عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2016, 01:23 AM
المشاركة 25
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
"تاركا "ليست بعيدة جدّا عن موطني ، خمس كيلومترات ، ساعة كاملة مشيا على الأقدام ، لا أعرف كيف عبرت إلى المستوى الخامس ، ربما محض صدفة ، نظرا لارتفاع المستوى التعليمي للتلاميذ من جهة و ارتفاع منسوب جرأتهم من جهة أخرى ، فلأول مرة أحسست بطباعي الخجولة بينهم، و ما زادها تعقيدا هو إحساسي أنهم يتفوّقون عليّ ، لم أندمج إلا بعد أن قضيت عاما كاملا في تاركا ، ففي الامتحانات التجريبية حصدت المركز الثالث ، المرتبة الأولى لطفل متمرس ، والثانية لطفل أذكى منه .
لم تكن الليلة الأولى التي قضيتها في بيت الحاجّة بالسّهلة ، فمنذ أن رأيت أبي يلتهمه أول منعرج قبالة بيت الحاجّة أحسست انقباضا يخنقني ، الحاجّة تقرّبني منها ، تداعب روحي الطيبة ، تلهيني عن الانفراد بنفسي ، يؤازرها طفلان يرعيان في كنفها من دواوير أخرى بعيدة ، جاؤوا لقطف ثمار العلم ، يكبراني حجما وسنّا ، أفوتهم فطنة و بداهة و مستوى تعليميا ، ابتتها الصغيرة أيضا تكبرني سنا و حجما ، طفلة أخرى من أقارب الحاجّة تشاركنا البيت ، ترفع القبعة للحاجّة كما لزوجها الذي يرتب أوراق تقاعده المريح بالدّيار الأوربية . منزل فسيح مريح ، بحديقته الجميلة ، برياضه المنقوشة ، ابن الحاجّة صيدلاني بوارزازات ، مدينة السينما العالميّة ، كان يتابع دراسته الثانوية هناك ، بين الفينة والفينة يزور مسقط رأسه ، يستعد للدخول إلى قفصه الذهبي ، الأجواء العامة مليحة ، لا حسيب و لا رقيب ، أنت و ما تمليه عليك روحك ، انقضت الأيام المتبقية من العام بسلام ، و حلّت عطلة الصيف عدت فيها بمعية أمي وأبي و خالتي لحضور حفل زفاف ابن الحاجّة ، الحاجّة تربطها بأمي رائحة قرابة ، أناديها خالتي ، امرأة برتبة رجل ، هادئة ، رزينة ذكية ، صدرها رحب رحابة السماء ، قوتها قوة جبل تهبه الرياح والعواصف ، إن بدأت بنتها الكبرى تتلوى والأرواح تتنازعها ، كانت لها الحاجّة بالمرصاد ، تضمها إليها ضمّة الأسد لفريسته ، لا أظن تلك الأرواح يسكتها غير قوة عزم الحاجة ، فلولاها لعاتوا في نفوسنا الضعيفة فسادا ، لا تطلقهم الحاجة إلا وقد هربوا من أنف الصريعة في شخير مزمجر .
ابنة الحاجة كانت متزوجة ، بل لديها بنت لم تتح لي فرصة رؤيتها عن قرب ، ربما لمحتها ذات يوم في مكان ما عند خروجي من المدرسة ، هي تسكن المدينة رفقة زوجة أبيها ، الحاجة ما تركت طبيبا ولا روحانيا إلاّ قصدته ، لكن الحال هي الحال ، زوج الحاجة إنسان عذب بطباع أوربية ، ذوقه راق ، بيديه يسقي حديقته إن لم يحضر البستاني ، يداعب "حجبة" بغلة يافعة تأكل و تشرب و لا تمارس شقاء أبدا ، "بريك" سالوقي وديع ببطاقة تحمل صورته ، وحده يفترس كميات هائلة من اللحم أسبوعيا ، ليس مثل كلبنا الذي قتله والدي بعد أن هجم عليّ و أنا أضع أمامه بقية من عظام غدائنا وبعض خبز ممزوج بالمرق ، كلبنا شرس ، لا نطلق سراحه أبدا حتى لا يهاجم الجيران ، كلما ظل في القيد ازداد وحشية ، لم يكن أبي ينوي قتله لكنه حين أراد أن يؤدبه كاد الكلب يقتلع أصابعه من جذورها ، فهوى عليه أبي بشفرة حادّة ، " بريك" يكاد يكون عاقلا ، مؤدبا ، إنه التمدن ، إنها الطباع الآتية من الغرب ، تشربها بريك كما حجبة من زوج الحاجّة ، أحبّ تلك الأسرة حبا جمّا ، بعض النّاس يستحقون كل النّعم .
لم أكن دائما ولدا صالحا ، فأنا الآن أدخن سجائر حقيقيّة ، أدخّن مع ابن الحاج عندما يزور زوجته و أسرته ، كل أولئك الذين كانوا هنا غادروا ، لم يتبقّ غير قريبتهم الصغيرة ، أنا الآن الذكر الصغير الوحيد هنا ، يعاملونني معاملة أمير صغير ، كان لهم كبير فضل في استرجاع توازني ، رغم أنني لا أحفظ دروسي إلا نادرا .