عرض مشاركة واحدة
قديم 05-19-2012, 10:40 PM
المشاركة 615
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
ملاحق جريدة المدى اليومية » الأخبار » الملاحق » عراقيون
النزعة التدميرية في قصص جليل القيسي
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة بتاريخ : الأربعاء 09-05-2012 09:46 مساء

ياسين النصير
كاتب وناقد عراقي
الوجه الآخر من قصص الستينيات هو المهم في هذه الدراسة، وإذا كان لا بد من العرض المبسط الذي قدمناه، فالأمر بالنسبة لأفضل نماذجها القصصية وقفة أكثر مسؤولية. لا يصح مطلقا نعت قصة الستينيات كلها بالتجريبية. وان اعتمدتها كجزء من سعيها لاكتشاف قارتها الخاصة. لقد وعي عدد غير قليل من القصاصين الأهمية لفن القصة في استيعاب أفكار المرحلة،

لكن من خلال المواقع التي تتصل بأفضل إنجازات القصة الخمسينية أولا، وبما وصل إليه الفن القصصي في العالم العربي ثانيا. ومرة أخري أجد نفسي مدفوعا إلي تأكيد النزعة التدميرية ــ البنائية لدي القصاصين وهم يترجمون سيكولوجية المرحلة في أعمال فنية إلا أن الطريقة التي سلكها القصاصون هنا مختلفة كثيرا عن تلك التي اعتمدها الخمسينيون. فالسيكولوجية العامة لمجتمع المرحلة توضح أن: الرفض ــ اللا انتماء ــ الفردية ــ الذاتوية ــ الانكفاء ــ العزلة ــ الميل إلي السكني في أماكن مغلقة ــ الابتعاد عما هو جماعي ــ السعي إلي الاستغراق في الأحلام ــ والعودة إلي الشعر من خلال استنهاض المكنون النفسي، هي المؤثرات العامة لحياة مجتمع تلك الفترة.وتحت ظل هذه النفسية المرتبكة جري فرز حقيقي لجنسية الكتاب، فمعظمهم من الشباب، ومن الفئة البرجوازية الصغيرة، ومن الذين مروا بتجارب سياسية محبطة، ومن الذين يقرءون العبث والوجودية واللا معقول والماركسية والفوضوية وثورات العالم الثالث، وعلي ضوء هذه المعطيات العامة نستطيع أن نؤشر نقطتين مهمتين:أولاهما: أن فن القصة ابتعد عن المواقع الاجتماعية ذات النزعة الشعبية العامة، علي العكس ما كانت عليه قصة الخمسينيات، وأبدلتها بأماكن متعددة، بعضها لا هوية واضحة لها، وبعضها الآخر مختص بقطاع اجتماعي معزول، كائن في الأماكن القصية، ومحاط بأسرار المجتمع، وسكنتها من أولئك الذين تخثر الحزن علي ملامحهم وسلوكهم وتصرفاتهم ومن داخل هذه الأمكنة المغلقة السوداء، المعزولة، أطل القاص علي المجتمع. وكانت المرأة هي الجنس الغالب لمثل هؤلاء السكنة، أما الرجال، فكانوا أما غائبين أو في مهمات، وحضورهم لا يتم إلا في حالة استدعاء روحي ــ مادي تمثل في الرغبة الجنسية أو في إيصال ما أنقطع من زمن. لقد جري اختيار مقصود لنوع الأبطال وأمكنة سكناها وطريقة تفكيرها وأسلوب حياتها اليومية. ويمكن الإشارة هنا إلي جملة قصاصين أكدوا هذا المنحي في قصصهم: محمد خضير في اختيار الأماكن المعزولة عن أضواء المدن وهتاف الشوارع، موسي كريدي في سعيه لفهم خصائص مدينة النجف وأمكنتها وبعض نسوتها، أحمد خلف في تتبعه لامرأة الحاجة المفرغة، وكان بها جواباً لآفاق روحية بعيدة. جليل القيسي في اهتمامه برصد الحالات المستوفزة بفعل الحرب أو الجنس. غازي العبادي في ولعه المتزايد في تتبع أبن الريف وهو يواجه العنت والاضطهاد.. عبد الإله عبد الرزاق في ميله إلي عزلة أبطاله خارج أسوار المدن. محمود جنداري في تأكيده الروح المتأججة بحالتها اليومية، جمعة اللامي، في المغزي السياسي المباشر لأناس القاع الأسفل وهم يتحولون باستمرار، وفاضل العزاوي في استقصاء الوعي الاجتماعي المتجدد. ولأول وهلة تجد أن أمكنة باهتمامات، وشخصيات بمواقف، وأحداث بموضوعات اعم. هي ما يميز هؤلاء القصاصين الذين ناءوا بفنهم في أخر الأمر من تلك المواقع الظليلة إلي المواقع الحاسمة والشديدة الصراع في المجتمع.وثانيهما: أن الكاتب القصصي في هذه الفترة قد وضع فواصل واضحة إلي حد ما بين القصة القصيرة والقصة القصيرة الطويلة، وبينهما وبين فن الرواية الذي بدأ يتضح علي يد القاص غائب طعمه فرمان، كما برزت الأقصوصة وتداخلت مع الجميع مخلفات القصة الريبورتاج التي توارثها الكتاب من الأربعينيات.وعموما تجد أن فرزا حقيقيا وواضحا لأصناف النوع الأدبي فالقصة القصيرة المتكاملة والتي يكتبها عدد غير قليل من القصاصين قد اعتمدت منهج القصة الخمسينية الناضجة مع تطوير واضح لقواعدها، وإشباع متميز لأجزائها. وبفهم وبوعي نقدي لأحداثها وموضوعاتها ولطريقة كتابتها ولاهتمامات شخصياتها. كما أن القصة القصيرة الطويلة، قد أوضحت هي الأخري، فمالت من حيث موضوعها إلي إشراك عدد أكبر من الشخصيات في حدث واحد، وإلي التوسع في الإدراك النفسي والاجتماعي لكل ما يحيط بها، لكنها لم تتناول مصائر اجتماعية واسعة ولا حقبة تاريخية مشخصة ولا قطاعا اجتماعيا شعبيا محددا، ولا شخصيات نمطية مألوفة كما تفعل الرواية غالبا، ويتميز عبد الرحمن الربيعي في مثل هذا المعزل بين الأنواع.وبتوضيح خصائص هذا النوع للقصة أمكن فرز أعمال قصصية يمكن تسميتها بالقصة القصيرة الطويلة: (المسافة) ليوسف الصائغ و(كانت الطائرات تحلق عاليا) لفاضل العزاوي، (رجل الأسوار الستة) لعبد الإله عبد الرزاق، (تلك الشمس كنت أحبها) لعبد الستار ناصر،ط مملكة الجد والوشم (لعبد الرحمن مجيد الربيعي)، (رموز عصرية) لخضير عبد الأمير، في حين أن حاجة أخرى قد نشأت إلي الأقصوصة أو كما سميتها لاحقا (القصة القصيرة جدا) وكان أبرز كتابها خالد حبيب الراوي ومن ثم أحمد خلف حتي استقرت في آخر المطاف علي يد كاتب أجاد وتفرد بها هو إبراهيم أحمد. وحصيلة هذا الشكل أتت بفائدة علي القاص في الانتباه إلي تلك اللحظات المكثفة من الحياة، والتي غالبا ما تشبه البقع السوداء في الفضاء الخارجي. أما جذور هذا اللون فيمتد إلي ريبورتاجات ذنون ايوب في مجموعة (برج بابل) في الأربعينيات. وإلي فن التقطيع الذي لجأ أليه الكتاب في الستينيات عندما بداوا يوزعون قصصهم إلي مقاطع وأرقام، وأفضل من عمل ذلك هو غازي العبادي ثم توسع علي يد آخرين، إضافة إلي أن هذه الفترة شهدت ترجمة قصص ساروت: انفعالات فكانت نموذجا لهذا النوع القصصي أما القصة القصيرة الفنية، فقد تكاملت أبعادها كما أسلفنا، وأصبحت مكتملة النوع، ويمكن القول أن محمد خضير، موسي كريدي، جليل القيسي، أحمد خلف، محمود جنداري، غازي العبادي، خضير عبد الأمير، جمعه اللامي، عبد الرحمن مجيد الربيعي، فهد الأسدي، عبد الإله عبد الرزاق، فاضل العزاوي، عبد الستار ناصر، أفضل من كتبها في تلك المرحلة.وتندمج النقطتان في إيضاح معني مهم، نؤكده هنا قبل الدخول في التفاصيل، وهو أن القصة الستينية لم تقترب من الشعب كما كان شأن القصة الخمسينية، إلا أنها أنهضت قيم الشعب وجعلتها مرئية مقروءة بوعي أكثر. هذه النقلة الفكرية أبعدتها أولا عن أساليب الفن الشعبي وقربتها ثانيا من مستلزمات القصة الحديثة، وقد أفرد بعض الكتاب لأسلوب الفن الشعبي طريقة جمعت بين المقامة والقصة، وكان من حصيلتها نتاجات فنية لها طعم الفن الشعبي والقصة الحديثة، وأبرز من كتب فيها متأخرا الأستاذ مدني صالح والقاص أنور الغساني الذي نشر عدة مقامات بإطار قصص أسماها المقامات الكركوكلية. ( نشرها في جريدة الفكر الجديد الأسبوعية).ويعكس ابتعاد القصة عن الفن الشعبي وحيله، وعن هموم الشعب اليومية المباشرة قضية فكرية أخري: هي أن القصة تحاكي منهجا سياسيا يؤكد في مجمله علي رؤية مستقبلية أكثر مما هي سلفية، ويأتي وضعها هذا من خلال موضوعاتها التي التصقت بالهم السياسي في جانب وبالمكنون النفسي للإنسان العراقي في جانب آخر، وكانت في كلا الجانبين تضع مؤشرات للنهوض علي أنقاض ما ينهار من قيم ومفاهيم. بمعني آخر أن قصة الستينيات كانت تترجم الانهيار اليومي لأشكال الواقع القديمة، إلا أن خطأها أو ضعفها يأتي في أن رؤيتها المستقبلية كانت مضببة عاكسة بذلك الوضع الفكري والاجتماعي للانتلجستيا العراقية في مرحلة من أصعب المراحل وأشدها تناقضا.وتحت هذا الفهم نحاول فيما يلي إيضاح المميزات التي اختصت بها أفضل نماذج القصة الستينية علي المستويين الفكري والفني وصولا إلي تحديد ما يسمي بقالب خاص لفن القصة القصيرة في العراقــ أولي هذه المميزات تعميم ما هو مأساوي في الحياة الشعبية وجعله علي لسان الكثيرين من الناس، لقد طرحت مفهوم الاغتراب الجماعي من الوضع السياسي القائم يوم ذاك، فدللت من خلال العديد من النماذج علي ابتعاد الانتلجستيا عن السياسة لا كرها بها، وإنما يأسا مما آلت أليه. لقد استوعب الفن القصصي تلك النغمة الحزينة، خاصة وأن أبطال القصص نماذج ممرورة بتجربتها، مشبعة بفشلها، وها هي بعد أن استوت علي قدميها أعطت لقدرتها الذاتية البسيطة: إمكانية جماعة متماسكة. وأفضل نماذج هذا النوع من القصص قصة (الوشم) لعبد الرحمن مجيد الربيعي، حيث يتلمس القارئ تلك النغمة الحزينة المشربة بالانهزام وهي تطرح ذلك بطريقة البوح أو الكلام بصوت مرتفع، وهي مركب من مركبات شخصية البرجوازي الصغير الذي يضيق نفسا لدي أول مجابهة، في حين أنه كان يمني نفسه يوما بالارتفاع علي حقيقة الواقع بما يمتلكه من تصورات ثقافية مزركشة عن تناقضات الواقع. أن ميزة الوشم الأساسية ليس فيما طرحته من تبرير بل في ذلك الجانب الذي لم يتجرأ الحديث عنه، وهو الضعف التاريخي الذي يمتلكه المثقف إزاء الأحداث العصيبة، والنقد الذي لاقته هذه الرواية أهمل هذا الجانب، بل جعله مؤولا في ذهنية الناقد والكاتب الذي يترجم علي الورق.المأساة التي تطرحها مثل هذه الكتابات هي مأساة طائر التم، الذي عند موته فقط يفكر بصوته الحزين.والنظرة الجمالية لمثل هذه الكتابات هي اكتفاؤها بتصوير ما هو كائن ومؤول، فجاءت صرخات الكائن منكفئة إلي الداخل أو محاصرة بأشخاص وحالات لا شرط موضوعي لوجودها، لإيمانها بأن التغيير لمثل هذا (القدر) لا يأتي إلا من الخارج، ولما كان الخارج محاصرا ومشددا عليه سقط البطل في وهم الذاتية والمثالية. لقد كانت المرحلة أحوج ما تكون إلي كاتب ينهض بأنكساراتها بروح موضوعية وعلمية ليرسم ليس ما هو كائن، بل ما سيكون عليه الأمر لاحقا. مثل هذا الكاتب ــ البطل أيضا ــ قد خرج من تحت عباءة القصة القصيرة الفني وليس من القصة القصيرة الطويلة، والعلة في ذلك هو ميل كتاب هذا اللون من القصص الطويلة إلي تركيز عدة شرائح وعدة أحداث وعدة شخصيات في بطل واحد، في حين أن القصة القصيرة تفتح نوافذها علي كل هذا التعدد دون أن تدمغ أيا منها بهوية الآخر. فالشخصيات المكثفة أو المركزة لا تستطيع أن تقدم طريقة ناضجة لإيضاح العلاقات والقوانين العامة للمرحلة، خاصة في طرحها فنيا. إلا أن التعميم المأساوي قد أتي من تناول الشخصيات الثانوية في المجتمع ونشرها علي أفق الواقع ومن ثم تشرب الناس، كل الناس بالحالة العامة لهم. والثانويين في تلك الفترة هم حطب نار المجتمع، العمال ــ الفلاحون ــ الجنود ــ النساء القرويات، وكل الذين يطلق عليهم بالعامة، وهم كما يقول لوكاتش علي لسان بلزاك (أن المجتمع الفرنسي يجب أن يكون المؤرخ، عليّ أن أكون أنا سكرتيره) (11) لا كما تدل عليه (الوشم) التي تسرد حالة الكاتب بأثواب المثقف ذي النزعة البرجوازية في تفسير الواقع وأدلجته. الثانويون هنا ليسوا كمثلهم في الخمسينيات، أنهم هنا عينيات أكثر تمثيلا لواقع الشعب، من أولئك المختارين اختيارا خاصا. فهم الجنود المحاربون والعمال ابتداءً من ثورة العشرين وحتى حزيران (يونيو) 1967.
أما النسوة فهن أولئك العجائز المنتظرات الموعود والأرامل اللائي فقدن أزواجهن، والشابات اللواتي ينتظرن ابن الثمانية عشر عاما حتي ينهي خدمته، أو رحلته إلي دول الخليج. أما الصبيات فقد بقين منتظرات حقائب الآباء الميتين ولعب الأمهات المصنوعة من الخرق والطين.. هؤلاء الثانويون هو وجه قصة الستينيات. خاصة تلك التي ارتفعت بمعني الحدث إلي مصاف الشعر، وبمفهوم الشخصية إلي معني التجريد. وبقدرة الأسلوب علي تطويع ما يفدنا من تجارب جديدة. وقد ساعدها في ذلك كله أنها التفتت إلي الموروث الروحي للشعب وهو يتشكل عبر معاناتها اليومية، هذه الخاصية هي ابنة الستينيات، فقد طوع محمد خضير فنه كي يستوعب فيه الخلجات الروحية لامرأة القاع الأسفل وهي تنمو وسطها وتطرح همومها. الموروث الروحي اكتشف أيضا بقاعا قصية من المجتمع وأزاح الستار عن قارة كاملة من الهموم والأفكار والموضوعات، ما كانت تجد طريقها إلي فن القصة وهو ينطلق إلي قياس الظاهر المتغير من شكليات الحياة، أن اكتشاف القصة الستينية لعمقها الجديد، ركز فنها وقوي حدثها، وأكسب شخصيتها انتماءا حقيقيا للمجتمع. وقد شخص النقد العراقي هذه النقطة حتي عد أن قصصا قليلة أدرجنا بعضها في كتابنا (قصص عراقية معاصرة) مازالت لحد اليوم مثالا لاستلهام الحياة الشعبية لفن القصة. ــ أما ثاني هذه المميزات فهو: تطويع الحس الفلكلوري للعامة وجعله تراثا ثقافيا ينأي بنفسه عن تلك الظلال المعتمة من النفس. والنقلة هنا ليست في اكتشاف الفلكلور وإنما في تحويل طريقة السرد من تتبع حياة إنسان شعبي كما يفعل عبد الملك نوري بعد أن يضع علي لسانه استحضارات واعية إلي تتبع النفس لحياة الشعب الدفينة وهي تظهر من خلال تحويل طرق السرد من العياني المباشر إلى الجوهر الذي تشترك فيه عدة قطاعات أو ما يسمي بالوعي الجمعي الذي وفره لنا حديثا علم النفس. وقصص المجموعات «المملكة السوداء ــ منزل العرائس ــ الحصار..» أمثلة علي ذلك..ان الكتاب المناوئين للحرب وللاستلاب وللقهر وللاستغلال، كانوا» منجذبين» كما يشخص لوكاش لمثل هذا الوضع ــ انجذابا أقوي من عامة الناس، خاصة أولئك الذين عن طريق حياتهم اليومية والمألوفة يرسمون مصيرهم العام دون وعي مسبق يمثل هذا المصير، وهنا يتجرد الكاتب من سلاح ثبت فشله تاريخيا وهو الكتابة عن النماذج الممثلة للطبقات المؤثرة في مسيرة المجتمع واستبداله بسلاح جديد هو اختبار النمط الشائع من الناس والأكثر حضورا للكتابة من خلال ما يحياه عن التاريخ العام للمجتمع والسلاح الأخير هو ابن الستينيات.هنا ينهض ما أسميناه بالتعميم المأساوي ليصبح أسلوبا لفن القصة، وطريقة اكتشفها القاص الستيني، امتد تأثيرها إلي كل أجزاء الفن القصصي، وسنحاول فيما يلي من الصفحات إيضاح مثل هذا التأثير.
لقد فتحت الخمسينيات النافذة الأوسع علي الطرق الفنية المختلفة وإذا كنا مبهورين بما قدمه عبد الملك نوري من فن جديد، فأن ما تعلمه القصاصون الستينيون يفوق كل من سبقهم. لقد تمكنوا من فن الترابط، والوصف، وتطوير الجملة النثرية، والاستفادة الواعية من الشعر والمسرح وجعلوا كما سنري بعد قليل من كل هذه العناصر هوية قومية لقالب فني محلي للقصة القصيرة وقد أشبعت أجزاؤه بمناخ مأساوي، هو في حقيقة الأمر القاع الشعبي للفن.يندر أن تجد قاصا ستينيا استخدم تيار الوعي استخداما متكاملا وسبب ذلك يعود لقصر التجربة وضحالة الإطلاع، واستخدام المصطلح دون وعي كامل بأبعاده. إلا أن الميزة المحلية الخاصة بهذا اللون من السرد القصصي قد أكسبته ظاهرة جديدة ليس لأن تيار الوعي يرتبط بنوع معين من الأفكار أو الصور أو اللغة، بل لما يمتلكه من حرية أطلقت عنان الخيال. إلا أن القصة العراقية جعلت من تيار الوعي ترابطا بين فواصل مأساوية، يتشرب بها الحزن ويوطد أجزاءها ذلك الهاجس الفردي المأساوي لحياة ونعتقد أن هذه الميزة جزء من قالب محلي لفن القصة العراقية، أتي نتيجة انتباه القصاصين إلي نوع جديد من الحياة والشخصيات والأحداث التي عاشوها تجربة وملاحظة وقراءة.والقصص التي تؤكد رأينا هذا، هي تلك التي يسعي القاص فيها عن طريق تيار الوعي إلي: الكشف عن العمق النفسي للشخصية وعن الشمول الاجتماعي للحدث، وعموما نجد رصدا لحالات الشخصية الممسوسة قد سيطر علي معظم نتاج الستينيات، ويقينا أن ما نعنيه بالشخصية الممسوسة هنا ليست المريضة حسب مفهوم علم النفس الفرويدي، بل هي الشخصية، المشبعة بمناخ مجتمعها، والممثلة لقطاع كبير من الناس قد يتجاوز الحدود الطبقية المتعارف عليها في التقسيم الاجتماعي ــ الاقتصادي للمجتمع.أما كيف تمكن القصاصون من التقاط هذه الشخصيات المشبعة ومن ثم وضعوا علي لسانها (حالة) اجتماعية متميزة أفرزت فنا محليا خاصا؟ فهو ما نحاول إيضاح بعضه في المقتبسات الآتية، تاركين اكتمال الفكرة إلي قراءة النتاج المتميز للستينيين جميعهم. ولأن همنا ليس تقديم أنواع من التكنيك لأن ذلك يرتبط بتحليل نقدي للشكل الفني أولا ــ وإنما همنا في الأساس إبراز السمة النوعية لطريقة كاتبنا المحلي في استخدام المأساوي كأرضية لقالبه الفني، ولنر ذلك في ما يلي من النماذج المتجزئة:(أخيرا تغادرين هذه المستوطنات الطموحية إلي الخلاء المتفجر بالضوء.. أغنيات رقيقة نداءات بالإسراع.. وجوه مطلة لبشر ممسوخين، ووجوه ثيران ونسور وتماسيح، مجدولة بالثعابين السود، مشعة بهالات زرقاء باهتة، وكأنهم يرتدون شموسا أو نيازك مذنبة. حين تقترب منهم، تمتد أيديهم الطويلة المشعرة، والملساء كاسطوانات رخامية، تقذفك بالأزهار والأحجار الزاهية وبالتماثيل الصغيرة المتجسمة في كتل الشذرات المضيئة.. جميعهم هناك: العائلة البشرية، العائلة المقدسة، الأمهات والآباء الأخوة، مولدتك، المربيات السوداوات والمرضعات الطارئات ــ الأمهات الثانويات ــ والرفيقات.. نتتشلين وتوضعين في المهد المزين بالخرز الملون وبالتمائم، بين أغطية ناعمة ووسائد لينة. هاهي ذي الحاشية تحيط بالمهد: الباعة المتجولون، مشترو الحديد العتيق، خياطو الفرفوري، الندافون، الفوالون وسحرة الحياة، متسولو ليلة الجمعة، الأغراب وعابر السبيل و( السادة)، السود مرقصو الغلمان ومتبنوهم، اللصوص والحراس الليليون.. ناحية أخري، تقف في طرف المهد المرفوضات، الناديات، والمطربات محييات الأعراس الحفافات، الدلالات، القابلات، الحاجمات، الغازلات الزائرات القريبات كالأشباح ذوات، المهمات العسيرة السرية التي لها علاقة بشرف العائلة وبالأمراض وبصعوبات ليلة الدخلة والخبيرات بالمداخل التناسلية الأنثوية..) (قصة الاسماك لمحمد خضير).
يطلق علي مثل هذا المشهد الاحتفالي عادة (عين الكاميرا) أو (المشهد المضاعف) وهي أسماء توحي بإمكان اجتماع مجموعة صور في نقطة زمنية واحدة هي لحظة نزول الفتاة بالحلم وبالواقع إلي الالتحام الشامل بمكونات الطبيعة، أي لحظة المصاهرة مع الذات. ويتبع القاص أسلوبا فريدا في تجسيد هذه اللحظة، يعتمد علي خيال أسطوري سحري ــ فطري في تكوين مشاعر جمالية وفكرية في تلك اللحظة. واعتماده هنا تكمله للحس الفطري الذي تشعر به الفتاة العذراء ساعة التحامها بذاتها كجنس وكطبيعة. وهذه خصيصة محلية اكتشفها قاصنا العراقي بعد أن اكتشف نوعا من الشخصيات المعزولة عن الأماكن المضيئة والشوارع ونسكن غرفا مظلمة، وأماكن قصية، علي حواف المدن أو الأنهار.. مثل هذه الشخصيات ــ الأنثوية ــ قد حملت في تركيبها الفسيولوجي والنفسي والاجتماعي خصيصة محلية قد لا نجد مثيلا لها إلا في الأماكن القصية من العالم حيث يسيطر السحر والتقاليد والأعراف علي مجمل النشاط الاجتماعي. وقد تبدو مثل هذه الشخصيات غريبة أو مفتعلة، في حين أن تجسيدها لوجودها الروحي والمادي هو تجسيد للنوع البشري الموضوع ضمن ظروف اجتماعية واقتصادية معينة وبالتالي هي امتداد شرعي لكل النساء العوانس والباكرات، للأمهات وللعشيقات، ولكل من تجد لها في تيار الزمن تكثيفا لحالة أعم وإذا ما مددنا حسنا الفلكلوري نجدها وريثة لكل نساء ألف ليلة وليلة، ولكل قصص الجن والسحرة وزوار العتبات المقدسة. لقد ارتفع الفن القصصي بمثل هذا النوع من النساء من رصد لعواطفها اليومية المباشرة، إلي تجسيد لجوهرها ككائن اجتماعي انفصل بك تركيبه عن مكونات الطبيعة الاخرى ولذلك عندما تعود بنفسها إلي حالة جنسية ــ لا تجد ذاتها معزولة عن كل المكونات الطبيعية وغير الطبيعية التي تشترك معها بالحالة ذاتها. القاص هنا يبحث عن الشيء المشترك في كل جوانب الطبيعية. ونعود ذاتها. القاص هنا يبحث عن الشيء المشترك في كل جوانب الطبيعية.
ونعود إلى التكنيك مرة أخري، لنجد أن القاص (قد مزج بين الحياة الداخلية للشخصية مع الحياة الخارجية في وقت واحد) ولكن بطريقة ذهنية منضبطة، ولهذا نجده مكثرا من الفوارز والنقاط والتعليقات ولعل سبب ذلك يعود إلي أن القاص هنا راو لما يحدث ولذلك ليس ثمت علاقة من المنلوج الداخلي للشخصية، فالشخصية شبه غائبة في التحامها الكوني الأسر. فتولي القاص رواية ما يحدث لها مضيفا أليها كل معلوماته عن مثل هذا النوع من الشخصيات، وهذا ما نجده في إكثار المتشابهات من النساء وإلي رصف الحالات المتشابهة التي تعمق الفعل وتؤكده، والمعلومات الثرة هنا إضافة فنية لخصوصية القصة العراقية. إلا أن النقطة الأساس، في كل ما ذهبنا أليه، هي أن القصة تؤكد المعلومات التي أردف بها حال الشخصية وفي المتشابهات، وفي المناخ العام،حتي أن الألوان ــ لا الضياء الطبيعي الخارجي ــ هي التي كانت تحدد حواف الأشياء والموجودات، هذا الجو المظلم الكابوسي، الموشي بعزاء جماعي رسم لنا صورة واضحة لامرأة القاع الأسفل وهي تمارس وجودها اليومي من خلال استحضار القاص لنوعها المتميز الذي يمثل في أعمق معانيه نمطا من النساء أختص بمرحلة اجتماعية ماضية، أو منهارة، وقد أنعكس هذا الانهيار في قلة الأفعال وكثرة الأسماء. وهي دلالة أسلوبية عميقة.