عرض مشاركة واحدة
قديم 06-04-2012, 04:10 PM
المشاركة 817
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
101- الفارس القتيل يترجل إلياس الديري لبنان

نــاقـــد حـــر



الياس الديري : عودة الذئب الى العرتوق



مشرقي على الحافة

في رواية الياس الديري " عودة الذئب الى العرتوق " تطل على القارئ السمات الكلاسيكية لبطله المتعدد الأسماء، فهنا سمران الكوراني، وزيان في " تبقى وحيداً وتندم " وعواد، في " الفارس القتيل يترجل " .
بطل الديري نموذجي، ثابت الطباع، ومقولب في إطار قناعات الروائي الأخلاقية والفكرية، يتحرك وفق إيقاع عام، ومناخات متشابهة .
فسمران كسائر ابطال الديري يبحث عن ذاته وخلاصه الفردي، تموج في صدره الرغبات المتناقضة، وتتوزعه العواطف والأفكار . التمزق جوهره، والضوء والظلمة يمتزجان في عينيه . يتأرجح على الحد الفاصل بين الذوبان في مجتمعه والإنفصال عنه، التقدم اليه والتراجع عنه، التجمعن والتفردن .
يقترب سمران من الإنسان العدمي الذي يواجه الحياة، مجرداً من اي هدف، او تصور محدد، إلا البحث عن سعادته الخاصة، وجلب الشعلة المضيئة الى مملكته المظلمة . غير ان العدمي فعال، هدّام، حين ان سمران تعوزه الجرأة والمبادرة . فهو هروبي، رضوخي، امتثالي، سلبي حتى الفناء : " يريد ان يتبخر فجأة الى اللامكان . تمر عاصفة خانقة، يمر إعصار، فيأخذه الى شواطئ نائية وبحار لم يكتشفها انسان، وغابات لا تزال عذراء، وهناك يتحول الى ذرات لا وظيفة لها، يتكون منه غمام لا يحمل مطراً، لا شيء" .
ويبلغ سمران العدمية المطلقة إذ يستوي في ناظريه البناء والهدم، النور والظلمة. وتؤول جذور هذه السلبية الى ماضي طفولته، المثقل بتراث قمعي يمثله الأب جبرون ( الجبار ) وتماهيه بأمه الضعيفة فهيدة ورضوخها . لذا يمتثل بسهولة لإرادة مالك قائد مجموعته، وينقاد لأسيلا حبيبته، كما لأوامر الحزب . ويخاف التجارب لأنها خروج عن المألوف والمعطى والثابت . ومالك ليس قائده فحسب، انما صورة أبيه الصارم، رجل المهمات والفصول . الفارس، القادر، المطاع، المتفوق، الموجّه . مكسو بقشرة شفافة من الصلابة، تحجب نهراً من الحنان، يسلخ المرأة من زوجها، والحبيبة من حبيبها، ويمارس عليهن فحولته الشرقية .
سمران طفل اربعيني، جبلي يفتش عن دفء الأمومة في الحبيبة فلا يجده، وعن ضيعته ضهر المهر في جادات باريس فلا يلمحها .
لا يحتك سمران بالواقع، بل بأفكاره الذاتية، يتآكل من الداخل . وعيه ليس انعكاساً جدلياً بين الداخل والخارج، او اداة لتحرير ارادته من سلطة القدر المجهول، او وسيلة لإعادة تكوين الواقع . انما وعيه الخارجي، يسلطه الروائي من فوق . عقل تبريري اجتراري تزييفي واستلابي، فسمران مكتمل الصنعة . يحمل في داخله ، منذ قذف به الى الرواية المعطى العبثي. كرة ثلج تزداد حجماً كلما دارت على نفسها، عبث يتغذى من عبث، وخواء يتغذى من خواء. إيقاع دائري يكرر نفسه . فالعبثية ليست موجودة في المؤسسة : البيت، المدرسة، الوظيفة، الحزب، الدين، النظام . انما هي مطبوعة في عقل سمران ووجدانه، لذا يظل من الصفحة الأولى الى الأخيرة أسير حتمية ذهنية متصلبة وجامدة، وحقيقة ذات سطح واحد .
والتذهن المقطوع الصلة بالواقع، يغري سمران بتغيير التاريخ ورموزه، من خلال تبديل ألأسماء، ويحصره في منطقة الرأس فقط . الثورة المستحيلة التحقيق واقعاً، يبنيها في فردوس خياله الذاتي . وعندما يحب أسيلا ، او يتخيل ذلك ـ لا فرق ـ يطلبها لا كشعور وعاطفة وجسد، بل كمطلق، فكرة مجردة، سر مغلق، قدر، غاية نهائية . تقول له اسيلا : " ... المشكلة انك تحبني كما تشتهي ان تكون حبيبتك المرسومة في خيالك . لا كما أنا أسيلا . لست قديسة ولا راهبة ولا مبشرة . انزلني من البرواز المعلق في جدار أحلامك الأفلاطونية، ... ويستحضرها ويتدفق شلال من الصور الباهرة : البهية، الطالعة من الحلم، الأبعد من الخيال، الأقوى من الطبيعة ... " .
عصب الرواية حركة تناوبية بين القناع والوجه، الدور والممثل، الحضور والغياب، الفرد والجماعة، الأب والإبن، الأم والحبيبة . لعبة المرايا المتعاكسة . ثنائية متبادلة. وسمران نقطة العبور والتقاطع، واقف على شوار لا يهوي ولا يستقر .
وباريس هي المختبر المكاني، المحك، التجربة الفاصلة . يأتي اليها مثال الرجل الشرقي الكلاسيكي، ساحباً وراءه أعواماً طويلة من الكبت والقحط واللامرأة واللاحب. وباريس : المرأة ، النبع ، الإرتواء ، باريس توفيق الحكيم وسهيل ادريس ... باريس اسيلا وانجيليك وميشلين . باريس : القوة والنفوذ والمال والجمال والأناقة .
وفي عاصفة الفضاء الرمادي تزهر صحراء سمرون ، ويطلق طير العرتوق من قفص السنين، ويتطهر من العذاب والقهر، يرى باريس في وجه أسيلا المتفتحة على الحياة بكل نوازعها وأحاسيسها واندفاعها وثقتها بنفسها ليضعها في قالب المرأة الشرقية، مدجنة وديعة، طائعة، قانعة، على مثال أمه، غير انها تفر من بين يديه حلماً مستحيلاً ، وعيناها المشعتان ككنيسة القيامة، تجسدان شوقاً مقدساً لا يدرك كنهه .
الغرب مقابل الشرق . أسيلا مقابل فهيدة . السان جرمان والملهى والكافيار والشمبانيا، مقابل دروب ضهر المهر والعرتوق والذئب وصيد القنافذ وغبار الفحم الأسود . الحضارة المرفهة المنفتحة مقابل السليقة البدائية والإندفاع الطبيعي . مرة أخرى يقف سمران عند منعطف حاد، وتجربة يهتز لها وجدانه . تحكمه المفارقات الغريبة والمصادفات، و " في الموقعين يقف مهزوزاً، غير قادر على اتخاذ قرار. في الموقعين هو ليس هو " . يتمنى ان يترك على باريس علاماته الشرقية الفارقة، يعكر ماءها، يهز مفاهيمها وعاداتها . وفي آن، يتشوق الى الإكتمال بها والخضوع لها . لكن ثمة مسافة من الصقيع تفصله عنها . وهو كائن غريب يطأ كوكباً مجهولاً . " عصفور غريب ، ألوانه فاتحة، لا تألفه عصافير السماء الرمادية . وباريس باردة ومتغطرسة . الفضاء رمادي والحجارة رمادية، وعصفور مشرقي ينوح في قفص من الزجاج ".
الماضي يلفظه والمستقبل يخيفه . وهو في النقطة الفاصلة صامت وحيد، وصوت داخلي يهتف به : حدد موقعك، حدد اتجاهك . وعندما حاول ان يحدده في اتجاه الماضي : القرية، الطفولة، الأرض، حرج العرقوب، دهمه إحساس غريب، وسقط في دهشة اللامألوف. تنكر للواقع فأنكره الحلم، تنكر لباريس فأنكرته ضهر المهر . وما رآه في مرآة السان جرمان لم يكن وجهه . وبين بيوت ضهر المهر المستحدثة تبعثرت ملامح حلم طفولي .
بطل الديري معطى سكوني جاهز، ينغمس في طبيعته الخاصة، دون ان يتحرر منها، وحركته نحو الآخرين يخالطها سوء تفاهم، سماكة غير قابلة للتحويل، على تعبير إيمانوييل مونييه، تشكل حاجزاً للتخاطب " ما تراه من حولك ليس ابنية، انه فخاخ، ما تراه من حولك ليس سوى فخاخ، فخاخ منصوبة لجناحك الطري الريش، لذيلك، لمنقارك، وسوف تعلق بالفخ، وسوف تقع على رأسك" .
ويرافق حركته البطيئة الى الخارج، نزوع جارف نحو الداخل عبر التأمل الذاتي، والإنطواء في الأعماق . إذ تغريه تجربة العودة الى الينابيع السحيقة بالوقوف عند البعد الداخلي، ما يجعل " الأنا " الأفق الوحيد لحياته . تستولي عليه كسرطان في الجسد، يجعله في رعب موحش، بارد . في حين ان الحياة الشخصية لا تتم إلا عبر حركة مزدوجة بين الداخل والخارج، وتواتر بين تأكيد الذات ونفيها. جزر يتجمع لتجد نفسها، ومدّ يتوزع ليغنيها .
اما أسيلا وسمران قطبا الرواية فيجسدان الصراع الذي لا يبلغ منتهاه، في فلسفة سارتر، بين الإعتراف بحب "الآخر" وإخضاعه لسلطان ذاته العاشقة، على طريق امتلاكه او "ابتلاعه". وبين "الآخر" الذي يحاول أيضاً التحرر من قبضته والسيطرة عليه . لذا يدور العاشقان أسيلا وسمران في حلقة مفرغة، وبينهما هوة عميقة لا يمكن عبورها .
والحوار في الرواية ليس دافئاً، لأنه يتفرع من جذر واحد . أصداء متشابهة في صوت سمران . تنوع لحني لنغم واحد . الحوار يشرح ويفسر، ولا يضيء من الداخل .
تمثل "عودة الذئب الى العرتوق" إشكالية الإغتراب العامة والنموذجية، المعهودة قبلاً في روايات عربية. ولكن ما يمنحها خصوصيتها، ونكهتها المحلية المميزة هو أسلوب الديري ولغته الملبننة، حيث يُسقط عليها بمهارة ودقة تصوراته الفكرية ومنحاه الروائي .

احمد زين الدين