبطلت معظم جهود حركة المستشرقين المعاصرة والعلمانية والشيوعية وغير ذلك من المذاهب وأيضا ما كتبه مصطفي محمود المفكر العملاق لكشف أبعاد العلمانية والشيوعية واليسار العربي المستنسخ من الثقافة الشيوعية , وما قدمه أيضا الدكتور سفر الحوالى لتشريح العلمانية على منضدة التحليل فى كتابه الشهير عنها , وأيضا كتابات محمد قطب وجهود الشيخ محمد الغزالى وغيرهم ,

ولهذا فالقيمة الحقيقية لكتاب تلبيس إبليس إنما تتبدى فى التعرض لفصوله المختلفة وإسقاط تلك الأفكار على الغزو الفكرى المعاصر وشرح طريق إبليس بشأنه , لأن الباطل مهما تنوعت وجوهه فإن المضمون واحد
وإنا وإن كنا نواجه الغزو الفكرى والتخرصات الشيطانية فى أمور مستحدثة أو أكثر غزارة من تلك التى عانت منها الأجيال السالفة , إلا أن الفكرة واحدة ومتمثلة فى قدرة إبليس على تزيين موقف الباطل واللعب على وتر الإعجاب بالرأى وقياس الحق بالرجال لا قياس الرجال بالحق , وهو الأمر الذى وقع فيه عشرات من كبار رموزنا فضلا على صغارهم والعوام
وعليه فسنعرض لفصول الكتاب فصلا بعد فصل شارحين محتواها كفكرة ثم نجعل التركيز منصبا على تطبيق الفكرة فى عالمنا المعاصر فهذا أنفع للقارئ وأكثر تأثيرا , لكى يكتشف القارئ أن الأفكار المنتشرة بعالمنا الآن إنما هى مواريث قديمة حاربها علماؤنا وردوا أصحابها على أعقابهم , وما نراه اليوم لا يعدو كونه أذيال تلك الفرق جاءت تحيي مواريث قدماء مبتدعيها بعد أن ألبسوا نفس الأفكار ثوب الحداثة ,
ورد هؤلاء الوارثين لن يحتاج وقتا أو جهدا لأن السلاح الذى واجه الأقدمون تلك الأفكار موجود فى التراث لا يحتاج إلا قراءة جديدة فقط تنفض عنه غبار الإهمال ليعود أقوى وأكثر تأثيرا

الفصل الأول : فى ذم البدع والمبتدعين


عرفنا أن مفهوم التلبيس هو الطريق الذى يسلكه الشيطان للوسوسة أى طريقة دخول الشيطان إليك , وهو طريق معهود متمثل فى هوى النفس , ومن هنا تأتى السيطرة ,
تماما كما تفعل شياطين الإنس من أقران السوء حيث يدخل الواحد منهم لصاحبه من باب هوايته الذى يمثل نقطة ضعفه أو من باب عقدته النفسية , وهو باب جديد لم يكن منتشرا فى عصر بن الجوزى لكنه فى عصرنا أصبح أساسيا
فالشيطان إذا لمح من الإنسان نزوعا للحق أو الصلاح سلك إليه أولا طريق العقدة النفسية ـ إن وجدت ـ وهى غالبا موجودة وتتمثل فى حادثة معينة أو طبع معين ترك تأثيرا كبيرا على نفسية الشخص فأصبحت تتملكه فكرة واحدة فى حياته هى فكرة مقاومة تلك الحادثة أو دفعها لكى لا تتكرر , وغالبا ما يتخذ الإنسان حيال عقدته أساليب للمقاومة مبالغا فيها جدا وهذا نابع أصلا من خوفه المرضي لا على شواهد من الواقع
مثال ذلك ,
عقدة العظمة التى تتملك نفسية الموهوبين المظلومين من مجتمعاتهم فيتخيل الموهوب نفسه معرضا لأخطار وهمية أو اضطهاد من كل إنسان حوله فيدفعه ذلك للإنعزال والمعيشة فى شرنقة نفسية تمتلئ بأحلام اليقظة التى يري نفسه فيها أعظم عقلية على وجه الأرض وأن البشر جميعا من حوله تحسده على عقليته تلك ولهذا لم ينصفوه أو يمنحوه مكانته الطبيعية , ويغرق فى دور الشهيد المضطهد وترضي نفسه بهذا المبرر الذى يدارى عنه فشله الراجع أصلا لعيوبه لا للمجتمع من حوله ,
فإن صادف فشلا فى عمله فالمبرر جاهز وهو أن رؤساءه يغارون منه , وإن واجه معاملة عادية تتناسب مع قدراته من مجتمعه كان المبرر أيضا جاهز وهو أن المجتمع مملوء بالحاقدين الذين يطمعون فى مثل مواهبه أو يحاربون لإبطال دوره فى إصلاح المجتمع والناس والدين والدنيا , .
وهذه العقدة وإن كانت فى الأصل تنتاب المواهب الحقيقية التى عانت من إضطهاد فعلى إلا أنها أصبحت الآن سمة مميزة لعوام الناس مع كثرة الظروف السلبية التى يواجهها المجتمع لا سيما الشباب منه , فأصبحت عقدة العظمة قرينة بعقدة الإضطهاد لدى منعدمى الموهبة والوجود لأنها تمثل حلا ذهبيا للفاشلين والمتواكلين الراغبين فى المكانة والمكان بغير بذل الجهد للوصول إليها
وتكمن براعة إبليس مع هذه الفئة أن يغلق أمام الناصحين لهم أى باب يستطيعون النفاذ منه لمعالجتهم , وذلك أنه يرفع لافتة الإضطهاد أمام أى قول ناصح فلا يسمعه المفتون بنفسه أبدا , لا سيما لو كان تلبيس إبليس داخلا عليه من جهة الدين بحيث يقنعه أنه أحد كبار المصلحين فى المجتمع الفاسد ومن الطبيعى أن تتكون له العداوات ,
وهناك لابليس طريق أكثر قوة مع ذوى القدرات والعلم , فهؤلاء ـ لا سيما إن كانوا ذوى دأب فى ممارسة دورهم فى المجتمع ـ يصبحون عبئا ثقيلا عليه , وبالتالى يحاول الدخول اليهم وتعطيل حماسهم عن طريق تذكيرهم باهمال المجتمع لهم وأن هذا المجتمع لا يستحق جهدهم وما إلى ذلك من الوساوس التى تعطل الهمم , ومع ذلك يلجأ أيضا لزيادة تأثير أزمات الحياة عليهم لعل وعسي يصرفهم بها عن دورهم الإصلاحى ,
وإذا فشلت جهود ابليس فى ذلك يلجأ إلى الورقة الأخيرة المتمثلة فى إثارة شكوك هؤلاء العلماء وقادة الفكر ومن يسيرون على دربهم حول رسالتهم فى إصلاح المجتمع , ويكون التشكيك متمثلا فى دخول الخوف إلى الأعماق أن تكون أعمالهم تلك ليست خالصة لوجه الله أو أنها مدخولة بغرض دنيوى ,
وطالما أن هدف المصلح الحقيقي هو مرضاة الله فمن الطبيعى أن يؤثر فيه هذا الخوف خشية أن يحبط عمله ويبدأ فى التردد وإعادة التفكير ,
وهذا هو غاية الشيطان من تلك الوساوس أن يعطله قليلا بالتردد طالما عجز تماما عن صرف المصلح عن هدفه
لكن غالبا ما تفشل جهود ابليس مع تلك الفئة ,
بسبب معرفتهم بطرقه وانتباههم لها , فإن تأثروا لفترة فلا يلبثوا أن يعودوا لطريقهم وضحكاتهم الساخرة تتردد من حماقات ابليس التى فشلت كعادتها معهم تنفيذا لوعد الرسول عليه الصلاة والسلام
" لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم " أو كما قال عليه الصلاة والسلام
هذا مثال على طريق العقد النفسية التى ينفذ منها الشيطان ,
أما مثال التلبيس بطريق تعمية عيون الإنسان عن الحق فكثيرة ومتعددة الوجوه وقديمة الممارسة ,
وتعرض لها بن الجوزى بالشرح عندما قسم كتابه على حسب الفئات فى المجتمع فجعل لكل فئة منهم فصلا يتحدث فيه عن كيفية دخوله إليهم , فشرح كيف يدخل بالتلبيس على العلماء وعلى العباد وعلى الزهاد وعلى أصحاب الفرق المختلفة
وهذا يصحح لنا مفهوما مهما للغاية فى معالجتنا لتلك التلبيسات وهى أنه ليس كل صاحب باطل أو داعى للفتنة يعرف أنه كذلك , فغالب هؤلاء يظنون أنهم يصلحون فى الأرض بل ويجاهدون فى سبيل الله أيضا ,
فالعلمانيون منهم من هو متواطئ وعارف بأنه يدعو إلى ضلال ويفعل ذلك عامدا ابتغاء المكسب الدنيوى , ومنهم أيضا من هو مقتنع تماما بالعلمانية كمذهب ضرورى التطبيق للخلاص من سيطرة الفقهاء ـ كما يظنها ـ وبالتالى ينظر لنفسه على أنه داعى الحضارة فى بلاد التخلف