عرض مشاركة واحدة
قديم 08-06-2010, 05:18 PM
المشاركة 3
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
أوراق ساخنة (1): رحلة العقل في البحث عن الحقيقة


كانت الأسطورة التي هي عبارة عن قصص خيالية mythology وسيلة البشر لتقديم إجابات لكل الأسئلة التي طرحها الإنسان على نفسه. وكان موضوع الأسطورة الأساس هو الإله. وكان تركيز الأسطورة ينصب على تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية. لكن العقل الإنساني الذي طور الأسطورة للضرورة، ومن خلال تطورالوعي القائم على الاحتكاك مع البيئة، رفض التسليم باستمرار هيمنة التفكير الأسطوري على حياة الناس. ولذلك جاء من قرر تفحص الأساطير عن قرب، وذلك باستخدام العقل والتجربة الحسية، وهو ما أدى إلى ولادة الفلسفة.

وقد انتقد الفلاسفة الأوائل الذين ظهروا حوالي (سنة 750 قبل الميلاد)، عالم الآلهة الأسطوري، لأنه في نظرهم يشبه عالم البشر. والمعروف أن أول نظرة ناقدة للأسطورة معروفة عند الفيلسوف (كزينوفان) الذي عاش نحو 750 ق.م. والذي قال "لقد خلق الناس الآلهة على صورتهم". ودليله على ذلك أن الأساطير الإفريقية كانت تصور الآلهة بلون اسمر، وأنف أفطس، بينما يقول الأوروبيون بأن آلهتهم زرقاء العيون حمراء الشعر. لذلك شكلت الفلسفة أسلوباً جديداً في التفكير، كنتيجة مباشرة للتقدم الحضاري الذي شهدته المرحلة المذكورة، حيث ازدهرت المدن الإغريقية تحديداً، مكان ولادة المناهج الفلسفية الأولى.

ويمثل هذا النمط من التفكير عبوراً من نمط التفكير المبني على الأسطورة إلى نمط التفكيرالمبني على التجربة والعقل، حيث كان هدف الفلاسفة الإغريق إيجاد أسباب طبيعية للظواهر الطبيعية.
من هنا ولد ما يعرف بفلاسفة الطبيعية، والذين يمثلون المرحلة الثانية من تطور الفكر بعد الأسطورة. وقد أطلق عليهم اسم فلاسفة الطبيعة،لأنهم كانوا يهتمون بالطبيعة وظواهرها. وكانوا في مجملهم يحاولون فهم الأحداث التي تحصل في الطبيعة دون العودة إلى الأساطير. ويمكن القول إن أفكارهم تمحورت حول"المبدأ الأول" وتحولاته في الطبيعة.

طاليس مثلا، وهو من أوائل الفلاسفةالمعروفين، كان يعتقد أن الماء أساس كل الكائنات. وينسب له أن كل شيء مليء بـإله،رغم أن قصده عن الإله ظل غير مفهوم. كذلك كان يعتقد أن الأرض مليئة ببذور الحياة صغيرة غير مرئية، ولكنه لم يرجعها إلى آلهة الأسطورة طبعاً. فيلسوف آخر اسمه اناكسيماندر كان يعتقد بأن كل شيء يخلق يختلف عن خالقه، ولذلك لا يمكن أن يكون المبدأ الأول ماء، بل شيء يصعب تحديده. أما أناكسيمانس فكان يعتقد أن الهواء والضباب هما أصل الأشياء، والماء بالنسبة له هو هواء مركز، وعليه اعتقد أن الماء والتراب والنار لها أصل واحد هو الهواء وهو أساس خلق الأشياء.

أماالفيلسوف بارمينيدس فكان يرى أن كل ما هو موجود قد وجد من الأبد، وأن الأشياء تتغير بطبيعتها، ورغم أن أحاسيسه كانت تلحظ تغير الأشياء، لكن عقله كان يقدم تفسيراً آخر، فغلب العقل على الحواس، فالحواس بالنسبة له تعطي صورة كاذبة للعالم، وهي صورة لاتتفق مع ما يقوله العقل. لذلك خون الحواس، وآمن بالعقل، وقد أطلق على هذا المذهب العقلانية، والعقلاني هو الذي يؤمن بأن العقل هو مصدر كل معرفة في العالم.

هيراقليطس كان يقول إن كل شيء يجري، أي أن كل شيء متحرك، وركز على التناقضات المتلازمة في العالم، بمعنى إذا لم نصب بالمرض لا نعرف معنى الصحة. والوجود محكوم بهذه اللعبة الإلزامية بين الأضداد، وهذه الأضداد تمثل العقل الكوني، أو القانون الكوني (لوغوس)، وعليه فقد كان يرى أن وراء كل هذه التحولات والتناقضات في الطبيعة، ذلك الشيء الذي يقع في أصل جميع الأشياء، وهو الله، أولوغوس، أو العقل الكوني.

أما أمفيدوكليس فقد اعتقد أن الطبيعة تمتلك أربعة عناصر أساسية، يطلق عليها مصطلح الجذور، وهي التراب، والماء، والهواء، والنار. وكلما يتحرك في الأرض يعود إلى امتزاج أو انفصال هذه العناصر الأربعة، وكان يرى أنقوتين مختلفتين تعملان في الطبيعة لتوحيد العناصر، وهما الحب والكره، وما يوحدالأشياء هو الحب وما يفرقها هو الكره.

جاء بعده فيلسوف اسمه انكزاغوراس، الذي كان يعتقد أن الطبيعة مكونة من جزيئات صغيرة لا ترى بالعين المجردة، وكان يطلق على هذه الأشياء البذور أو الحبوب، واعتقد بوجود نوع من القوة التي تشكلا لأشياء وتعطيها شكلها، وكان يسمي هذه القوة "القوة العاقلة" أو الذكاء، وقد اتهم هذا الفيلسوف بالإلحاد بالإلهة الأسطورية في أثينا، وأجبر على ترك المدينة، ذلك أنه تجرأ في أشياء كثيرة، منها القول بأن الشمس ليست إلهاً وإنما حجر محمى حتى البياض، وحجمه بحجم إحدى الجزر اليونانية، وكان قد توصل إلى ذلك الاستنتاج بعد فحص حجر نيزكي.

أما ديمقريطس، ويعرف بأنه آخر فلاسفة الطبيعة، فقد افترض بأنه لا بدأن يكون كل شيء مركبا من عناصر صغيرة جداً، وكل عنصر بمفرده دائم وأبدي. وكان يسمي هذه الأجزاء البالغة الدقة (ذرات) بمعنى أنها غير قابلة للتجزئة، وهي غيرمتماثلة، ويوجد منها عدد غير متناهٍ، وهي تستطيع أن تتجمع في كيانات مختلفة لا حدلها.

ويمكن التأكيد اليوم على أن نظرية ديمقريطس حول الذرة كانت صحيحة، وقد كانت أداة ديمقريطس في التوصل إلى تلك النظرية هي العقل فقط، وبدون استخدام أدوات العصرالحديث، وهو لم يلجأ إلى أية قوة أو روح لتفسير الظواهر الطبيعية. فكل ما يعمل هوالذرة، والفراغ، ولم يؤمن إلا بكل ما هو مادي، وعليه فإن كل ما في الطبيعة يتم بطريقة ميكانيكية، ولكن الأمور لا تحدث مصادفه، وانما تتبع قانون الحتمية في الطبيعة، لذلك فإنه يرى بأن وراء كل هذه الظواهر سبباً طبيعياً، كامناً في الأشياء نفسها.

وقد تزامنت ولادة فلاسفة الطبيعة، مع ولادة الفلاسفة السفسطائيين، واستبدل هؤلاء دراسة الطبيعة بدراسة الإنسان وموقعه في المجتمع، وكانوا يسعون لجعل الشعب مستنيراً. وهم يشتركون مع فلاسفة الطبيعة في نقدهم للأسطورة، ولكنهم كانوايرفضون موضوع التأمل بدون موضوع محسوس، وكانوا يعتقدون أنه حتى لو وجدت إجابات عن الأسئلة الفلسفية، فإن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى يقين فيما يخص ألغاز الطبيعية والكون، وهذا ما يسمى في الفلسفة بالارتيابية، أو اللا أدرية.

سقراط، وهو واحد من أهم ثلاثة فلاسفة جاءوا بعد فلاسفة الطبيعة، يرى أن المعرفة الحقيقة هي التي تأتي من الداخل، وقد مثلت فلسفته تحولاً جذرياً في المشروع الفلسفي،وهو يعتبر الشخصية الأكثر إشكالية في تاريخ الفلسفة، وكان سقراط يمتلك قدرة البقاء لساعات طوال غارقاً في تفكيره، واعتبر واحداً من أكثر الأشخاص غموضاً، وعنده أن عمل الفيلسوف مثل عمل القابلة، فهي لا تضع المولود، ولكنها تساعد في إخراجه إلى الحياة، وهكذا الفيلسوف، ومهمة الفيلسوف عنده توليد العقول أفكارًا صحيحة، وهو يرى أن بإمكان الإنسان التوصل إلى الحقائق الفلسفية إذا قبل أن يستعمل عقله، فعندما يبدأ الإنسان بالتفكير يجد أجوبته داخل نفسه، وكان يؤكد أنه يسمع صوتاً إلهيًّا داخله، وقد اتهم في العام (399 ق.م.) بأنه أدخل آلهة جديدة، وعليه حكم عليه بالإعدام بالسم، وأعدم فعلاً.
كذلك كان سقراط يعتبر أن الفيلسوف الحقيقي، هو الذي يعي بأنه لا يعرف إلا القليل، ولهذا السبب يحاول باستمرار أن يبلغ الحقيقة، وقد تجرأ وأعلن كم هي ضئيلة معرفة البشر للأشياء، لذلك اعتمد في منهجه على البحث وطرح الأسئلة، حتى يصل إلى الحقيقة، وكان يهمه إيجاد قاعدة صلبة للمعرفة، وبرأيه أن هذه القاعدة تكمن في عقلالإنسان، وعليه فقد اعتبر فيلسوفًا عقلانيًّا.

أما أفلاطون، وهو أحد تلاميذ سقراط، فقد طرح عدة أسئلة فلسفية في الإنسان والطبيعة، وظن أن الكون يشكل معجزة خارقه. ولقد بحث في النفس البشرية، وسأل إن كان للإنسان نفس خالدة، وقد كان لقتل أستاذه(سقراط) أثر كبير في نفسه، وكان عنده التعبير الأكثر حدة عن التناقض بين الظروف الموجودة واقعيًّا في المجتمع، وما هو حقيقي ومثالي.

أما منهاج أفلاطون الفلسفي، فقد كان يدور حول اكتشاف العلاقة بين ما هو أزلي وغير فان من جهة، وما هوآني وزائل من جهة أخرى. وكان أفلاطون يرى أن كل ما هو محسوس في الطبيعة قابل للتحول، خاضع لتأثير الزمن ومصيره للتراجع والزوال، لكن كل شيء مخلوق في قالب غيرآني غير قابل للفناء وأزلي، فعلى الرغم من أن الحصان يفنى، لكن يظل قالب الحصان أبديًّا وغير زائل، وعليه فإن الأزلي وغير الزائل عنده إذن ليس مادة فيزيائية، وإنما مبادئ ذات صفه روحية، وبالتالي مجردة. واعتقد أنه لا بد من وجود عدد لا محدود من القوالب هي فوق أو وراء كل ما يحيط بنا، وهذه القوالب هي ما أسماه الأفكار. فوراء كل الأشياء، توجد فكرة هذه الأشياء.
ويمكن القول بأن أفلاطون كان يرى أن هناك حقيقة أخرى وراء عالم الحواس، هذه الحقيقة هي ما أسماه الأفكار، وهناك توجد المثل الأبدية والثابتة القائمة على أساس الظواهرالطبيعية، ويشكل هذا المفهوم الخصوصي نظرية الأفكار عنده.

وعند أفلاطون وحده العقل، الذي يعمل على ما يراه هو، يمكننا من المعرفة الحقيقية، ولا يمكن الوثوق بالحواس، لأن عملية الرؤية تختلف من إنسان إلى آخر، في حين نستطيع أن نثق بعقلنا لأنه هو، هو عند جميع البشر، ويمكن عنده التأكيد على أن العقل أزلي وكوني، لأنه يعمل على أشياء أزليه، وكونية، ولذلك فإن ما نراه من داخلنا بفضل العقل يقودنا إلى المعرفة الحقيقية.

وقسم أفلاطون الواقع إلى قسمين: الأول مشكل من عالم الحواس، وهو الذي يعطينا معرفة تقريبية وغير كاملة باستخدامنا الحواس الخمس، وهو عالم في تحول دائم. وعالم الأفكار الذي يسمح لنا بالوصول إلى المعرفة الحقيقية، عن طريق استعمال العقل. وعالم الأفكار هذا مستعص على الحواس، وبالتالي فإن الأفكار أو المثل أزلية وثابتة، وهو يرى بأنه لا يمكن الوثوق بحواسنا لأنها مربوطة بالجسد، ولكن النفس الخالدة والتي مقرها العقل تستطيع أن ترى عالم الأفكار، لأنها ليست مادية، وهو بذلك يرى بأن النفس كانت موجودة قبل أن تأتي لتسكن جسداً، حيث كانت سابقًا في عالم الأفكار، هناك في الأعلى، ولكنها عندما تجد نفسها في جسد بشري، تنسى الأفكار الكاملة، وتبدأ مسيرةغريبة تتمثل في البحث عن الحقيقة، فكلما أخذ الإنسان يدرك بوساطة حسه الأشياء المختلفة المحيطة به تنبعث في النفس ذكرى غريبة، فعندما يرى الإنسان حصاناً، يتذكر فكرة الحصان الكامل التي عرفتها النفس في عالم الأفكار، وعليه فهو يرى بأن كل الظواهر الطبيعية ما هي إلا ظلال الأشكال أو الأفكار الأبدية في عالم الأفكار.

واعتمادًا على نظرية الأفكار الأزلية، نادى أفلاطون بالجمهورية المثلى، واعتقد أنه لا بد أن يحكمها الفلاسفة، لأنهم الأقدر على رؤية الأشياء على حقيقتها، ويرون ما وراء الظلال، وتقع فلسفة أفلاطون ككل تحت عنوان الفلسفة (العقلانية)،فالمهم في المدينة الفاضلة أن يحكمها العقل كما يحكم الرأس الجسد.

ورأى أفلاطون أن تربية الأطفال، شيء أخطر من أن يترك لتقدير كل أسرة بمفردها، وعليه كان أول فيلسوف طالب بإنشاء رياض الأطفال والمدارس المشتركة، ذلك لأن المدرسة يمكنها أن تنتج فلاسفة يرون الحقيقة، بينما الأسرة لا ضمانة أن تنتج تربيتها فلاسفة جديرين بالجمهورية الفاضلة.

أما أرسطو وهو تلميذ من تلامذة أفلاطون فقد اعتبر رجلاً موسوسًا في التفاصيل. وقد اعترض على نظرية أستاذه أفلاطون، وركز في مشروعه الفلسفي على الطبيعة الحية، وبهذا لم يكن فقط فيلسوفًا، وإنما كان أول عالم أحياء عرفه التاريخ.
وقد فعل أرسطو عكس أفلاطون الذي أدار ظهره لعالم الحواس، ليذهب إلى ما وراء كل ما يحيط بنا، فقد انحنى على يديه ورجليه ليدرس الأسماك والضفادع والورد والبنفسج، وعليه فقد استخدم حواسه، واعتمد على الأبحاث الميدانية، والعالم مدين له ببلورة لغة علمية خاصة بكل علم، فقد كان المنهجي الكبير، الذي أسس ونظم مختلف العلوم، ولذلك ينظر إلى منهجه الفلسفي، ونقده لنظرية الأفكار الأزلية على أنها لحظة تاريخية.

وعلى عكس أفلاطون، يرى أرسطو أن ما ندركه في حواسنا يشكل أعلى درجات الواقع، وليس ما نفكر فيه في عقولنا كما يقول أفلاطون، فأرسطو لا يؤمن بأن فكرة الدجاجة تسبق الدجاجة، وعنده أن شكل الدجاجة موجود في كل دجاجة، وليس في الفكرة.

وحسب أرسطو فإن ما من شيء يمكن أن يوجد في الوعي دون أن يدرك في الحواس، وعليه فإن كل أفكارنا تجد أصلها فيما نرى أو نسمع، ويقول أرسطو، إننا نولد وفينا عقل، لكن لايكون لدينا أفكار فطرية بالمعنى الذي قصده أفلاطون، ولكن يكون لدينا قدرة فطرية على تصنيف انطباعات الحواس في فصائل مختلفة تكون موجودة دون شك، وهكذا تنبثق مفاهيمالأشياء: حجر، حيوان، رجل، حصان .
ولا ينكر أرسطو أن الإنسان يولد ومعه العقل، بل يعتبر أن العقل هو ما يميز الإنسان، لكنه يرى بأن العقل يكون فارغًا قبل أنتبدأ الحواس بإدراك الأشياء، وبالتالي فإنه لا أفكار فطرية لدى الكائن البشري عند أرسطو، وما شكل الحصان عنده إلا مجموع خصائصه المميزة.

لذلك فإن الحقيقة عند أرسطو، مكونة من أشياء مختلفة، والشيء عنده مكون من شكل ومادة، والكل هو مجموع ميزات الشيء الخاصة، أما المادة فهي ما يتكون منه الشيء، فعند الموت يتوقف الشكل، وتظل المادة، بمعنى أن الدجاجة لا تظل دجاجة بكل معنى الكلمة، وعليه فهو يرى أن الدجاجة تأتي من البيضة، لأنها تحمل في داخلها شكل الدجاجة، فلا يمكن أن تتكون إوزة من بيضة دجاجة. والأشياء عند أرسطو تحدت بسبب العلة السببية والغائية وهي القوة التي تعطي الأشياء شكلها، وقد أسس أرسطو علم المنطق بهدف جعل الاستنتاجات مقبولة منطقيًا.

أما حياة الإنسان عند أرسطو فتختصر حياة الطبيعة كلها، فالإنسان يكبر ويتغذى كالنبات، ويمتلك القدرة على إدراك العالم والتحرك فيه كحيوان، إضافة إلى كونه الوحيد الذي يمتلك قدرة استثنائية هي القدرة على التفكير العقلاني، وهويعتقد أن الإنسان يمتلك جزءًا من العقل الإلهي، وهو يرى أنه لا بد من وجود إله، أومحرك أول يسيطر على حركة كل الأشياء، والله عنده إذًا، يقع في أعلى سلم الطبيعة.

في الفترة الهللينية التي تلت موت أرسطو في العام (322 ق.م.) واستمرت (300عام) تقريبَّا كان التشاؤم يسود الناس، وقد سعت الديانات التي ظهرت في العصر الهلليني، من أجل معرفة تعليم يحرر البشر من الموت، والبحث عن خلود الروح والحياة الأبدية. كذلك كان هناك سعي لامتلاك معرفة حسية بالطبيعة الحقيقية للكون، وكذلك سعت الفلسفة من أجل تحرير الإنسان من قلق الموت والتشاؤم، وبذلك أصبحت الحدود بين الدين والفلسفة رقيقة جدًّا.

وفي هذه الفترة بدأت العلوم تسير بخط موازٍ مع الفلسفة والفكر، وقد سعت الفلسفة في هذه المرحلة إلى معرفة أين تكمن السعادة الحقيقية، وكيف نبلغها. وقد ظهر في هذه الفترة مجموعات من المذاهب الفلسفية المميزة مثل: الكلبيون ،والرواقيون، والأبيقوريون، والأفلاطونية الجديدة والتصوف.

كان الكلبيون يمثلون إحدى هذه التيارات الفلسفية التي جاءت في هذه المرحلة، وكانوا يعتقدون أن السعادة تأتي من الاستقلال عن الظروف المادية الخارجية العابرة والمتقلبة.

أما الرواقيون فكانوا يعتقدون أن كل البشر يشكلون جزءًاً من العقل الكوني، وأن كل فرد هو عالم مصغر، ويشكل انعكاسًا للعالم الكبير، وهو الكون، وعليه يرون أنه يمكن إقامة قانون يصلح لكل الكون، هو القانون الطبيعي المبني على العقل الأزلي للإنسان وللكون الذي لا يتغير بحسب الزمان والمكان. وكانوا يعتقدون أن الظواهر الطبيعية كالمرض والموت تتبع القوانين الدائمة للطبيعة، لذا على الإنسان أن يتصالح مع قدره، فكل ما يحصل هو ثمرة الضرورة، ولا فائدة من التذمر والشكوى عندما يدق القدر الباب.

أماالأبيقوريون فقد رأوا أن هدف الحياة لا بد أن يكون تحقيق أكبر قدر من المتعة، فالخير المطلق في المتعة، والشر المطلق في الألم. وفي رأيهم لا بد من التغلب على الخوف من الموت لنعيش حياة سعيدة. وعند الأبيقوريين أن الموت لا يعنينا لأنه طالما نحن أحياء فإن الموت لا يأتينا، وعندما نموت لا نعود موجودين .

أما الأفلاطونية الجديدة، فقد كانت الخط الفكري الأكثر بروزًا في العصور القديمة المتأخرة، وكان هذا الخط متأثرًا بأفلاطون، ولذلك أطلق عليه اسم الأفلاطونية الجديدة. وأبرز فلاسفة هذه المدرسة هو أفلوطين. الذي درس الفلسفة في الإسكندرية، ملتقى الفلسفة الغربية والروحانية الشرقية، وقد وضع أفلوطين نظرية شكلت المنافس الأقوى للمسيحية في بداياتها، ثم تركت تأثيرها على اللاهوت المسيحي نفسه.
وبينما كانت نظرية أفلاطون تميز بين عالم الأفكار وعالم الحواس، وتفصل بين الروح والجسد،وعليه تكون الروح في الكيان الإنساني، كأنها قنديل صغير، كلما ابتعدنا عنه أكثر، فإن النور يختفي عنا، وعندما يصبح حولنا ظلام دامس لا يعود بإمكاننا أن نرى شيئًا لا ظلال ولا خيالات. أما عند الأفلاطونية الجديدة فالذي يشتعل ويضيء هو الله، أما الظلام فهو المادة التي يتكون منها البشر والحيوانات، وعندهم تتوزع حول الله الأفكار الأزلية، التي تشكل رحم أو قالب كل ما هو مخلوق، وأن روح الإنسان هي قبل كل شيء قبس من النار، ومع ذلك فإن كل الطبيعة تتلقى قليلاً من الفيض الإلهي. وعندهم يكفي أن ننظر إلى كل الكائنات الحية لنرى أن شيئًا من النور الإلهي ينبعث منها. وكلما هو موجود يشترك في السر الإلهي، وكثيرًا ما نحس بهذا السر الخفي عند مشاهدة فراشة تطير من زهرة إلى أخرى مثلاَ. ونستطيع بفضل روحنا أن نقترب ما أمكن من الله، وعندها نتوحد مع سر الحياة الكبير، وقد يحصل أحياًنا أن نشعر بأننا نحن هذا السر الإلهي ذاته.
وبينما يقسم أفلاطون الواقع إلى قسمين مختلفين، يرى أفلوطين أن الواقع يقع تحتتجربة كلية، وأن كل شيء واحد لأن كل شيء هو الله، وحتى الظلال التي تحدث عنها أفلاطون تتلقى انعكاسًا من الواحد. وأحيانًا كان أفلوطين يحس أن روحه تذوب في روح الله، وهذا ما يطلق عليه تجربة صوفية.

والتجربة الصوفية تعني الإحساس بالتوحد مع الله، أو مع روح الكون، وبينما تركز بعض الديانات على الفجوة بين الله والخلق ترى الصوفية أن هذه الفجوة غير موجودة حيث يتوحد الشخص في الله أي يذوب فيه. وطريق الإشراق عند الصوفية هو نمط من الحياة القاسية، وعدة ممارسات تأملية إلى أن يأتي يوم يستطيع فيه الصوفي أن يصرخ (أنا الله) أو أنا أنت.

وتوجد التوجهات الصوفية في كل الديانات. وفي التصوف الغربي المتأثر بالديانات التوحيدية الثلاث يشير الصوفي إلى أنه يخوض تجربة لقاء مع إله شخصي. فحتى لو كان الله موجودًا في طبيعة كل إنسان وروحه إلا أنه يظل حائمًا فوق العالم. أما في التصوف الشرقي (الهندوسية،والبوذية، والطاوية) فمن الشائع أن المتصوف يدخل تجربة الذوبان الكلي مع الله، أو روح العالم، ويستطيع المتصوف أن يصرخ أنا روح العالم، أو أنا الله.

وبذلك انتهى عصر الفلسفة القديمة، واختفى الفلاسفة العظماء مع ولادة السيد المسيح عليه السلام، وظهور الديانة المسيحية، حيث قدم الفكر اللاهوتي، الذي سيطر على كثير من القلوب والعقول خلال حقبة العصور الوسطى، إجابات لاهوتيه لكثير من الأسئلة، لكن الإجابات ظلت غير شافية، وظل العقل البشري يسأل هل تسبق الدجاجة البيضة؟ ومن أين تأتي الفكرة؟