عرض مشاركة واحدة
قديم 05-30-2016, 10:51 PM
المشاركة 21
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
إلى أكادير رافقت والدي ، بيت عمّي عبد الله في أيت ملول ، كان قبل ذلك يسكن في حيّ صفيحي ، وعندما همّت البلدية بإعادة التهيئة ، وزعت على قاطني الكريان هذه المنازل ، فيه غرفة واحدة مسقفة ، مطبخ و حمّام ، أما الباقي فيلتحف السّماء ، عمّي أضاف حجرتين جديدتين ، لكنهما لازالتا بدون أبواب و بلا نوافذ ، خالتي تركناها في القرية ، عمّي لوحده بالمنزل ، لا أنسى أنّني وجدت هناك أيضا عمّي عبد السّلام ، في الليل كانت الفرقة الصوفية قد حضرت ، عمّي انضم إليهم ، في الصّالون يردّدون "هو.. هو..هو.." بقيت أنا و والدي في غرفة بدون باب ، أبي يطلق مذياعه ، لا يحب المتصوفة ، يحسبهم دجّالين ، بل مجرد طفيليين ، يبحثون عن عشاء ، بل مجرد مبتزّين ، عمي يجد في حضرتهم راحة ، يبلسمون أشجانه ، يغسلون كدمات روحه المكسورة ، يوما أرسلتني أمي لأخبر جدّتي أن الطعام جاهز ، عند قدم القصبة تنبت " الدواريّة "، دار صغيرة من ثلاث غرف ، و حمام ، في وسطها برتقالة ثمارها ألذّ من تلك التي غرسها أبي عند البئر ، وجدت حينها جدّتي تواسي عمّي عبد الله ، كان يبكي بحرقة شديدة ، لم أر رجلا من قبل يبكي ، ما كنت لاعرف السبب يومها ، لكن بعد توالي السنين علمت لم رحل عمي عن القرية ، ليس لأن أبي عاد من مرّاكش ، بل لأنه رفض أن يبيع جدّي تلك الأرض ، أرض تحايل فيها بعض أهل القرية على جدّي فباعها بثمن بخس ، بل أكثر من ذلك ، فرجولة من يبيع أرضه في ثقافتنا منقوصة ، و لو كان في أمس الحاجة إليها ، عمّي يدخّن أيضا ، هو ليس كأبي ، ليس مدنيّ الطباع بل كان قرويا بامـتياز ، جدّتي أيضا كانت تحب النفحة ، هكذا أخبرتني أمي ، كان جدي يحضر لها نبات التبغ الأسود تدقه، وتضعه في قارورتها ، كان ذلك منذ أمد بعيد .
زرنا بعض معارفنا ، شقة في الدور العلوي ، صالون فاخر ، تلفاز كبير بالألوان ، رحبت بنا ربّة البيت ، شممت أنها لا تريدنا هناك ، رغم ضحكة مصطنعة ، و كلمات منمقة ، أبناؤها لم نر و جوههم ، شبّان يتابعون دراستهم في مستوات عليا ، صاحب البيت لم يحضر إلا عند غروب الشمس ، سنبيت هنا هذا ما قرّره أبي ، ستكون ليلة ثقيلة شبيهة بتلك الليلة في حضرة المعلّمة ، روحي انقبضت ، سمعت أذان العشاء عندما انهال الضيوف على المنزل ، رجال ضخام ، بعضهم ببذل أنيقة و الآخرون بجلابيب على المقاس ، يخوضون في أحاديث لا تعجبني ، فاستغرقت مع الشاشة في شريط يقتل فيه الزرق الخضر و الخضر الزرق ، جيشان يتحاربان ، لم أفهم شيئا ، لا أريد أن أفهم شيئا ، أبناء الرجل بعد أن رحّبوا بالضّيوف غادروا دون رجعة ، إلا واحدا منهم بقي يرصّف الأطباق على الموائد ، تذكرت ما استقبلتنا به صاحبة البيت من خبز بارد وزيت و كأس شاي أصفر .

مع انفلاق الفجر غادرنا المنزل ، أبي ودّعهم قبل النوم ، و صلنا إلى سوق عظيمة ، يباع فيها كل شيء ، وجدت عمي عبد السلام هناك ، وهو يبيع الثوم الذي أحضره أبي ، كان كساد الثوم ما أجبر أبي على هذه الرحلة ، لو كان الثوم مطلوبا لسافر به إلى مراكش كما يفعل ، لكنه الكساد يضطرك إلى البيع بالتقسيط ، في تلك الرحلة اكتشفت الكثير الكثير ، علمت بما لا يدع مجالا للشّك أننا بسطاء ، فقراء ، لا حول لنا و لا قوّة و لا نزن جناح بعوضة .