عرض مشاركة واحدة
قديم 11-26-2020, 01:23 PM
المشاركة 15
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: رحلة امرأة تخطّت الستين

(3)
((سمر .. والاستقبال الباهت ))

سنةٌ أخرى تمرّ من عمري ، لا أعرفُ كيف انقضت سابقتُها ، كل ما أعرفه من تلك السنة أن أختي حنان صنعت لي دمية من القماش ، كنت أتابعها وهي تصنعها لي ولمّا كبُرتُ صرت أصنع لعبي بنفسي بالمحاكاة والتقليد ، أحضر زراً دائرياً وألف حوله قماشاً أبيض وأربطه من الخلف فيكتمل بذلك وجه الدمية ، ثم أثبته بالخيطان في أحد طرفي عود خشبي بالطول وهذا جسم اللعبة وأثبت آخر بالعرض كأنهما يدا دمية ، بعدها أرسم العيننين والشفتين والأنف بقلم من الحبر الأحمر ، وألفّها بقطعة قماش ملوّنة واثبّـته بحزامٍ أربطه على وسطها ، فتصبحُ دمية جميلة ،
كانت صناعة الدمى مسلاتـَنا في وقت نفتقر فيه إلى وسائل التسلية وممنوع علينا اللعب في الخارج لأننا بنات وكلما أنجبت أمي بنتاً كنت أصنع دمية جديدة ، وعادة تبيتُ الدمى في حضني عند النوم ، صار عندي ثلاث دمى ( حنان وهيام وختام التي سبقتني وغادرت قبل أن أراها ) .
أما أمي فتبدأ رحلة حمل جديدة ، هي الخامسة في السلسلة
هذه المرة كانت الرحلةُ مليئةً بالأوجاع ، لكنها أوجاع لذيذة ، فطوال فترة الحمل لم يُسمع لأمي شكوى ، الانتظار هو الشيء الوحيد الذي كان يُزعجها مع ما يرافقه من أحلام ، وحان الموعد ، الولادة هذه المرة كأعسر ما يكون ، وهذا أيضاً جعلها تشعر بالاطمئنان ربّما لتؤكدَ لنفسها أن هذا التعسير يخصّ الصبيان دون البنات ، هكذا كانت نساء الحي يردّدن حول تجارب الحمل والولادة ، فترى عينيها تتلألآن فرحاً ، وكلما واتتها طلقة من طلقات الميلاد ، كانت تلقي القبض على الألم ، تراوغ الأسى ببراعة وتمضغ الوجع باقتدار ، والوحشةُ مزروعة فيها ، ولا تكاد تُبين ، كمن يحتمل وخز الشوك المزروع في طريق طويلة نهايتها الفرح ، وتختلط الفرحة المخبوءة بالألم الظاهر ، كانت مبتهجة تتحسّس بطنها ويكأنها تحاكي ما فيه قبل أنْ يأتي ، وتخاطبه بنبرة أمّ تترجّى ، أرْفق بأمّك يا صبي ، وحتى تختفي فرحتُها المخلوطة بالوجع تنتقل من مكان لآخر كعشواءَ تمشي تبحث عن خليل مؤازر ، ثم تستلقي على السرير وتحلم ، ماذا سألبس وأنا أستقبل المهنئات ، وتعضّ على شفتيها تخرج من بينهما ابتسامةٌ تقول فيها :سألبس فستاني الأحمر وأضع على كتفي الشال الأبيض المطرّز بالغرزة الفلسطينية ، والذي أهدته لي أمي وأنا البنت المدللة بين الأخوات وكبرى البنات الأربعة في بيت أبي قبل أن نهاجر إلى الخليل .

لقد كانت أمي غريبة ، فأهلها من أصحاب الهجرتين الأولى كانت رحلة عام النكبة 1948 من إحدى قرى فلسطين ، حين ترك جدي فيها مساحة شاسعة من أرضه المزروعة بالحمضيات وبيته ، ولكنه آثر الهجرة والفقر والذلة على البقاء في الوطن ، فما أصعب أن يُخيّر المرء بين أمرين أحلاهما مرّ ، ففي ذلك الوقت كانت في بيت جدي أربع صبايا أمي وأخواتها الثلاث ، وكان يتنامى إلى مسمعه أن جنودَ الاحتلال الصهيوني يقتحمون البيوت ويحطمون الممتلكات ويغتصبون البنات أمام آبائهن ويقتلون الرجال ، ويشقّون بطون الحوامل ، وقد شاهد معظم أهالي القرية ينجون بشرفهم وبناتهم ، ويروون القصص الفظيعة عن دير ياسين صاحبة المذبحة الأشهر في تاريخ فلسطين ، فكيف لا تكون الهجرة خياراً ؟!
حمل جدي ما كان معه من قرش أبيض ليومه الأسود ، فلن يكون هناك أسود من هذا اليوم ، ترك كل ما يملك هناك وهاجروا إلى الخليل مع من هاجر ، واستقر حالهم في مدينة خليل الرحمن بالقرب من سيدنا ابراهيم عليه السلام حيث مدفون في مغارة الماكفيلا هو وزوجته التي يحبها السيدة سارة عليها السلام .
أما الهجرة الثانية فكانت خلال النكسة عام 1967م ، حين ترك جدي الخليل ، في الضفة الغربية لنهر الأردن وما تبقى له من وطن في فلسطين ، وهاجر إلى السعودية.

وتكمل أمي حلمها مستحضرة كل المشاهد المؤلمة ، وما بين الهجرتين ، تزوج أبي بأمي في الخليل ، بعدها انتقل بحكم عمله إلى السلط ( في الضفة الشرقية لنهر الأردن ) ، كل هذه المشاهد تمرّ سراعاً وكأنها شريط فيديو يُعرض أمام عينيها على شبكية عينيها الرطبة بالدمع ، فكانت المشاهد غير واضحة ، لكن المشهد الأقوى هو انتظارها للولد ، وما زالت طلقات الميلاد تهبط وتعلو .
في كل مرة المنتظرون خلف باب غرفة الباب يزيدون واحداً ، اليومَ أقفُ مع الجموع التي تتنصت خلف الباب ، ولا أشعر بأي شعور سوى الغيرة من المولود القادم ، فقد يأخذ الكثير من اهتمام العائلة ، كما أن جدتي أمّ أبي الحاجة صديقة كانت بالداخل ترقب الحدث لحظة بلحظة ، وبين اللحظة والأخرى كانت تقول لأمي بنبرة غضب واستهتار بوجعها : يا حسرتي ، والله إن كانت أتجبت بنتاً هذه المرة ، سأزوج ابني بامرأة أخرى لتأتيهِ بالولد ، وأمي لا تردّ بل تكتفي بالألم وتختنق فيها العَبرة ، وأبي خلف الباب يقتل الوقت بالأكل ،وبعد حين ، اخترقت صرخة صغير من الشباك المكسور المثبت في أعلى الباب ، فهجم الجميع ينتظر الخبر ، لم تخرجْ جدّتي لتقول لأبي رزقك الله بصبي ، تأخرتْ ، ماذا يحدث يا ترى ؟! دقّ الباب بحذر وقال : أمي ، بشرّي ، لم تفتحْ جدتي البابَ ولم تردّ عليه بكلمة تمسحَ القلقَ عن وجهه المكدود ، فنادى أخرى وأخرى ، فخرجت جدّتي غاضبة بعد ذلك تقول : علامَ العجلة ، وهل تتوقع من أم حنان غير البنت ؟! قالت هذه الجملة ودخلت ، قال بصوتٍ خافت يعني بنت بنت ، يتجول في الغرفة كالمعتوه وهو يقلب كفيه ويقول : لا حول ولا وقة إلا بالله ، بنت ، بنت
وصار يتخبط يمنة ويسرة ويصبّ جامَ غضبِهِ علينا ، فلم يكن في البيت سوى ثلاث بتلات من أم ضعيفة ، يبدو أن القابلة سمعتْ الجلبة الآتية من الخارج وسمعت صوت أبي ، خرجت وقالت بصوت مرتفع تريد بصوتها رسالة تصل لجدتي بذات الوقت : يا رجل ، قل : الحمد لله فقد كنا سنفقد أم حنان ، كنت أرمّم ما تفتت من زوجتك نتيجة الولادة العسرة ، عليك أن ترضى بما اختاره الله لك ، هل أنت خائف ألّا تستطيع إطعامها ؟! المولود يأتي رزقه معه ، لمَ كل هذا الغضب ، ثم دخلت وأغلقت الباب بقوة ، لم ينبس أبي ببنت شفة ، ابتلع ريقه وغاب عنا ، لم نرَ وجهه حتى صباح اليوم التالي ، حين حملَ المولودة بين يديه وهو يؤذن " الله أكبر، الله أكبر " ويكمل الأذان في أذن الصغيرة مرفقاً بدموع سخية ،وبين الفينة والأخرى يزيحُ بصره نحو أمي ينظر إليها نظرة إشفاق ، اقتربْت من أبي أتأمل المشهد وأستشعرُ استمرارية موجة غضبه التي اجتاحته يوم أمس، فتعلقت ببنطاله وسألته - بصوتي الصغير- ، هل تكرهها ؟ أنت لا تريدها ، صح ؟ شو اسمها يابا ؟ ، نظر إلي باسماً وقال : أحبّك أكثر منها ، وسأسميها سمر ، هززتُ رأسي وزممت شفتيّ وأنا أبتسم ابتسامة بريئة مبطنة ، اطمأننت فيها أنني الأغلى .