عرض مشاركة واحدة
قديم 08-18-2010, 12:39 PM
المشاركة 14
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (8): ما التاريخ إلا سجل لأفعال وصراعات شخصيات كارزمية.

يعرف التاريخ على أنه مجموعة الأحداث السابقة، ويعرف أيضًا على أنه تسجيل للجرائم، والأخطاء، وسوء حظ الإنسانية. وبعضهم يعرف التاريخ على أنه مذكرات المنتصر، ومنهم من يعتبره ملخص التجربة الإنسانية، وسجل نشاط الناس الذين يسعون لتحقيق أهدافهم.

وعلم التاريخ هو دارسة الماضي، بالتركيز على الأنشطة الإنسانية، وحتى الوقت الحاضر، ولا شك في أن الأحداث في فترة زمنية معينة هي التي تعطي كل عصر من العصور سمة حضارية معينة.

ما يعنينا في هذا المقال هو كيف يصنع التاريخ؟ ما يهمنا هو ما يطلق عليه البعض فلسفة التاريخ، بمعنى السبب والنتيجة وراء التاريخ، وعليه سنركز في هذا المقال على الأسباب الكامنة وراء صناعة التاريخ، كما هي في التراث الثقافي الفلسفي الإنساني، ثم نقدم رؤيا جديدة تفسر أسباب حدوث التاريخ. وما هي القوة الكامنة وراء صناعة التاريخ؟

لا شك في أن الاهتمام بالتاريخ أمر قديم جدًَا، فقد اهتم الفلاسفة الإغريق بمعرفة أية قوة تحكم مسيرة التاريخ، وسألوا: هل الناس هم الذين يحكمون التاريخ؟ أم أنه عبارة عن سجل للأحداث المقدرة، ولما هو مقرر سلفًا ؟ ويُظهر اهتمام الناس في ذلك العهد بالعرافة وعلم الفلك أن الناس كانت تعتبر الأحداث أمرًا مقدرًا وما التاريخ عندهم إذن إلا سجل لأحداث مقدرة سلفًا.
لكن هذه النظرة بدأت تتغير عندما بدأ الفلاسفة الإغريق بالبحث عن تفسير عقلاني للظواهر الطبيعية، وعليه تغير مفهوم التاريخ أيضًا، وأصبح غاية علم التاريخ إيجاد الأسباب الطبيعية الكامنة وراء مسيرة التاريخ...فلم تعد خسارة حرب مثلاً ترد إلى مجرد انتقام إلهي، وكان أشهر المؤرخين اليونان في تلك الحقبة هيرودوت الذي عاش بين (484 و 424 ق.م).

لا شك في أن الإيمان بالقدر امتد منذ ذلك الزمن، وحتى أيامنا هذه. وظل قطاع كبير من الناس يميلون إلى اعتبار التاريخ سجلاًّ لما هو مقدر سلفًا.. لكن عبر العصور، وبتطور الفلسفة والمعرفة والعلوم وأساليب البحث، واهتمام الفلاسفة والمفكرين والعلماء في البحث عن العلل والأسباب وراء حدوث الأشياء، جاء مَن قدم فهمًا آخر للتاريخ.

في مطلع العصور الوسطى جاء القديس أوغسطينوس، وقد اعتبر أن التاريخ ما هو إلا صراع بين مملكة الله، والمملكة الأرضية، وهاتان تتصارعان داخل كل كائن بشري وخارجه، وتتمثل مملكة الله عنده في الكنيسة، بينما تتمثل مملكة الأرض في التنظيمات السياسية مثل الإمبراطورية الرومانية التي انهارت في عصر القديس أوغسطينوس.

وقد استمر النظر إلى التاريخ عبر هذين المنظارين خلال العصور التي تلت مرورًا بعصر النهضة، وعصر التنوير... فمن ناحية ظلت الديانات السامية تنظر إلى التاريخ على أنه سجل لما هو مقدر، كما أنه صراع الفرد ضد قوى الشر والباطل، والسعي من أجل نشر كلمة الحق كما هي الحال عند المسلمين.

أما المفكرون المنحدرون من الثقافة الهندو- أوروبية، التي اشتغلت بالبحث الفكري والفلسفي، فقد رأت أن التاريخ هو صراع الإنسان ضد قوى الطبيعة، والتاريخ هو سجل لهذا الصراع، رغم أن هذا المفهوم لم يتطور بشكل واضح، إلى أن جاء الفيلسوف هيجل الذي ولد عام (1770م )، واعتبر أن الفلسفة مصطلح يعني منهجًا لفهم حركة التاريخ قبل كل شيء، وقد عني بالحديث عن تاريخ البشر.

والتاريخ عند هيجل ما هو إلا سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم، أو عقل العالم على نفسه، وعنده أن البشرية تتجه نحو معرفة أكبر، وهو يرى بأن التاريخ يشهد على أن البشرية تتطور باتجاه قدر أكبر من العقلانية والحرية. لذلك يرى هيجل بأن التاريخ ما هو إلا سلسلة طويلة من الأفكار، وهو يحدد القواعد التي تحكم هذه السلسلة، ففي نظره يكفي أن ندرس التاريخ قليلاً لنرى كيف تبنى كل فكرة على فكرة أخرى أقدم منها، ولكنها ما تكاد تطرح حتى تأتي فكرة ثالثة تحافظ على الأفضل في سابقتيها، وهذا ما يسميه هيجل التطور الجدلي، بمعنى، ما إن يحدد موقف ما تحديدًا دقيقًا، حتى يجتذب نقيضه، وهذا ما يسميه هيجل النفي.

حينما تولد فكرة تأتي فكرة أخرى لتنفيها، وهذا يحدث توترًا بين الفكرتين، بين رؤيتين متناقضتين تمامًا، فتأتي فكرة ثالثة تتبنى الجانب الصحيح من الفكرتين، وتأتي هي برؤيا جديدة، وعنده مثلاً أن عقلانية ديكارت تشكل رؤيا وفكرة، وتجريبية هيوم هي نقيضها، وقد نتج عن هذين المنهجين في التفكير تناقض وتوتر فجاء فكر (كانت) ليجمع ما أصاب به المنهجان، فأعطى بعض الحق للعقلانيين، وبعضه للتجريبيين، وأظهر نقاط ضعف المنهجين في نقاط أخرى.

لكن التاريخ عند هيجل لا يتوقف عند (كانت) ففكره ورؤيته هما نقطة انطلاق لسلسة جديدة من الأفكار، والواضح أن التاريخ عند هيجل هو تطور العقل الذي يحكمه قانون الجدلية أو الديالكتيك.

أما ماركس الذي يعتبر أبو الفلسفة المادية التاريخية، فيرى أن الشروط المادية في المجتمع، هي التي تحدد جذريًّا وتملك تفكيرنا، وهي التي تقع في أساس كل تطور تاريخي، ويتفق ماركس مع هيجل بأن التطور التاريخي يأتي من التوتر بين عناصر متناقضة تختفي تحت وقع تغير فجائي، ولكنه يرى بان هيجل فسر الأمور بشكل خاطئ. فقد رفض ماركس أن فكر العالم أو العقل الكوني، هو القوة المحركة واعتبر أن هيجل فهم الأمور بالمقلوب.
وقد سعى ماركس لأن يبرهن على أن المحرك الحقيقي للتاريخ، وصانعه ما هو إلا تغير ظروف الحياة المادية، بمعنى أن الظروف الروحية ليست هي أساس تغيرات الظروف المادية في الوجود، وإنما العكس فالظروف المادية تحدد ظروفًا روحية جديدة. من هنا شدد ماركس على وزن القوى الاقتصادية والاجتماعية وأهميتها داخل المجتمع، والتي أطلق عليها ماركس اسم البنية التحتية، واعتبر أن هذه القوى هي التي تسبب كل أنواع التغيير، وتحقق بذلك تقدم التاريخ. ويرى ماركس أن البنية الفوقية التي تمثل نمط تفكير المجتمع، ما هي إلا انعكاس البنية التحتية، ويرى أن هناك تفاعلاً وتأثيرًا متبادلاً بين البنية التحتية والبنية الفوقية، وأن ما يحكم هاتين البنيتين هي العلاقة الدياليكتيكية، وهو يرى أيضًا أن الطبقة المسيطرة هي التي تحدد الخير والشر في التاريخ. وعنده، ما التاريخ إلا صراع طبقات، ولا يفعل التاريخ إلا رسم خط هذا الصراع على امتلاك وسائل الإنتاج.
لقد كان ماركس يعي أن البنية الفوقية قد توثر في البنية التحتية، لكنه لا يعترف لها بتاريخ مستقل، ففي نظره أن جميع التحولات التاريخية منذ مجتمع العبودية في العصور القديمة حتى المجتمع الصناعي في أيامنا، تعود إلى تحولات في البنى التحتية للمجتمع، وتتميز كل مراحل التاريخ في نظر ماركس، بمواجهة وصراع بين طبقتين اجتماعيتين، هما مثلاً في العصور القديمة، طبقة العبيد، وطبقة المواطنين الأحرار. ويرى ماركس أن كل نظام اقتصادي يحمل في داخله تناقضاته الداخلية، وبذور فنائه، ولذلك فهو يرى بأن الرأسمالية تحمل في داخلها تناقضات داخلية، وعليه فإن الانتقال إلى المرحلة الشيوعية هو حتمية تاريخية، وذلك ما حدث بالنسبة للمراحل السابقة.

ولكن المعرفة الإنسانية لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد جاء من سَجّلَ مآخذ على فلسفة هيجل، واعتبر أن الحقائق الموضوعية التي تنادي بها الهيجلية لا يمكن أن تطبق على الوجود الفردي، كما قال كيركيغارد، الذي لم ير فائدة من وصف عام للطبيعة العميقة أوالإنسان، فالمهم عند كيركيغارد هو وجود كل فرد، ولا يمكن للإنسان أن يعي وجوده إلا من خلال الفعل، وعنده أن كل وعي حقيقي يأتي من الداخل، وقد اشتقت الفلسفة الوجودية مبادئها من هذا الطرح وبنت عليه، حيث أصبح الفرد هو محور الوجود، وبالتالي محور كل ما له علاقة بوجوده، بما في ذلك صناعة التاريخ.

كذلك جاء من سَجّل َمآخذ على الماركسية، فبينما كان ماركس يرى بأن الإيدولوجيات الإنسانية هي نتاج الظروف المادية للمجتمع، أوضح دارون في نظريته "أصل الأنواع"، بأن الجنس البشري ما هو إلا ارتقاء بيولوجي بطيء، وأن حياة الكائنات ما هو إلا صراع للبقاء، وكان دارون يرى أن الحياة عبارة عن يانصيب كبير نرى فيه الأرقام الرابحة فقط.

بينما كشفت دراسات فرويد عن اللاوعي أن تحركات الناس وتصرفاتهم في معظمها تنتج عن دوافع أو غرائز حيوانية، ومن خلال عمله على تحليل أعماق النفس البشرية، أو ما يسمى التحليل النفسي، قدم فرويد منهاجًا لفهم ماهية الإنسان وتصرفاته وأعماله. وقد آمن فرويد أن هناك علاقة صراعية دائمة بين الفرد ومحيطه، وتحديدًا بين رغبات الإنسان وغرائزه من جهة، ومتطلبات العالم المحيط به ومحرماته. وبذلك فهو يرى بأن العقل ليس هو الوحيد الذي يقودنا، فغالبًا ما تحدد اندفاعات لا عقلانية ما نفكر به أو نفعله، ويمكن أن تكون هذه الاندفاعات اللاعقلانية تعبيرًا عن غرائز، أو رغبات عميقة.

وبين فرويد أيضا أن هذا النوع من الحاجات الأساسية قد يظل مقَّنعًا، مكبوتًا، متنكرًا، لكنه يدير بذلك أفعالنا بدون أن نعي، وقد لاحظ فرويد عدة أشكال من الآلام النفسية، والحالات العصبية التي تعود لأزمات عاشها المريض في طفولته، وقد رأى أننا نحتفظ في أعماق أعماقنا بجميع ذكريات الماضي مخبأة، وهي التي تحدد وتحرك قدرات الإنسان.

كما رفض الفيلسوف الوجودي الأول، نيتشه، فلسفة هيجل والتاريخية الألمانية، وطرح مقابل ذلك الاهتمام المطلق بالتاريخ، والاهتمام بالحياة نفسها.
أما سارتر، فقد رأى أن الوجودية فلسفة إنسانية، وأن نقطة انطلاق الوجوديين هو الإنسان، حيث أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يعي وجوده، وعلى الإنسان أن يخلق طبيعيته وجوهره، فالحياة أو الفعل عند سارتر هي أن نختار كيف نعيش حياتنا، والقلق هو المحرك للإنسان عندما يعي وجوده، والموت الذي هو نهايته.
ويرى سارترأن الإنسان يشعر بنفسه غريبًا جدًا في عالم يفتقر إلى المعنى، وعندما يصف هذه الغربة عن العالم، يلتقي مع هيجل وماركس، فهذا الإحساس بالغربة يخلق إحساسًا بالعبثية.

والمهم في الطرح الوجودي، وما قدمه كل من دارون وفرويد من فكر وشرح للطبيعة الإنسانية، أن يعطي أهمية عظيمة لدور الفرد في المجتمع، وكأن الفرد وأفعاله بغض النظر إذا ما كانت عبارة عن صراع للبقاء، كما يقول دارون، أو صراع ضد المحيط كما يقول فرويد، أو هو نتيجة لوعي الإنسان بوجوده وإحساسه بالغربة، واختياره كيف يعيش كما يقول سارتر، فهي في مجملها تجعل الإنسان الفرد محور الفعل، وبالتالي محور صناعة التاريخ، والقوة الكامنة وراءه.

إذن تُجمع المناهج السابقة، على بأن التاريخ ما هو إلا عبارة عن سجل لأحداث تنتج عن صراع ما. فهو إما صراع الحق ضد الباطل، وهو صراع الإنسان ضد الشيطان، وقوى الشر، وفعل كل ما يمكن أن يقود الإنسان للنجاة والفوز بالجنة، كما هي الحال عند الأديان السماوية. أو هو صراع ضد الطبيعة، كما تصور الفلاسفة عبر العصور، أو هو صراع أفكار في وعي العالم كما يراه هيجل، أو هو صراع طبقي كما يعتقد ماركس، أو هو صراع البقاء كما يطرح دارون، أو صراع الفرد ضد محيطه كما يقول فرويد، أو هو صراع ذاتي يحصل داخل الفرد كنتيجة لوعي الإنسان بوجوده، وإحساسه بغربته، وقدرته على الاختيار، وما ينتج عن ذلك من قلق.

إن الشواهد التاريخية، وما أوصله التاريخ من سجلات لنا، تشير بوضوح الى أن كل هذه التفسيرات لم تُصِبْ كَبِدَ الحقيقة في فهم القوة المحركة للتاريخ... صحيح أن هذه الأطروحات قدمت كثيرًا لفهم حركة التاريخ، حين اعتبرت أن الصراع على اختلاف أشكاله هو محور الحياة، وبالتالي محرك أساسي لصناعة التاريخ، فالصراع ضد قوى الشر والباطل موجود، والصراع ضد قوى الطبيعة موجود، والصراع الفكري الذي يحكمه تطور العقل وقانون الجدلية، ويؤدي إلى سلسلة من الصحوات البطيئة في الوعي البشري- كما يقول هيجل-موجود...كما أن صراع الطبقات الناتج عن تغير الظروف المادية، وعن التوتر بين عناصر متناقضة في الطبقات في المجتمع موجود أيضًا.

لكن أين دور الفرد الفذ والعبقري والمبدع الذي يمتاز بطاقات هائلة، وكرزما طاغية، وسحر استثنائي من كل هذه الحركة عبر التاريخ؟ إلا نجد حينما نغوص في التاريخ أن حفنة من الأشخاص الأفذاذ بعينهم، الذين يمتلكون صفات خاصة وطاقات استثنائية، سواء كانوا قادة، أو مفكرين، أو أدباء، أو علماء قد برزوا في عصورهم. وحققوا إنجازات شكلت منعطفات تاريخية مهمة وبارزة بقيت حية في ذاكرة التاريخ؟ وبذلك كانوا هم السبب الحقيقي وراء حركة التاريخ وصناعته؟

وحتى لو سلمنا بأن التاريخ هو نتاج أحد تلك الصراعات، أو جميعها، ألا تُظهر الشواهد التاريخية بوضوح أن أفراداً أفذاذاً هم بعينهم الذين تركوا بصماتهم على حركة التاريخ؟ وهم الذين قادوا هذه الصراعات على اختلاف أشكالها، أو كانوا جزءًا أساسيًّا وفاعلاً منها؟ وهم الذين صبغوا التاريخ بصبغتهم وأدائهم وإنجازاتهم في رحلة الصراع المتعددة الجوانب تلك؟
كما أننا نجد أن تطور الوعي البشري، وولادة أفكار وحركات وقفزات ثورية ترفض التسليم بالموروث والقائم، وتطرح أفكارًا جديدة في سلسلة الوعي، هم أفراد أفذاذ حتمًا، وذلك واضح في تاريخ تطور الفكر والمدارس والمناهج الفكرية والفلسفية، سواء من وضع الأسطورة الأولى، أو الكنفوشية، أوالبوذية...حتى أن هيجل الذي فسر هذه الظاهرة على أساس أنها حركة جدلية ديالكتيكية حيث تلد الفكرة، ومن ثم يأتي نقيضها، وهكذا دواليك ما هو إلا فرد عبقري فذ. ومما لا شك فيه ايضا ان جميع من ذكروا سابقا هم من العباقرة الافذاذ!!

ولو اعتبرنا أن التاريخ صراع بين الحق والباطل ألا نجد أن الأنبياء وأتباعهم المخلصين من بعدهم، هم صناع التاريخ وقادة هذا الصراع على جميع أشكاله، وقد تركوا وما زالوا بصماتهم بقوة مهولة على حركة التاريخ؟

ولو افترضنا أن التاريخ صراع ضد الطبيعة، ألا نجد أن فلاسفة الطبيعة ومن جاء بعدهم من علماء أمثال سقراط ومنهجه السقراطي، وابن سينا والرازي ولاحقًا كوبرنيكس، ونيوتن، وآينشتاين، وجاليلو هم الذين تركوا بصماتهم من خلال محاولاتهم للانتصار على الطبيعة، ومعرفة كنهها، والسيطرة عليها وكذلك الكون وماهيته؟

ولو افترضنا أن التاريخ صراع أفكار، ألا نجد أن ثلة من الفلاسفة الأفذاذ ابتداء بسقراط وانتهاء بـهيجل مرورًا بكل المناهج الفكرية، هم الذين ولًدت عقولهم أفكارًا مهولة تركت بصماتها على التاريخ؟

وكذلك لو سلمنا أن التاريخ هو صراع طبقات، ألا نجد أن الذي تمكن من تحقيق الوعي بوحدة العمال، وتمكن من تنظيم طبقة العمال لتقوم بأول ثورة ماركسية شيوعية هم ثلة من الأفذاذ الأفراد ابتداء بـ ماركس، وانجلز... ومرورًا بلينين، وستالين، وماو تسي تونج، وهوشي منه، وكاسترو، وجيفارا.

ثم أليس التراث الأدبي الإنساني، من صناعة عباقرة وإبداع عقول أفراد أفذاذ من هوميروس، إلى شكسبير، وتوليستوي، والمتنبي، والعقاد، وجبران خليل جبران، وادجر الن بو، مرورا بالأدباء الأفذاذ المعاصرين ممن تركوا بصماتهم الأدبية على التاريخ، وساهموا بإبداعاتهم في صناعته؟


كذلك ألا نجد أن عددًا محدودًا من القادة الأفذاذ الذين يمتلكون كرزما استثنائية، وشخصيات قيادية فذة، هم الذين كان لهم دور أساس في صناعةالتاريخ؟ لا بل دور حاسم وأساس في ذلك، من خلال قدرتهم على استنهاض الهمم والطاقات؟ ألا يظهر التاريخ أن الرجل الزعيم هو القوة الدافعة التي تشكل التاريخ وتصنعه؟ فالقائد، القادر، الفذ، الحاذق، الماكر، صاحب الرؤيا والحنكة، هو الذي يقود شعبه إلى تسجيل صفحات ناصعة في التاريخ؟ ألا تشكل انتصاراتهم أو هزائم بعضهم في بعض الأحيان، شواهد تاريخية مهمة وبارزة؟ ألا تقع هذه الفئة تحديدًا بما تمتلكه من قدرات وطاقات كرزمية ساحرة، وقدرة على التأثير بالفعل على رأس قائمة صناع التاريخ؟

إن دارون، وفرويد، وسارتر وغيرهم ممن أعطوا قيمة للفرد في حركة التاريخ، واعتبروه مركز الفعل ليسوا سوى أفراد، عباقرة، أفذاذا ساهموا في صناعة التاريخ وكتابته. والمهم في كل ذلك، وهنا يكمن بيت القصيد، وتكمن أهمية هذا البحث، كما نشاهد عبر مسيرة التاريخ ، أن معظم هؤلاء الأفراد الأفذاذ إن لم يكونوا جميعًا، والذين كان لهم دور حاسم ورئيس في صناعة التاريخ كانوا أيتامًا، فهل اليتم هو صانع التاريخ ؟ وهل التاريخ عبارة عن سجل لانجازات وأفعال وثورات ومخرجات وابداعات وصراعات ومبادرات من صنع ثلة من الأيتام، وإن تعددت مظاهرها ومجالاتها في القيادة والأدب والعلم والفكر؟ هل هو صراع هذه الثلة من الأيتام ضد المجتمع، حيث يدفعهم ما يمتلكون من طاقة استثنائية لتبني رؤيا مناقضة لما هو سائد ومألوف، فيقعوا في تضاد يترك بصمته على حركة التاريخ؟ هل هو صراع هؤلاء الأيتام ضد بعضهم بعضا؟ هل هو صراع ثلة من العلماء والمفكرين ضد المجهول والطبيعة؟ وإن كان الصراع نفسيًّا داخليًّا متأثرًا بقوى اللاوعي كما يقول فرويد، أو اغتراب وقلق كما يقول سارتر، فهل يكون اليتم هو الذي يتسبب بتلك الطاقة الكامنة الزائدة التي تحرك الصراع وتفعله وتجعله حادًّا، مهولاً مؤثرًا؟ وهل يتضخم الصراع النفسي الداخلي في الفرد، أو بين الفرد ومحيطه، كنتيجة مباشرة لتلك الطاقة الاستثنائية؟

في ضوء كل ما سبق يتضح جليًّا أن الأيتام هم الذين يصنعون التاريخ، حيث تترجم طاقاتهم إلى قوة فعل، وتأثير، وصراع متعدد الجوانب والأشكال والمظاهر، فيكون التاريخ.

طبعًا كل ذلك لا يعني أبدًا أننا نستثني أثرالعوامل الأخرى، فكما في الفلم السينمائي يكون هناك البطل، ويكون هناك طواقم عديدة ومتعددة، والكمبرس، وكلها تساهم في صناعة الفلم، ولكن الدور الرئيس في صناعة الفلم هو للبطل الزعيم الفذ، والقائد، والكرزمي، وفي غيابه لا يكون الفلم...وهكذا التاريخ، فصنّاعه هم الأبطال الأفذاذ، أصحاب الطاقات، والكرزمات، وهم في جلهم أيتام.