عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
30

المشاهدات
24813
 
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي


محمد جاد الزغبي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,179

+التقييم
0.18

تاريخ التسجيل
Jan 2006

الاقامة

رقم العضوية
780
08-31-2010, 10:47 PM
المشاركة 1
08-31-2010, 10:47 PM
المشاركة 1
افتراضي شرح تلبيس إبليس لابن الجوزى
شرح تلبيس إبليس لابن الجوزى


" شرح كيفية دخول إبليس على أصحاب الفرق المختلفة فى الإسلام وعلى عوام الناس , وسيكون من ضمن الشرح عرض مبسط لمفهوم أفكار وعقائد تلك الفرق بلغة مبسطة ومعها أيضا عرض لأشباهها من الفرق المعاصرة التى أخذت نفس الأفكار
والشكر لشيخنا الفاضل أحمد سعد الدين الذى أعطانى فكرة شرح هذا الكتاب
"

إن من مقدرات هذه الأمة فى عصرها الحالى أنها تبتغي الهدى حيث الضلال , وتطوى الوجه جانبا عن كل حلول الأزمات ومقاييس الحضارة برغم توافرها فى تراثها البالغ الثراء بشكل يكفي ألف أمة للنهوض لا أمة واحدة وحسب
ففي الوقت الذى تفتقد فيه بقية الأمم تاريخا ثريا موثقا تبنى عليه حضارتها باعتبار أن التاريخ ركيزة الحاضر والمستقبل , نعانى نحن من ضخامة الثراء فى تاريخنا !
وبينما تفتقر شعوب العالم إلى كل موهبة وتسعى خلف العباقرة , نعانى نحن من تخمة فى عددهم وكثرتهم وكفاءتهم
وبينما تنهض الأمم بمواردها البشرية والذاتية والطبيعية وتستغل كل قطرة فيها ,, ننحدر نحن إلى أسفل كلما ازدادت رقعة وتنوعت مواردنا

وأخيرا ,
بينما تتمنى كل أمة أن تجد فى مفكريها من يستشرف لها المستقبل ويقدم لها أسباب النهوض من الأزمات وتلافي العقبات ويغرس فى أعماق شبابها الإنتماء
نتخلى نحن طواعية عن كل هذا الفيض الغامر من أسباب النهوض وعوامله والذى تركه لنا التاريخ منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام وهو يرسم صورة المستقبل ويحذر من كوارثه , وحتى ثلاثة أو أربعة قرون مضت , فعبر هذه الفترة قدمت الأمة مئات الألوف من العلماء والمفكرين والفلاسفة فى سائر المجالات لم يتركوا هفوة أو يهملوا حرفا يحمل حلا دون أن يقدموه على طبق من ذهب للأجيال القادمة حاملا بصمتهم التى نفذوا وصاياها فى حاضرهم لكى نتعلم منهم ,

وتركنا كل هذه الكنوز وهؤلاء الآلاف المؤلفة من العلماء والذين يكفي عددهم ليشكلوا رعية دولة كاملة بعصرنا الحالى , فى نفس الوقت الذى سعينا فيه خلف ثقافات مسوخ الغرب التى تفتقد أدنى مقومات الحضارة الإسلامية فى بناء المجتمع وتربية الحضارة ,
ولهثنا خلف فلسفتهم المريضة التى كانت تعالج قضايا الفكر بأسلوب الإلحاد تارة وبأسلوب الخرافة تارة أخرى , تاركين ما تركه لنا علماؤنا فنهبه المستشرقون ليبنوا عليه فلسفة جديدة تعالج قصور فلسفتهم القديمة
نظرنا بانبهار لمن يسميهم الغرب فلاسفة وهم يلقون على الناس أقوالهم المهووسة وصفقنا معهم لها
واستمعنا ـ وعلى وجوهنا علامات الإكبار ـ لمن يقول , أن العالم كله عبارة عن وهم فى خيالى وأنا وحدى الحقيقة !
ولمن يقول أن الكون نشأ بمحض الصدفة وأنه لا وجود للإله , وأن المادة التقت مع بعضها ـ بالصدفة أيضا ـ وكونت المخلوقات والأكوان !
ولمن يهذى أكثر فيدعو لفلسفة اللامعقول ! وفن ما بعد الحداثة وأدب الحداثة و ... إ‘لخ هذا الهذيان
وتركنا المثل العليا الإسلامية ورضينا أن نصفق للمثل العليا الغربية المبنية على الخرافات من أمثال هركليز وأخيليس وهيرا وغيرها من آلهة اليونان وبطليموس وأغسطس ويوليوس قيصر وغيرهم من قادة لتاريخ الغربي
التمسنا البطولة فى دول الغرب التاريخية وكأننا لا نملك من التاريخ أبطالا هدموا هذه الأصنام
ولو تأملنا تاريخ الغرب بنظرة سريعة منذ مطلع حضارة الرومان لوجدنا أن دولهم كانت تقوم بعزيمة رجل واحد تتوافر فيه صفات القيادة والبطولة من أمثال بطليموس وأغسطس وفيليب المقدونى ونجله الإسكندر الأكبر وغيرهم ,
وفى العادة لم يكن يظهر عندهم فى الجيل الواحد أكثر من بطل واحد تتوافر فيه هذه المواصفات ,
بينما جاء الإسلام برسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ومعه اثنا عشر ألفا بطل يتفوق الواحد منهم على مائة من هؤلاء ,
وظهرت مكانتهم بمقارنة بسيطة ,
لأن هؤلاء الأبطال أسسوا مع النبي عليه الصلاة والسلام دولتهم التى سيطرت على الجزيرة فى بحر عشرين عاما فقط , ثم اتسعت رقعة الدولة فدمرت الإمبراطوريتين الغربيتين بكل ثقلهما وفى وقت واحد فى أقل من عشرة أعوام
و قبل أن يمضي نصف قرن كانت دولة الإسلام تحتل من مشرق الأرض إلى مغربها فى نفس الوقت الذى استغرق فيه الصراع بين الروم والفرس دون تفوق أحدهما ثلاثة آلاف عام !
فأى الصورتين أجدر بالإنهبار يا ترى ؟!

وأبطال الغرب فى الأساطير اليونانية التى لا زالت تحظى بشعبية عارمة فى نفوسهم , مثل أخيل الذى يدعون أنه كان نصف إله وأنه لم يهزم قط , ومعه هكتور مروض الخيول وأمير طروادة وغيرهم كثير ممن كانوا فرسان حروبهم وجاءت سيرتهم تشوبها الخرافات غالبا بفعل مزج الخيال بالواقع , وابتعاد تاريخهم عن التوثيق بأدنى صوره
وأعظم ما يمكنهم الفخر به أن أبطالهم كانوا فرسانا مغاوير يرجحون كفة الجيوش , بقوى غير منظورة من الآلهة التى يعبدونها بينما عندنا تاريخنا يحمل أساطير أبطال لا تعد ولا تحصي وكلهم دخلوا حروبهم فلم يهزموا بمعركة قط مهما كانت الكفة مرجحة لعدوهم
فافتتن شبابنا بهؤلاء بينما تاريخنا الموثق المؤكد والذى حفظه العلماء فوصل إلينا بأسانيده كاملا يحتوى من الأساطير الحقيقية ما يدفن سيرة أساطيرهم التى وصلت إليهم وثلاثة أرباعها كذب والربع الآخر أحلام يقظة
فمثلا ,,
حارب المسلمون فى بدر تحت قيادة النبي عليه الصلاة والسلام وهم ثلثمائة مقاتل فى مواجهة ألف مقاتل وانتصروا انتصارا ساحقا وكانت الملائكة تقاتل إلى جوارهم حتى رآها بعضهم عيانا كما تذكر كتب السير , بل ورآها بعض المشركين أيضا ,
وكان منا خالد بن الوليد سيف الله المسلول الذى لم يدخل معركة قط فهزم فيها وقاد المسلمين فى العراق وواجه الفرس ثم قفل راجعا إلى الشام فقاد المسلمين لمواجهة الروم فى اليرموك وقبلها سحق أكبر رءوس الردة فى اليمامة , وقال عنه المستشرقون إن خالد قائد لم يكن له أبدا أن يولد فى الصحراء ليحارب على شاة أو جمل
وكل قياداته فى جيوشه كان التفوق العددى والتسليح لصالح خصمه بنسبة واحد إلى عشرة على الأقل , ومع ذلك كان النصر الساحق حليفه
وعندنا الزبير بن العوام الذى كان فى ميزان المسلمين بألف , فما بالنا بميزان الآخرين
وفى اليرموك كان يقتحم ميمنة الروم منفردا فيخترق صفوفها المتراصة بأعداد مهولة وينفذ من الجانب الآخر سالما بعد أن يجندل من أبطالهم ما لا يحصيه إلا الله
وعندنا العلاء بن الحضرمى الذى خاض بجيشه البحر على خيوله وعبر لعدوه فى الجانب الآخر فهزم أعداءه بصورته تلك وحدها قبل أن يهزمهم بسلاحه
وعندنا على بن أبي طالب الذى ما سل سيفه فى مواجهة فسقط منه قط ,
وهذا غيض من فيض تعجز الأوراق على استيعابه فى جيل الصحابة وحده رضي الله عنهم , فما بالنا بالأجيال التالية بعدهم والتى استمرت حتى عصرنا الحالى فى بعض الصور النادرة التى تجلت فيها قدرة العقيدة الصحيحة عندما تنفجر فى قلب المسلم ,
وأعظم مثال لذلك ما فعلته الجيوش المصرية والسورية بمساندة أشقائها فى مواجهة رمضان " حرب أكتوبر " والتى كانت أحد أكبر الأسباب المباشرة لتحري السياسة الغرية لهدفها الأعظم ألا وهو ضرب تلك الروح التى تبعث الصحوة
هذا فى ميادين القتال بخلاف العلماء الذين نوهنا عنهم فى البداية وكان الواحد منهم يكفي أمة للنهوض , فامتلكت أمة الإسلام ألافا
ثم ماذا ؟!
ثم ذهب أكثر من تسعين بالمائة من تراثهم فى كارثة بغداد على يد المغول , وبقي أقل من العشر ,
وهذا العشر ما استطعنا نحن ـ الأجيال المعاصرة ـ أن نطبع وننشر منه إلا أقل من خمسة بالمائة من هذا العشر والباقي موجود بخزائن الكتب مخطوطا أو مسروقا فى بلاد الغرب
وهذه الخمسة بالمائة المطبوعة تملأ أرفف المكتبات بشكل عجز عنه المتخصصون فى كل مجال أن يستوعبوها قراءة فقط لأن العمر لا يكفي لمجرد مطالعتها
ثم يأتينا بعد ذلك أحد الحمقي من هؤلاء الذين يسميهم الإعلام بالمفكرين ليدعونا إلى الحضارة بمفهومه , ومؤداها أن نترك التراث لكى ننفتح على العالم !
وكأن الفكر الغربي المشوه هو قبلة الحضارة وهو الفكر الذى يتخلى أهله الآن عنه بعد أن تقلب عبر القرون من الإلحاد إلى الوجودية إلى التدين الكنسي إلى العلمانية إلى حداثة وفلسفة اللامعقول ثم أخيرا ظهرت النداءات المجتهدة منذ مطلع القرن الجديد تدعو للعودة إلى الدين وتغذية الجانب الروحى ,
وحماقة الداعين إلى الغرب تتبدى فى نقطتين كل منهما تثبت أنهم قوم بلا عقول
الأولى : أن ما يدعوننا إليه من ترك التراث الإسلامى العريق يبدو غريبا معنا ونحن شعوب تخلت عنه أصلا منذ قرنين من الزمان !
وفى نفس الوقت الذى يصفون فيه الحضارة الإسلامية بالتخلف , نجد الغرب نفسه جند أهل فكره لدراسة الحضارة الإسلامية وعرف عنها ما لم نعرفه نحن عن حضارتنا إلا من خلال دراساتهم الإستشراقية التى حاولت هدم هذا الفكر فالتصقت به وآمنت به رغم أنفها , فصرح منهم بالإيمان من ترك المكابرة واتخذ بعضهم طريق الهوى بعد أن أعلن انبهاره من خلال هجومه العاجز والذى فشلت فيه حركة المستشرقين
الثانية : وهى قمة الحماقة أن الغرب نفسه بات الآن يغير جلده ويتنكر للمذاهب الفكرية التى عاش يدعو لها منذ بداية عصر النهضة ويعود من جديد ساعيا للتدين
و فعلا ,
لكل داء دواء يستطب به ×× إلا الحماقة أعيت من يداويها

وهذه النظرة التى قادها مفكرو التغييب ـ إن صح التعبير ـ منذ بدايات القرن العشرين كانت أكبر وأقوى وجوه التلبيس التى اتبعها ابليس لعنه الله مع عامة هذه الأمة فاستجابوا له وتركوا ما صلح به أول الأمة ففسدت آخرتها الآن كما ترون , دون أن يتوقف واحد منهم فيسأل سؤالا بسيطا
هل كنا فى الزمن الماضي سادة العالم بالقرآن والسنة أم بالعلمانية والإشتراكية ؟!
لكن العقل إذا جهل , أصبح عجينة طرية فى يد ابليس ليبثه كيف يشاء من الخواطر التى تفسده من حيث يراها الحمقي إصلاحا , وهذا ما عرّفه العلماء باسم تلبيس ابليس
أى طريق ابليس إلى الخداع مع البشر فيبدل الصور أمام المسلم فيري الباطل حقا والحق باطلا , وبالتالى ـ وطالما أنه يري فى باطله الحق ـ فمن أعتى المستحيلات أن يتوب عنه أو يتبصر به , لأن الإنسان لا يتبصر لما يراه حقا بل ينتبه لما هو فى عرف مجتمعه باطل ,
فمثلا ,
لو أن هناك إنسانا شاربا للخمر بسبب قرين السوء , فهذا ما أيسر هدايته ممن يحاول معه لأنه لن يكابر فى حرمة الخمر أو خطورتها , ولن يكابر فى الإعتراف بسوء صحبة قرينه الذى يدعوه لمنادمة الخمور
لكن ماذا لو أن إنسانا يتبع من يتصوره عالما أو زاهدا بينما هو فى حقيقة الأمر شيطانا مريدا يتظاهر بالصلاح , فهنا تصبح المعضلة أقوى لأن المصلح سيحتاج أضعاف قوته لكى يبين لهذا الملبس عليه أن هذا القرين ليس بالصالح ولا هو بالمصلح
وتصبح الكارثة أعظم لو كان التلبيس من النوع الذى يقلب المعانى ويحول المفاهيم إلى معكوساتها , وهو ما نعانيه بالفعل فى عصرنا
فالفوضي والشيوعية أصبحت حرية , والإنحلال أصبح تحضرا , والكفر أصبح اجتهادا محمودا ! , والبغاء أصبح عنوانا للفنون !

وهذا الموضوع وأعنى به شرح كيفية دخول إبليس على النفس وخداعها وتزيين الباطل على أنه أحق الحق , هو موضوع كتاب " تلبيس ابليس " للعلامة الجهبذ أبي الفرج بن الجوزى
وهو كتاب فريد فى بابه ,, عظيم فى دوافعه وأسبابه
ولا يتخلى عنه مسلم ـ وقد سمع به ـ إلا وكان لزاما عليه أن يبحث عن دواء لعقله , لأنه وببساطة كتاب يشرح لك ويبين فى يسر وسهولة سائر المسالك التى يأتيك منها شيطانك فبالتالى يكون سد هذه الطرق عليه من أبسط الأمور وهكذا يكون المسلم قد انتصر فى جبهة رهيبة من الجبهات الأربع التى يحارب عليها فى حياته والتى عبر عنها الشاعر بقوله
ابليس والدنيا ونفسي والهوى ×× كيف الخلاص .. وكلهم أعدائي

بل إنى أزعم أن جبهة ابليس عليه لعنة الله , هى أقوى الجبهات على الإطلاق , لأن المسلم إذا أراد لنفسه الصلاح فستكون العزيمة طريقه لقهر الهوى , والعمل الصالح قهر للنفس لأن جوارحه مع الطاعة ستطيعه شاء أم أبي , وسيكون الصبر قاهرا للدنيا ,
أما جبهة إبليس , فخطورتها تتمثل فى أنها جبهة متعددة الأسلحة , منها الظاهر وهذا يمكن مواجهته بالعزيمة والصبر ومن قبلهما الإستعاذة , وجبهة خفية هى التى لا ينجو منها إلا من شاء الله لأنها كما سبق القول جبهة يأتى منها إبليس بثوب المصلح بينما هدفه الحقيقي الإفساد
وتلك الجبهة لم ينج منها من عامة الناس بعد الأنبياء والرسل إلا أهل العلم , لأن العلماء الربانيين يكفل لهم الله بعلمهم الخبرة اللازمة للانتباه , ولهذا كان العالم الواحد أشد على إبليس من ألف عابد

مؤلف الكتاب :
ليس القصد هنا أن أضع لهذا العلم ترجمة على عادة التراجم , بل القصد أن أقدمه للقارئ من خلال كتبه تقديما بسيطا وهذا بغير إطالة حتى يتسنى لنا أن نبحر فى خضم بحر كتابه تلبيس إبليس
فهو العلامة الحافظ عبد الرحمن بن الجوزى أحد عمالقة علماء المسلمين , وتوفي رضي الله عنه عام 459 للهجرة , وكان كعادة بنى عصره متبحرا فى عدة علوم يكفي صنف واحد منها ليصرف العالم فيه عمره ولا يدركه , ورغم ذلك كان بن الجوزى ـ وأيضا كسائر علماء عصره ـ بالغا الغاية فى تلك العلوم كلها ومنها علم الحديث والفقه والتفسير والتاريخ والسير ,
وكان مكثرا فى التأليف والتصنيف وترك بمفرده ثروة لا تقدر بثمن ,
أشهرها كتابه " المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم " والذى عالج به التاريخ الإسلامى وتمت طباعته فى ثمانية عشر مجلدا , ويعتبر أحد المصنفات الرئيسية للتاريخ مثل الطبقات الكبري لبن سعد ومغازى بن عقبة وتاريخ خليفة بن خياط وتاريخ الطبري " تاريخ الأمم والملوك " والبداية والنهاية لبن كثير وتاريخ الإسلام للذهبي وغيرها عشرات
وله أيضا فى التاريخ مؤلفات أفردها للأعلام حيث كتب عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما , وكتب كتابا لطيفا أشبه ما يكون بمذكرات شخصية تليق به كعالم فذ وأسماه " صيد الخاطر " وكتب فى مقدمته سبب تسمية الكتاب وفكرته اللطيفة المتمثلة فى أنه لاحظ أن كثيرا من الخواطر والأفكار تجول برأسه بلا ترتيب أو نظام على عادة العلماء ,
ومعظم تلك الأفكار تكون غير كافية لتصبح أساسا لكتاب كامل , فتضيع .. رغم أنها أفكار بالغة العظمة لمن يدركها ,
فقرر أن يكتب كل فكرة تأتى بخاطره ويجمع بعضا منها ,, ففعل وجمعها فى هذا الكتاب الذى عنونه باسم صيد الخاطر معبرا عن مكنون الكتاب أنه شبكة صيد لأفكار متنافرة
والكتاب الذى يبدو من خلال التعريف به أن بن الجوزى كتبه كخواطر سريعة سجلها بلا جهد , لو طالعه قارئ اليوم سيجد أنه أمام مجموعة أفكار كل واحدة منها تصلح رسالة للدكتوراه !

كما صنف كتابا فريدا رائعا عن كبار أعلام الأمة فى الزهد والعلم والتقوى بدأ فيه ببعض سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام وتابع فيه إلى أن انتهى لبعض مشاهير الزهاد فى عصره , وسمى كتابه هذا " صفة الصفوة "
وقد ذكر فى مقدمة كتابه هذا أنه ألفه بناء على طلب بعض معارفه عندما قام بن الجوزى بتوجيه النقد اللاذع والعنيف لكتاب " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء " الذى كتبه العلامة الأصبهانى , فعندما اشتد نقد بن الجوزى للكتاب وصاحبه طالبه معاصروه أن يصنف لهم كتابا يحذو حذو الأصبهانى فى كتابه الذى جعله لكبار الصوفية ومشاهير الزهاد
وقد كان بن الجوزى عنيفا فى نقده لكتاب الأصبهانى نظرا لأن هذا الأخير ملأ كتابه ببعض الأحاديث الواهية ونسب للصوفية كبار الصحابة مما أثار حفيظة علماء عصره عليه لا سيما وقد كانت الصوفية فى ذلك العصر قد دخلها الكثير من اللغط واشتهر بها من ليس منهم
وجدير بالذكر أن نقد بن الجوزى للأصبهانى كان ضمن كتابه المطروح بين أيدينا وهو تلبيس إبليس والذى خصص منه ما يقارب نصفه لمهاجمة الصوفية وأصحاب الطرق وبالغ جدا فى التعرض لهم نظرا للبدع التى انتشرت على أيديهم فى ذلك الوقت
ولكن ليس معنى هجوم بن الجوزى العنيف على حلية الأولياء أنه كتاب بلا قيمة بل هو كتاب قيم وإن كانت آفته بعض الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة وبعض المرويات التى رأى فيها العلماء تأثيرا سلبيا على نفوس العامة عندما تنتشر بينهم كحكاية الزاهد الذى وقع ببئر فجاء قوم لسد البئر بالغطاء فلم ينادى عليهم ليحذرهم اعتمادا منه على الله !
وهذا لا شك أنه من تلبيس إبليس على الرجل لأن التوكل على الله يختلف عن التواكل والله أمر عباده باتخاذ الأسباب
وإذا كان الرسل والأنبياء التمسوا الأسباب فى رسالاتهم وحاربوا وحوربوا وأصيبوا وقتلوا فكيف بمن سواهم
ويعتبر كتاب الأصبهانى هو ثانى كتاب فى نوعه تعرض لمثل هذا الهجوم القادح ومعه كتاب الغزالى المعروف " إحياء علوم الدين " والذى تعقبه العلماء بكثير من الردود والتعليقات لنفس الأسباب , وإن كان الإحياء قد احتوى من الأحاديث الضعيفة والموضوعة أكثر من كتاب الأصبهانى
ولذا ينبغي الإنتباه دوما مع هذين الكتابين خاصة وكل كتب التراث عامة أن يطالعها القراء فى طبعاتها المحققة التى تشتمل على الهوامش المدققة والموضحة لموقف الأحاديث والآثار الواردة فيها , لا سيما إن كان القارئ غير متخصص

ليس لأن هذه الكتب تحتوى أخطاء بل لأنها مكتوبة على طريقة ومنهج القدماء أنهم كانوا يروون بالسند المتصل ويتركون الحكم عليه , كما أن بعض الأحاديث والآثار رواها بعض علماء السلف معتقدا بصحتها وتتبعه غيره من العلماء فأبطلوها
وقد عُرف عن بن الجوزى أنه كان عنيفا فى خصومته العلمية ولهذا دخل فى معارك متعددة مع علماء عصره وبعض من أتى بعدهم وحدثت له مواجهات كثيرة مع العلماء أفرزت للتراث روائع المسائل العلمية
لأن شرر المعارك الناجم عن تلاقي سيوف العلماء هو الخير المحض لا كما هو فى حالة تلاقي سيوف المقاتلين فى الحروب
وتعتبر معركته فى كتابه " الموضوعات " هى الأعنف فى تاريخه حيث تعقبه كثير من المحدثين فى بعض الأحاديث التى حكم عليها بالوضع وهى صحيحة أو ترتفع لمرتبة الحسن , ومنها حديث رواه مسلم بن الحجاج فى صحيحه , وكان منه أيضا عدد من الأحاديث التى رواها أحمد بن حنبل فى مسنده ,
ورغم أن بن الجوزى كان حنبليا إلا أن أمانته العلمية لم تسمح له بمجاملة بن حنبل فى تقديره العلمى , وهذا يحسب له
كما يحسب أيضا للإمام بن حجر العسقلانى الذى رد على بن الجوزى فبين له خطأه فى شأن أحاديث المسند التى اتهمها بالوضع وهى حسنة الإسناد , وذلك أن بن حجر شافعى المذهب فلم يدفعه الانتماء المذهبي للسكوت عن مسند أحمد فكتب كتابه الشهير " القول المسدد فى الذب عن المسند "
وأكد على هذه النتيجة إمام المسلمين المحدث المعاصر أحمد شاكر رحمه الله الذى نفض الغبار عن مسند الإمام أحمد فقام بشرحه وطبع المسند به ,
فرحم الله هذا العصر ورحم أهله ..

،،