عرض مشاركة واحدة
قديم 07-05-2017, 02:58 AM
المشاركة 4
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
3- مكونات البنية السردية للمقامة:



حافظت المقامة ابتداء من القرن الرابع على الشكل البنائي والنسيج الحكائي الذي وضعه لها الهمذاني وبقيت عبر العصور التالية له تتألف من ركنين أساسيين:
أولهما:راوٍ ينهض بمهمّة إخباريّة محددة.
وثانيهما: بطل له مهمّات عليه أن يتمّها ، ليرسم العنصر الحدثي في الحكاية.

وبتفاعل العلاقة بين الراوي والبطل يتكون قوام الحكاية، وتتضح العلاقة الرابطة لهما."فصورة الإسناد البسيط ، والمتن الذي يُختلق لأسباب فنيّة ، بوصفهما مظهرين جديدين ، قد تجليّا ، بأفضل أشكالهما ، في فنّ المقامة"(1)، وهذا الشكل جعل المقامة مختلفة عن الأنواع الفنيّة الأخرى في النثر العربي القديم ، ومنحها خصيصة تتفرّد بها عن سواها. ولندخل إلى البنية الخاصّة للمقامة ، لابدّ بنا أولاً تحديد البنيات الأساسيّة المكوّنة لها:
1-جملة الاستهلال السردي:
هي الجملة التي يفتتح بها الكلام في المقامة أو القصّة ، من مثل: " حدّثنا فلان ، أخبرنا فلان". وتنوعّت صيغها تبعاً للتغيّر الزماني والمكاني والاجتماعي ، فنجد أنّ القصّة الشعبيّة تبدأ بجملة افتتاحيّة "كان يامكان" ، وفي الخبر نقول :" حكى إنسان ، زعموا أنّ رجلاً" ، وفي المقامة نستخدم الجملة الاستهلاليّة :"حدّثنا فلان عن فلان قال".
ورغم الاختلاف في أشكال وصيغ الجملة الافتتاحيّة، يبقى لها الوظيفة ذاتَها في التمهيد والتنبيه، إذ يمكن عدّها " إيذاناً للرواة المعروفين بالبدء بالرواية ، فهم حالاً يبدأون* ، إثر انتهاء جملة الاستهلال"(2)
واقترنت هذه الجملة بالبنية التقليديّة للمقامة ، وصارت تُعرف بها ، فانتماؤها إلى الزمن الماضي يُكسب الحكاية مصداقيّة الحدوث ، ولتأكيد هذه المصداقيّة كان لابدّ من استخدام سند متّصل في بعض المقامات. و يستهلّ الحريري مقامته الديناريّة بجملة افتتاحيّة :" روى الحارث بن همّام قال: نظمني وأخدْاناً لي نادٍ لم يخِبْ فيه منادٍ . ولا كَبا قدْح زِنادٍ......" ،وفي المقامة الدمشقيّة يستخدم فعل " حكى " بدلاً من روى: "حكى الحارث بن همّام قال : شخصتُ من العراق إلى الغوطة . وأنا ذو جُرْد مربوطة ....."(3)، والهمذاني مبدع المقامات يفتتح مقامته البخاريّة بجملة :"حدّثنا عيسى بن هشام ، قال : أحلني جامع بخارى يومٌ وقد انتظمت مع رفقة..."(4)

إذاً هذه الجمل كانت قوام الهيكل الداخلي للمقامة ،فمهمّتها لا تنحصر فقط في التمهيد للحكاية ؛ لأنّ المتلقي يسمع خلفها صوتاً مجهولاً ،يقوم بعمليّة الإخبار ،وهذا الرّاوي المجهول ينقل لنا ما حدّث به الرواي المعلوم.
فمقابل الراوي المجهول والراوي المعلوم لدينا متلقي مجهول أيضاً ، أي أنّ الجملة الاستهلاليّة تقوم بدور النّاظم لهذه العلاقة بين راويين؛ الأول مجهول ، والثاني معلوم ، وبين متلقي لا علم لنا به.
فالاستهلال السّردي ما هو " إلاّ نوع من الإسناد المركّب الذي انحدر من تقاليد الإسناد في فنّ الخبر ، ولكنّه غيّر في صورة ذلك الإسناد ،سواء بالتخلّص من بعض حلقاته ،أم في استبدالها بضمائر ، تحيل عليها"(1) ومنه نستطيع القول إنّ العلاقة بين عبارة الاستهلال السردي والمتن ليست ارتجاليّة؛ أي أنّها علاقة بناء نمط سردي محدّد ، وهذا ما جعلها أحد البنيات الأساسيّة للمقامة.
2-الرّاوي :
يلعب الرّاوي دور الوسيط بين الشخصيات والمتلقّي ، ويروي ما يرى سواء كان حقيقة أم متخيّل، "ولايشترط أن يكون له اسماً متعيّناً ، فقد يتوارى خلف صوت أو ضمير "(2)، وقد انصبّ الاهتمام في طبيعة الحال على أولئك الرواة المعروفين ، مثل عيسى بن هشام ، الحارث بن همام ، وسهيل بن عبّاد .وتؤكّد المقامات ذاتها أنّ هؤلاء الرواة ليسوا إلا وسائل فنيّة أخذت دورها للنهوض بنسج الحكاية ، هم شخصيات خياليّة من صنع مؤلفي المقامات.(3)
ويقرّ الحريري خلال وصفه لعيسى بن هشام وأبي الفتح الإسكندري ، أنّ كليهما "مجهول لا يُعرف ، ونكرة لا تتعرّف"(4) ، وهو بذلك يؤكد طبيعة هذه الشخصيات الخياليّة ، كما يؤكد الصفة ذاتها على ما تضمنته مقاماته في قوله :"فخاطري أبو عذره ، ومقتضب حلوه ومرّه" (5)، أي أنّها ارتجاليّة ومن صنع خياله.
يتكفّل الرّاوي بمهمّة تشكيل العالم الفنّي للمقامة ؛ فيسترجع حادثة صادفها في إحدى رحلاته ، ويركّز على البطل في هذه الحكاية ، فهو المحور الأساسي للوقائع ، وتتسم شخصيته بالتخفي ، فلا يفصح الرّاوي عنها إلا بعد انتهاء دورها ، وذلك في لحظة التّعرف.(6)
والسفر صفة حاضرة بكل أشكالها في المقامات ، وبالتالي ينبغي بالرّاوي أن يكون متحوّلاً غير مستقرّ ، وهذا التحوّل يتزامن مع مستوى الأقنعة التي يرتديها ، فالرّاوي لابدّ له من السّفر كي يلاحق البطل المتنقّل والمتقلّب ، وقد يكون مستقراً ولكنّه في الوقت ذاته نجده مسافراً ،و ابن الوردي في بعض مقاماته يجعل السفر قصراً على الرّاوي ، رغم أنّه لم ينتقل من مكانه ، وهذا التحوّل والتنقل سمة أساسيّة في البناء الفنّي للمقامة، فمحاكاة المقامة الأنموذج يقتضي التأكيد على سفر الرّاوي المستقر ، يقول ابن الوردي في مقامته الصوفيّة : " حكى إنسان ، من معرّة النعمان ، قال :سافرت إلى القدس الشريف ، سفر منكر بعد التعريف...."(1) ،
ونلاحظ أنّ الرّاوي المجهول من معرة النعمان يروي سفره إلى القدس وهو يؤكده بلفظه الصريح "سافرت" ، ومن يتعمّق في مقامات ابن الوردي ، يجد أنّه أكثر من هذه العبارة ، لأنّ السّفر موظّف توظيف شكلي وليس حقيقي فعلي .(2)
إذاً الرّاوي يتحملّ مسؤوليّة إخراج المقامة في نسيج متكامل ، يوظَف من خلاله دور البطل و اختيار الوقت المناسب لخلق بنيّة للتعرّف ، ممّا يجعله المهيمن الأول على مضامين البنيّة السّرديّة داخل المقامة.


3-البطل:
يحمل مهمّة أداء الروايّة إلى جانب بطولته للحكاية، فروايّة البطل لواقعة ، تمرّ عبر وسيطين هما الرّاوي المعلوم أولاً ، ثمّ المجهول ثانياً، البطل يروي ما حدث معه للرّاوي المعلوم ، والأخير بدوره ينقل ما رواه له البطل للرّاوي المجهول . ويهيمن الرّاوي المعلوم في المقامة العربية بمشاركة البطل –الرّاوي على الجو السّردي للحكاية(3)
ويحدّد الدكتور يوسف إسماعيل الملامح الأساسيّة لبطل المقامة، فيجد أنّ هذه الشخصيّة غرائيبيّة ، خارجة عن المألوف شكلاً ومضموناً ، على مستويات الخطاب ،اللغة ، السّفر ، و الشكل الخارجي ، فهذا البطل مثلاً نراه ماجناً في المقبرة ، أو ساحراً يرتدي لباسه ، أو مشعوذاً ،أو نسمعه يتحدث عن المكان بلغة لا تتّسق جغرافياً مع طبيعته ، فهو عابر سبيل ، لايستقر أصلاً في مكان.
و الشخصيّة الغرائبيّة المتحوّلة على مستويي المكان والخطاب تقدّم لنا مادة السّرد في المقامة، وهذا التناقض هو جزء أساسي من تكوين شخصيّة البطل التي نراها بأشكال متعددة ، ومتناقضة أيضاً ، فمرّة نراه شاعراً ، ومرّة ناثراً ، ومرّة متسولاً ، زاهداً ، وأخرى ماجناً.(4)
ومنّه نستطيع القول إنّ التحوّل والغرائبيّة صفات أساسيّة وثابتة في البناء التكوينيّ لبطل المقامة ، وبما أنّ الهمذاني وضع مقاماته ليعلّم تلاميذه(5) ، فالتنقّل وعدم الاستقرار لازمتان لابدّ منهما لصوغ الحكاية كما يريدها المؤلف.
وقد اختار الهمذاني أبا الفتح الإسكندري بطلاً لمقاماته ، إذ كان شخصيّة فكاهيّة ، اتسمت بالكديّة والشحاذة . أمّا الحريري فجعل أبا زيد السروجي مقابلاّ لبطل الهمذاني، وكذلك حاكى السرقسطي مقامات الحريري واتخذ من أبي حبيب بطلاً لمقاماته ،وكان ميمون بن خزام بطل مقامات ناصيف اليازجي.ويشترك هؤلاء الأبطال جميعاً في نمط واحد من كديّة وشحاذة .

ونلحظ في المقامة العربيّة وجود نوعين من الأبطال:
الأول: البطل –الرّاوي ، يقوم باختلاق حكاية غريبة، أو طرفة عجيبة ، متعمّقاً بوصف حالة الفقر التي يعيشها ، وذلك لخلق نوع من التعاطف معه لدى المروي له ، وهذا التعاطف ربما كان مادياً أو معنوياً ؛ كإظهار المروي له الإعجاب بالحكاية والإطراء على الرّاوي. وهنا يضمر دور الراوي المعروف ، ويغيب عنالجزء الأعظم من المقامة ، ويشمل التغيير في بنية المقامة التقليديّة رؤية الرّاوي لمكونات الحدث وطريقة سرده.

الثاني: البطل الذي يخبرنا الرّاوي المعلوم بما حدث معه ، ويكون سرده للأحداث عبارة عن سلسلة تعاقب، تبدأ من ظهور الرّاوي في مكان ما ، وصولاً إلى لحظة التعرف إلى البطل الذي يعمد إلى تمويه نفسه .
ومنه نجد أنّ البطل-الرّاوي يقوم بعرض الأحداث دون أن يكون هناك أيّة مسافات ، في حين أنّ الرّاوي في النوع الثاني يتماهى بأفعال البطل ، ويحاول تضليل المروي له كي لا يصل قبل إنهاء السّرد إلى لحظة التعرّف.


4-بنية التعرّف:
هي بنية أساسيّة تُنتج من طبيعة النّص ، وهي نتيجة قائمة من علاقة الرّاوي والمرّوي ، فالتعرّف هو المخلص الذي تقفل به المقامة ، وهو الحاصل بين الراوية والبطل، ويرد التعرّف في مقامات الهمذاني على الشكل التالي : "فتبعته فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ"(2) ، أو "فإذا زعيمهم أبو الفتح الإسكندري"(3). وقد يَعرّف الإسكندري نفسه شعراً للرّاوية في مقامات أخرى مثل "يانفس لا تتغثّي ،فالشّهم لا يتغثّى ،من لعجيب الدير يأكل ،فيه سميناً وغثّاً ،فالبس ليوم جديداً ، والبس لآخر رثّاً"(4). وينهي الحريري مقاماته أيضاً بصور عديدة ، نذكر منها في المقامة الحلوانية : " فإذا هو شيخنا السروجي ...فأنشأ يقول :

وقع الشوائب شيّب والدهر بالنّاس قُلّب"(5)



وفي المقامة الصنعانيّة يقول في لحظة التعرّف : "هذا أبو زيدٍ السروجي سراج الغرباء ، وتاج الأدباء"(1) .

ويرافق هذه اللحظات في جميع المقامات ، إيحاء بالتعجب وعدم التوقّع ، فالرّاوي يفاجئه اللقاء الغير متوقع بينه وبين البطل ، بينما يكون المتلقي مدركاً أنّ نهاية الموقف ستؤول إلى التعرّف لا محال. وثمّة نوعان لموقف التعرّف من خلال طريقة تكوين الحكاية ؛ الموقف الأول يكون في نهاية الحكاية وهو الغالب ، في حين يكون الآخر سابقاً لظهور الحكاية في سياق البنية السرديّة.

و المقامات التي لا تنطوي على موقف تعرّف يكون دائماً راويّها هو البطل ذاته ، بلغ عددها في المقامة الهمذانيّة14 مقامة ، في حين أنّ المقامة الحريريّة خلت من هذا النوع. وبانتهاء موقف التعرّف ، يبدأ الرّاوي المعلوم مهمّة زرع مكونات الحكاية في الفضاء الذي تجري فيه الأحداث سواء المنحصرة حول أفعال الشخصيّة المركزيّة أم أفعال الشخصيات الثانويّة المكمّلة للحكاية، فإذا كان التعرّف في نهاية الحكاية ، تبدأ المكونات بالظهور ، ويتحوّل الرّاوي إلى وسيلة لوصف الأفعال التي يقوم بها البطل منذ المشهد الأول وحتى لحظة التعارف بينهما ، ومن ثمّ افتراقهما . فهو يقوم بوصف مزدوج: ذاتي وموضوعي لتلك الأفعال التي تخضع لزمن متتابع شيئاً فشيئاً ، حتى تصل ذروتها في لحظة التعرّف.

وفي حال كان التعرّف قبل الحكاية ، فإمّا أن يلفّق البطل رواية يخدع بها الرّاوي ، لا يلبث الأخير أن يكتشف أنّه وقع ضحية حكاية مضلّلة ، إلى أن تأتي حكاية لقائه البطل ، وإمّا أن يقوم البطل بتواطؤ مع الرّاوي بفعل يفتقر للنسيج الحكائي ، كإلقاء موعظة أو خطبة ، أو فك ألغاز لغويّة ، للفوز بعطاء متلقيه الواقع تحت تأثير بلاغة قوله الخالي من الحكاية. (2)
وتبقى لحظة التعرّف جزء أساسي ثابت من بنيّة المقامة ، فتشكيل الحكاية بذاته يخضع له خضوعاً تامّاً ، ويبقي الرّاوي ضمن دائرة القوانين والأنظمة السرديّة التي يتوجب عليه أن ينسج مكونات حكايته ضمن حدودها.


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..