عرض مشاركة واحدة
قديم 02-26-2016, 04:54 PM
المشاركة 26
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
سليم بركات في نهايات العقد الثالث من تجربته الشعرية
الكردي- البازيار الذي شق معاني العربية من تلابيبها*

صبحي حديدي - كاتب ومترجم من سوريا يقيم في باريس

-1-

القامشلي مدينة صغيرة تقع في أقصى الشمال الشرقي من سورية، تأسست في عثسرينيات هذا القرن لكي تكون محطة زراعية تخدم مواسم زراعة وحصاد القمح والشعير وبعض القطن. وسرعان ما أصبحت أبرز مدن وبلدات منطقة "الجزيرة"، التي سميت هكذا بسبب وقوع سهولها المنبسطة الخصبة بين نهري الفرات ودجلة، والموقع الجغرافي لهذه المنطقة يفسر تنوعها الانساني والثقافي واللغوي والاثني: من الشمال تحدها جبال طوروس، ومن الشرق كردستان والعراق، ومن الجنوب بادية الشاد وتدمر. وبالمعنى السوسيولوجي والاقتصادي كانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت منطقة "الجزيرة" وبالتالى مدينة القامشلي بوجه خاص تنفرد عن بقية المناطق السورية في أن معظم سكانها من الوافدين الذين قدموا من مناطق الداخل السوري (دمشق وحلب) بحثا عن العمل الموسمي ثم استقروا. أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هربا من الاضطهاد العرقي أو السياسي.

ذلك جعل القامشلي موطنا لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين والبدو الرحل والعشائر المستوطنة الاقطاعية، الأمر الذي استدعى تعددية أخرى على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراث والأساطير. وهذا الموقع الفريد لمنطقة "الجزيرة" يذكر على نحو مدهش بالأبيات التالية من الشاعر اليوناني كوستيس بالاماس.

ذلك المثمن القائم على هندسة مريعة، والذي قطنه

محاربون قدماء

كان يتحكم بالسهول، مثل ذروة مجللة بمشيب ثلجي

معمر

من بابل الى سورية، ومن جبال طوروس الى لبنان.

من قلاع طرسوس الى خلافات بغداد (1)

في القامشلي ولد سليم بركات سنة 1951. وفيها ترعرع ودرس وحصل على الشهادة الثانوية وانتسب الى جامعة دمشق - قسم اللغة العربية وآدأبها في العام 1970. ثم استقر نهائيا في العاصمة السورية بعد انتقال أفراد أسرته اليها. وفي عام 1971. وهنا اعتمد على الذاكرة الشخصية، نشر بركات أول قصائده في مجلة "الطليعة" الأسبوعية السورية التي كانت تضم قسما ثقافيا دسما وحداثيا. استقطب الأسماء الشابة بصفة خاصة. آنذاك.

كان المشهد الشعري السوري يضم أمثال علي الجندي وممدوح عدوان وعلي كنعان ومحمود السيد ومحمد عمران في صفوف الشعراء الأكبر سنا وتجربة ونتاجا. "المكرسين" لهذا السبب الجمالي أو ذاك السياسي، وكان يضم أمثال نزيه أبوعفش وعادل محمود وبندر عبدالحميد وابراهيم الجرادي ومحمد مصطفى درويش ومحمد منذر المصري في صفوف الشعراء الأصغر سنا وتجربة، والأقل اندماجا في المؤسسة.

في خلفية هذا المشهد الأجيالي. إذا صح القول. كانت أشكال كتابة الشعر تخضع لضغوطات جمالية (صامتة بمعنى ما) من المعلم الكبير محمد الماغوط، الذي أصدر مجموعته الشعرية الثالثة "الفرح ليس مهنتي" ثم انزوى في عمل وظيفي محض هو رئاسة تحرير مجلة مغمورة اسمها "الشرطة". وضغوط أخرى غير صامتة مارستها قصائد شعراء قصيدة النثر السورية، من أمثال: سليمان عواد، وسنية صالح، وحامد بدوخان، واسماعيل عامود. كان شكل التفعيلة هو السيد بصفة إجمالية، ولكن "التعايش السلمي" مع أشكال الكتابة الشعرية الأخرى (وقصيدة النثر بصفة خاصة) كان سيد اللعبة في الآن ذاته، بدليل الترحيب الواضح بنشر نصوص الشعراء الشباب في منابر رسمية مثل مجلة "الطليعة" وملحق "الثورة" الأدبي، وشهرية "الموقف الأدبي" الصادرة عن اتحاد الكتاب. آنذاك أيضا، اخترق سليم بركات هذا السطح الراكد، الرتيب، المتوافق على تعايش سلمي بين الأجيال والأشكال والموضوعات.

واذا لم تخني الذاكرة، هنا أيضا كانت قصيدة "نقابة الأنساب" هي الكتلة الثقيلة التي سقت بغتة على السطح الراكد وأحدثت ارتجاجا عنيفا كان من المحتم يصغي اليه الجميع:

"هذا وجهي العصري"

أنا آت

فليرقب كل مليك شحاذ في أرض الردة من أين تجيء

الطعنات.

عبر تخوم الغربة في أجفان صبايا وعبر الساقية

اختصر الزمن الخائف في عين النسوة. أزجي الزمن

القرشي اليها

لا الدمع ونزف الفقراء ينيخ الرحل، طوافي

خلفه قوافل زغب.. فليرقب

كل مليك شحاذ في أرض الردة من أين تجيء

الطعنات

"هذا وجهي العصري"

بلا نعل أرحل نحو بلاد الفرس وأمصار الروم وأرفع

وجهي للظلمات أسائلها

وأسائل رجلي الداميتين عن الأرض العمياء وهمس

خفافيش سماني

وبكل مثولي بين يد الغربة أصرخ

تصهل أفراس الحرب على أبواب الكعبة يا أهل الشام

ووحدي

أبسط للملتجئين الى ظل الأحجار السوداء ودائي

أتقطع حين ينوس الموت على وجه الحجاج

وبين الصدر المشرع للطعنة والرمح الظامي اتخثر.

أزحم ملكوت الرهبة صدعا يفصل عربات الزمن

اللاهث قدامي ووراثي

أتصاعد في أنفاس الكعبة جمرا تتنفسه الصحراء فتحبو

حاملة هزج قبائلها نحو قوافي الحرب، أزنر نسب

الراجل بالفارس.

والهارب بالثابت في الحومة حتى يرخي النخل النادب

جنح الدمع علي..

أبايع في حمحمة الأرماح لواني

أضرب شرقا، غربا، ضرب اليائس.. يسقط وجهي

الأول

أضرب. يسقط وجهي الثاني

أتراجع بالحجاج الى عرفات غبارا يتكسر تحت حوافر

ريح الوهن القاصم

ثم نموت لنحلم

ثم نقوم لنحلم

ثم نقصد أوردة كي نلمح في الدم مجيء الأشجار مع

اليوم التالى عاقدة

فرح الأنهار على الهامات عمائم (2)

كان الجديد واضحا وطاغيا وآسرا. وكان صارخا أيضا، في هذه الفصحى الحارة النزقة المصفاة، التي لا ترجع أصداء البيان العربي التقليدي ولا المجاز البلاغي المعتاد. وفي هذه البنية الايقاعية المتسارعة وفق تخطيطات متقطعة ومتصلة في آن، وفي هذه المرجعية التاريخية والتراثية الشفيقة بقدر امتزاجها الكثيف، وفي هذا التصاعد الدرامي لضمير المتكلم المفرد، الأشبه بـ "أنا" جمعية لا تكشف عن تعدديتها الا في الخاتمة المفاجئة، وفي هذا التقسيم البارع للسطور الشعرية، والتغييب الذكي للقافية. والهندسة السلسة للعلاقات التركيبية بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

كان سليم بركات في العشرين من عمره حين كتب هذه القصيدة وكان الحضور الانساني لهذا الفتى الكردي القادم من أقصى الشمال الشرقي (بجسده النحيل، وقسمات وجهه الطفولي، والدهشة الذاهلة التي لا تفارق محياه، والبراءة الطافحة التي لم تكن تطمس بريق الذكاء والتوقد)، قد بدأ يمارس فتنة غير مألوفة في الأوساط الأدبية السورية مطلع السبعينات، سرعان ما انقلبت الى افتنان بالقصائد اللاحقة التي سينشرها بركات في الدوريات السورية: "مبعوث الفراشات"، "قنصل الأطفال"، "المطالبة بجسد فراشة غريبة". ولن يطول الزمن حتى تضيق العاصمة السورية بقلق هذا الـ "رامبو" الكردي المتمرد الفاتن فيغادر الى بيروت باحثا عن الحرية الشخصية أولا، والهامش الحر الذي سيتيح له نشر قصائده ذات الموضوع الكردي الصريح: "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة"، "الكواكب المهرولة صوب الجبل"، "أنا الخليفة لا حاشية لي". وهي القصائد التي ستشكل العماد الأهم في مجموعته الشعرية الأولى ذات العنوان الطويل وغير المألوف: "كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا" (1973).

وكما أحدثت قصيدة "نقابة الأنساب" صدمة بهيجة في دمشق، كذلك أحدث نشر قصيدة "دينوكا بريفا..." صدمة مماثلة، أكثر تعقيدا ودلالة في الواقع، حين نشرت للمرة الأولى في مجلة "مواقف" سنة 1972. كانت القصيدة تطرح اسم سليم برك ت بقوة، وترشق الماء البارد في وجه أعراف الكتابة الشعرية العربية في قلب بيروت، عاصمة الحداثات العربية، وتكرس الشاعر ناطقا بليغا (بفصحي جبارة غير مألوفة) باسم الموضوع الكردي، في التاريخ والجغرافيا والحكاية والأسطورة. آنذاك لم يخف على أحد، وفي طليعتهم أدونيس رئيس تحرير "مواقف" الذي سارع الى احتضان القصيدة مثل مجموعة بركات الأولى، أن هذا الصوت ليس جديدا فحسب، بل هو مباغت وانشقاقي واختراقي.

وكانت القصيدة قد أحكمت شد الروابط بين الحكاية والفانتازيا، بين الوقائع المادية ومحفوراتها السرية في باطن الوعي بين التجسيدات البدئية لما يجري على سطح المحاكاة الطبيعية والتصوير البصري التشكيلي الآسر، بين المكان بوصفه أكثر من مجرد كيان جفرافي معرف أو قابل للتعريف، وبين المكان ذاته بوصفه موقع التنقيب عن الاستعارة المفتوحة، عن الهاوية التي تتقلب فيها حكايات البشر (الكرد والبداة والآشوريين والشركس)، وحكايات الحيوان (الذئاب والنعاج والكلاب السلوقية وبنات آوى). وحكايات الطير (الكركي، الزرزور، الحجل)، وحكايات النبات (السرخس، الخزامى، العناب)، هذه التي تأتلف مرارا لتشكل حكاية واحدة حاشدة لأسطورة تنفجر بعنف، في اللغة وخارجها، وفي الصورة وأعلى منها، وفي الايقاع المنتظم والايقاع المتفتت.

وهذه القصيدة تسجل، أيضا، أول أمثلة استخدام سليم بركات للنثر في قصيدة تواصل الاعتماد على التفعيلة، وإن كانت تلجأ أيضا الى "تذويب" السطر الشعري المستقل عن طريق إدخاله في مقاطع تدويرية طويلة. ولعل بين أفضل ما أنتجته الكتابة الشعرية العربية المعاصرة التي تعتمد النثر ذلك الاستهلال الأخاذ الذي يفتتح القصيدة:

عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجر

مؤخراتها فوق الثلج

وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب،

أسمع حشرجة دينوكا.

في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت

السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط

العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية

تسوق قطيعا من بنات آوى الى جهة أخرى خالية من

الشظايا.

-2-

في قصائد مجموعاته اللاحقة سوف يواصل سليم بركات بحثه المديد (الشاق والمدهش) عن توازن الانواع، في المساحة الواسعة من حقول التنويع التي توفرها ديناميات الشكل الأدبي. في قصيدة "قنصل الأطفال" (من المجموعة الأولى) جرب اجتراع نسق شعري تركيبي يعتمد ايقاعات الجاز والتتابع السيمفوني في آن معا. وفي "اقتلوا روناشتا" (من مجموعة "هكذا أبعثر موسيسانا"، 1975) اعتمد المشهدية المسرحية، والكورس، والمرونة النغمية للايحاء بالأجواء الاحتفالية والرثائية والطقسية، وفي "الفصيلة المعدنية" (المجموعة ذاتها) قارب النثر من جديد، وإن كان قد فصل المقطعين النثريين عن جسم القصيدة بوسيلة منحهما عنوانين مستقلين: "سيناريو للشعر"، و" سيناريو للثلج". وفي "البراري" و" فراشات للعواصم" (مجموعة "للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك" 1977) حاول تقديم الجملة الشعرية التي تكسر علامات الوقف والترتيب الطباعي للسطر الشعري، وترفد التشكيل الهندسي للصفحة بتفصيلات ملحمية وتغريب لفظي ومقاطع متجاورة محاطة بأشكال هندسية. كذلك تسجل هذه القصيدة غنائية طافحة طارئة على أسلوبية بركات، وميلا الى تشديد القافية، والى الايجاز المقطعي والتكثيف اللفظي:

للشهداء

أنثر قلبي كفراشات

وأقود الى أعشاش الماء

كبدي

وعصافير دمشق، وسمائي

وأهرول بين الأعشاش لأمسك موجا

أو عاصفة

وأهرول بين الأعشاش لأمحو

هذا الزبد العربي عن الأسماء.
كل شهيد يتقدمني الآن،

وللشهداء

أنثر قلبي كفراشات

وأقول: انكسري يا أعلام وغيبي

يا قصبات النصر المترع

بالأظلاف وبالطيب

ولينطلق الأمراء الى نصر أكثر مهزلة،

ولنطلق السفهاء.. سأعلو

نزقا كالغزو على واجهة الصحراء (3).

وفي مجموعته "الجمهرات في شؤون الدم المهرج والأعمدة وهبوب الصلصال" (1979) قدم سليم بركات القصيدة الواحدة الطويلة التي اعتمدت على شكل الكتابة النثرية، وتنويع المقاطع بين الفقرة الطويلة المدورة والسطر الشعري القصير، وتنويع الحرف بين أبيض وأسود، واستخدام الهوامش التي تحيل على ملاحق القصيدة (البغل الأعمى، الحدأة، بنات آوى، بقرات السماء، العرائس، الأدراج) كما اختتم القصيدة بتسعة أناشيد معتمدة على التفعيلة، متفاوتة الحجوم. مشتركة في شحنتها الغنائية العالية ونبرتها الرثائية وبنائها الايقاعي الرهيف. وفي هذه القصيدة الطويلة اتضحت أكثر فأكثر طاقات بركات اللغوية والتصويرية، وبدا أن لا حدود لعدته التخييلية في توليد وشائج بالغة التعقيد بين الصورة البصرية والصورة الذهنية وبين الدلالة القاموسية والدلالة المجازية، وبين مختلف طرائق حشد المعنى وتنظيم مستويات استقباله.

في "الكراكي" (1981)، وهي أيضا قصيدة واحدة طويلة من فصلين، جرب بركات كتابة نص شعري سردي الطابع، روى فيه حكاية ايلانا وديرام (النموذج الكردي من فولكلور حكاية العشق الثنائي، قيس وليلى في جميل وبثينة..). وفي الفصل الثاني القصير قدم بركات عددا من الـ "تعريفات" للكائن الآدمي (ايلانا وديرام لم وللحيوان (التيتل، الوشق، السلوقي) وللطير (الهدهد، البشروش، السنجاب). بعد سنتين سوف يصدر بركات مجموعته السادسة "بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح". وسوف يضمنها قصيدته البديعة "فهرست الكائن" التي ستواصل تراث "تعريف" الكائنات الحية، وسوف تمنحنا تلك الفرصة البهيجة في استعادة أدب الحيوان العريق، والاحساس بموضوعات الطبيعة كأشياء مشاهدة ومعاشة من الداخل وليس كمدركات ذهنية مفهومية. وفي العديد من الحوارات الصحفية اعتبر بركات أن الحيوان هو الحرية المتماهية على نحو مطلق مع الغريزة. وأنه هو "اللادنس" "الممتليء بعافية الدور الأعمى الأكثر جمالا".

وفي "فهرست الكائن" نقع على وصف للفراشة والفقمة، والحباحب، والحجل، والقطاة واللقلق والحنكليس، والخلد، والعنكبوت والحلزون والديك. والزيز، والطاووس، والفهد، والعصفور واليعسوب والخفاش، والثعلب، والحمار والغراب، والنسر، وفي وصف هذا الطائر الأخير يقول بركات:

أهو وصي الأقاصي يدون مديح الأقاصي، أم سهر

الريش على حجر المكان؟ لا يا سهر الريش، لا واسع

أو مديد إن تراءى من جناح: لا جناح لو لم يفق

الواسع المديد. وأنت، عليا, على أي حال، تعزل

الخيالات، وفي ظللت يتماوج الصلب. مره، وأخفق

كنبضة في الغد العالي، غد العاصفة وحدها أن تقرع

الفراغ القديم.

مر، لا:

فليمر الفضاء الحيران في ظلك المحير،

وليخلع المرئي مهاميز عصيانه. (4)

قصيدة "حديد"، في المجموعة نفسها، مؤرخة في "نيقوسيا، شباط -آذار 1983". وهي تدشن خروج سليم بركات من بيروت إثر الاجتياح الاسرائيلي لعام 1982 وترحيل الفلسطينيين من لبنان. وكان بركات قد ارتبط بمؤسسات المقاومة الفلسطينية في وقت مبكر من اقامته في لبنان، وكتب يوميات بعنوان "كنيسة المحارب" (1976 لم يصف فيها حرب الجبل، وتعاون على نحو وثيق مع محمود درويش في فصلية "الكرمل" ومع دار "العودة" للنشر، ودار "النورس" التي اختصت بأدب الأطفال. ولعل بين أجمل قصائد بركات تلك التي يرثي فيها صديقا طلال رحمة، الذي استشهد في حرب الجبل.

"حديد"، إذن، هي أولى قصائد سليم بركات بعد استقراره في نيقوسيا، سكرتيرا لتحرير فصلية "الكرمل" وهي ترتدي أهمية خاصة في تاريخه الأسلوبي، لأنها أولا تمثل نوعا من الارتداد الصريح و(العنيف ربما) الى شكل التفعيلة الذي كان بركات قد أقلع عنه بصفة شبه تامة: ولأنها، ثانيا: تمثل مزيجا ثلاثيا يتوازن فيه الموضوع الغنائي والرثائي - الملحمي والسيري - التاريخي، على نحو طاريء لم يسبق لبركات أن قاربه في هذا المستوى الرفيع من التكافؤ والتشابك والمتانة، ولأنها، ثالثا، كانت تنذر بما ستكون عليه موضوعات قصائده اللاحقة، خصوصا في التمثيل الميتافيزيقي لتفاصيل اقامته في المكان الجديد. كما في قصائد "منزل يعبث بالممرات" و"منعطفات. ظهيرة من ريش. دهاقنة يصفون الليل. غبار مسحور، وغد كالعداء يتهيأ لأزقة الغيب".

قصائد مجموعته السابعة "البازيار" (1991) سوف تعكس عودته الى نوع من السكينة الأسلوبية، والتأمل الأكثر هدوءا في التاريخ الشخص والذاكرة الجمعية والمحيط الجغرافي، سيكتب عن نفسه (في "أسرى يتقاسمون الكنوز" و "تدابير عائلية"). وعن قومه الأكراد (في "مهاباد")، وعن صديقا محمود درويش (في "محمود درويش: مجازفة تصويرية"). وفي هذه القصيدة الأخيرة رسم بركات تفصيلات المكان في بور تريه من علامات ووحدات رهيفة ومتنافية الدقة، تتناوب في التعيين والتجريد أثناء صياغتها لترتيب جديد من العلامات سرعان ما ينفك عن الانطباعات المألوفة التي تسندها اللغة الى العناصر فتتحول سيرورة الوصف الى ما يشبه الرسم التنقيطي الشفيق لصاحب المكان (محمود درويش). المحبرة حمى ذات مكاييل يندلق منها الصعتر، قربها تتعارك التواريخ كرعاة تداخلت قطعانهم، والغرف تتناظر، والرفوف الثقيلة تسهل خلسة عبور الكلمات من كتاب الى كتاب، الى أن تسير خاتمة القصيدة هكذا

ما المكان الأسير

حين تأخذ في يدك الريح صوب مفاتيحها ؟

ما الصدى؟ ما الحكاية، ما نزقها ؟

ما الأنين الذي يتهادى بسلطانه في هوى الحبر ؟ نهب

صغير

يخبيء للورد رائحة البن في سهر قاد هذي الحديقة

الى حيث يشكو الصباح

انه لم ينم في يديك اللتين اغتلى فيهما ذهب لم ينم

فأعدت الحديقة

الى وردها، وسرقت من العتبات الرقيقة

شعاعا له قسمات المكان، وأرخت للترف

بالذي أسرتك البراعم في ظنها أي ظن

سيلقيك في شبهات من السعف

كي يرى في أعاليه أنك أشفقت أن تنثر الريح أكبادها

في يديك

فآويتها والتجأت إليك ؟ برق

على زنبق أو عسل

يتلمس إنشاده ويغير عليك

بشقيقاته يتهتكن مثل القبل

فانتهب ما تشاء. المكائد من ألق، والحرير الأمين

يعيرك كتانه،

والهبوب الذي أنت فيه هبوب السنونو. (5)

-3-

في برهة شديدة الخصوصية من مساره الأدبي والشعري بصفة خاصة، كتب الشاعر والناقد الانجليزي صمويل تايلور كولريدج (1772-1834):

ما من أحد يستطيع القفر فوق ظله

ولكن الشعراء يقفزون فوق الموت.

كان ذلك عام 1802. قبيل وقت قصير من اعتراف كولريدج باحتباس الشعر في داخله. وما يعنيه ذلك من فقدانه لواحد من أمضى الأسلحة لمواجهة حالة حادة من تضخم الاحساس بالموت. ولقد قدم في عمله النثري الفاتن "دفتر هوامش" جملة تأملات ثمينة حول رغبة الشاعر في أن يموت مع موت الشعر، وأن "يذهب الى ما بعد الكلمات، حيث الظلمة نور والسكينة احتفال".

سليم بركات في قصيدته "تصانيف النهب"، والتي تفتتح مجموعته الشعرية الثامنة "طيش الياقوت"، يباشر طورا من تجربة الحياة مع الشعر، هو عكس التجربة التي وصفها كولريدج: إنه يدشن العقد الثالث هن تجربته الثرية بأكثر من محور قطع واحد مع أعراف العقدين السابقين، ثم يتأبط الموت بعد أن جاوره وجرده من أية رهبة ميتافيزيقية ويقفزان معا فوق ظل مراوغ لا يليق إلا بالشاعر في لحظة شديدة الخصوصية من مساره الشعري.

بمعنى آخر، في هذه القصيدة (ثم في القصيدتين التاليتين "الاقفال" و "استطراد في سياق مختزل"، خصوصا وأن موضوعة الموت تطفى على المجموعة بأسرها). يبدو سليم بركات وكأنه يدخل في جهاد مرير مزدوج مع النفس الشاعرة القديمة ومع الأعراف الشعرية السائدة، سواء لجهة تطوير التجربة الفردية من حيث انتهت في آخر مجموعة شعرية أو لجهة مخالفة الأساليب والخيارات التعبيرية المحيطة التي استقرت نسبيا وحظيت بقدر لحير من الاجماع على صعيد الكتابة والذائقة والتغطية النقدية. إنه أشبه بمن يجاهد لكي يكتب شعرا لا يذكر بسليم بركات بقدر ما يحرض على معارضته، ولا يستدعي القراءة الآمنة بقدر ما يدفع الى أخرى منفردة محفوفة بالمشاق والعسر ولا يستكمل مرحلة جديدة من النضج إلا إذا أمات (عن سابق عمد وتخطيط فنيين) قسطا هاما وغاليا من مراحل النضج السابقة.

وهذه في الواقع، حالة نادرة من حالات تطوير التجربة الفنية الشخصية، يعلمنا التاريخ الأدبي أنها تكاد تقتصر على الشعراء دون الروائيين والتشكيليين والموسيقيين. ويغير جواز المرور الجبار الذي ندعوه بـ "اللغة الشعرية"، ليس للفنان كبير حظ في تحدي أنظمة المعنى والدلالة والتعبير، ثم إعلان اليأس مما ترتبه وترسبه في القرار الجمعي العميق للقراءة، إذا لم يتحدث المرء عن إعلان التخوين والمقاطعة الشاملة، وكيف يحق لغير الشاعر أن يقول على سبيل المثال:

أتصفي الي ؟ أراك سهوت، أيها الموت، وأنت تحصي كتائب من أشباح تمهد الوقت دفترا دفترا لانتصار الحدائق -أشباح كلوعة تصعد المدرج الى الحقيقة، ثقيلة في حديدها، وخوذها لتسلم الباشق الى اليقين.

أتصفي الي أم الى حياة تسهر، أنت، على كنوزها، أيها الموت ؟ تعال ندخل أسواق الجزارين الذين يستميلون الحكمة الى فكاهاتهم، رافعين رؤوس الأغنام وأحشاءها الى الموازين، وقد يقشرون أظلاف الماعز، أو يهوون بالسواطير على اضلاع الثيران. تعال. إنهم يصنفون العضل، ويرققون الشحم كالمجازات، كأنما يعرفون أن المضغ الذي يقرقع إنما هو من فم الأرض تمضغ القيامة قبل نومها. (6)

اللغة هنا تدخل في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (أشباح كلوعة، تصعد المدرج الى الحقيقة، تسلم الباشق الى اليقين، يرققون الشحم كالمجازات)، وفي تناظرات صوتية حادة أقرب الى تنظيم النشاز من حول التآلف. وهي تقص القاريء عن خطوط استقباله الواعي (التقليدي) لدلالات الألفاظ، وتدفعه الى المستوى السحري الخام للمفردة حيث تدور عمليات الاستقبال في محاور استعارية - لاواعية (الأمر الذي سأتوقف عنده لاحقا). وهذه خصائص لصيقة بتجربة سليم بركات وأشبه ببصمة شخصية طبعت نتاجه، ربما منذ قصيدته "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة" والتي تفتتح مجموعته الشعرية الأولى، وانتهاء بقصيدته "تدابير عائلية" التي تختتم مجموعته السابعة. ولكن سليم بركات هنا غيره في المجموعات السابقة، والبصمة إياها تبدو وقد تجللت بغلاف يطمس الكثير من معالمها دون أن يفلح في حجبها تماما.

وهو غلاف غير رقيق في واقع الأمر، لأن سليم بركات يصنع عادته من عناصر متواشجة تضم الجملة الاستعارية والعمارة الايقاعية العليا، والتصميم الطباعي الذي يضرب صفحا عن تقطيع النص الى سطور شعرية لصالح توزيعه مقطعيا، ثم اعتماد جرعة جديدة مفاجئة من الغنائية الخفيضة ولكن الصلبة والانشادية والبوحية، كتقي مع جرعة أخرى من التوسيع الملحمي للموضوع المركزي والموضوعات التفصيلية.

تشيخ طويلا أيها الموت فتنسى أنك موت ينساه الموتى ومجازاتك من صوف أغبر أو من قطن مبلول، أيها الموت، مجراتك منكوبة. اسمك منكوب وحبرك الليلي الذي تدون به فراديس الأكيد يفتح الممرات - في السطور- لشموس الموتى

يا لسريرك الذي تمسد الحروب بأيديها القطا نية، ملاءته القصيرة، يا للحروب تطرق عليك الباب في خجل، أيها الموت، لتشغلك كأنثى بحديث الذكر، يا لهباتك التي لا تقدمها مرتين، يا لدوي السطر المحمول على يديك وهو يمزق الكتابة:

ونحن، في المثال أعلاه من القصيدة الأولى ذاتها، نفتقد بعض أسلوبية سليم بركات، أو نفتقد تلك الأسلوبية بمقدار يتناسب مع "التمويه" المتعمد الذي خطط له في غمرة انشغاله بتحدي السيرورة السائدة وممارسة اللعب الحر على سطح الجملة مثلما في باطنها. هو ليس سليم بركات تماما، ولكنه الشاعر ذاته الذي يعطينا أنحشر من برهان واحد قاطع يجعلنا لا نتردد طويلا في وضع توقيعه أسفل المقطع، بل واستذكاره على هوانا، واسترجاع ما نشاء من مقاطع سابقة رسخت في ذائقتنا وليس في وسعه أن يحسن تمويهها الى درجة التضييع أو الاماتة.

هذه القصيدة كتبت في عام 1992، وهي نموذج رفيع على المخاض الذي اعتمل في نفس سليم بركات وهو يقسم طاقته التخييلية بين نص روائي يوظف المادة الأسطورية والتاريخية الكردية، ونص شعري خاضع لضغوطات تلك العدة اللغوية الفصيحة التي هيمنت مرة والى الأبد، وكان امتداد معجمها الثر في الأعمال السر دية بعد تلك الشعرية مدعاة ألق وقلق تعبيريين، في آن معا. في القصيدتين التاليتين (والمجموعة تتألف من ثلاث قصائد فقط) يستريح المحارب بعض الشيء، وتهدأ فورة عبور الظل إذ يميل الشاعر الى التصالح مع ظله اللاهث خلفه، وتنتقل صيغة ضمير المتكلم /ضمير المخاطب، التي تهيمن على المجموعة بأسرها من معادلة الصوت الذي ينتهك ذاته أثناء مساءلة الآخر (الموت، العدم، الشعر، العزلة، التاريخ، المكان،..) الى معادلة الصوت الذي استرد ذاته من جديد عبر القصيدة، لأنه خالقها الذي انقلب الى مخلوق لها على حد تعبير هايدجر:

هب شققت المعاني بين تلابيبها، ودفعت الغد، خلسة

بيديك ليتهاوى على الأدراج المنحدرة الى كمائنها،

هب جمعت إليك المذعورين ليقتسموا رئتيك اللتين

من حريق، وطحنت الأزل في أجران المجرات،

مقتدرا باقتدار الحمى ذاتها، المنزلقة بدلافينها

الصلصالية الى الحبر – هب هذا:

لن تظنن رجاءك إلا نسخا من رقيم الفراغ الجابي.

فأعد، أيها المطوق، مجازات الشكل لينجو اللون،

وموه خندق النور من خلال القيافين.

ففي يأسك نجاة الأكيد، وفي انشغالك عن الأقدار

تشغل الأقدار بوسائسها

وبقدر ما تبدو بعض المفردات في معجم سليم بركات أثيرة لديه، فإنها تظل أثيرة لدينا نحن بدورنا ولسنا نفتقدها في الواقع صانعة لتراكيب لغوية فاتنة، ومشاركة في الانتظام الخفي الدقيق لعمارات بركات الايقاعية، ومفجرة في دخيلة القاريء تلك الفضاءات الغرائبية المتينة في فصاحتها والمرنة المنبسطة في انتهاكها لشيفرات القول التقليدية. وحين نقرأ: "يا المآت ذو الصحاف المثلمة كأن عضها الازل فأدمى الابدية. ويا الذي آلمك ميزان وعدمك نزيف الخوف يتحرى الطبائع بحصافة المهرج الذي من نبات، أيها الموت يا الحاذق كوحشة، أيها الارث النوراني للنسيان النوراني.." فأنى لسليم بركات أن يقصينا عن سليم بركات ! ألسنا ندرك أن قوله "كأن عضها الازل" أو "ويا الذي" لا يمكن أن يشبه البتة (احتمال) القول: "كأنما عضها الازل" أو "ويا أيها الذي؟" الا نقف عي خفايا نسيبى لغوي متين يصنع عمارة ايقاعية متينة ؟

وفي هذه المجموعة الثامنة جاهد سليم بركات للقفز فوق ظله، وجاهد لاستفزاز القراءة التي تقتفي الظل، فنجح مرارا وعلى نحو جدلي يسجل في رصيده، حتى حين كانت المشقة شرطا محتوما، قبيل وأثناء وفي اعقاب القراءة، والارجح أن القاريء، من جهته سيجاهد هنا وهناك دون أن يضل طريقه الى سليم بركات، وسيسجل ذلك في صالح دينامية متبادلة تبلغ أوجها في تلك البرهة الكثيفة من التصالح الانساني والجمال والتعبير بين الشاعر والظل صحبة الموت !*

-4-

الشكل المفتوح كان أحد أبرز الاستراتيجيات الأسلوبية التي استقر عليها سليم بركات، من أجل استفزاز القراءة والمجاهدة لتطوير شروطها في آن معا. ومنذ قصيدته الناضجة المبكرة "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة" أتيح لنا أن نقرأ ما يلي:

1-

دينوكا

ماذا أقول للصيادين الذين يضعون سروجا فوق ظهور الكلاب السلوقية في سفح سنجار وجبال عبدالعزيز؟ أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمين التراب ومزاود النعاج. كبيرة أنت، بليلة، مسكونة بالحصاد وبي.أسمع والدك يصيح: دينوكا.. اسمع والدتك تصيح: "دينوكا، احملي خبز الشعير هذا الى المهاجرين وقولي أن يستريحوا قليلا".

كان عددهم يزداد يوما بعد يوم.. من طشقند وخورستان وأرمينيا والجنوب الغربي لروسيا حملوا أشرعتهم وصرر السرخس الى الجزيرة بلا أحذية أو مناجل. وكنت صغيرة لم تدركي أنهم *يحتاجون الى الماء والى امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيدا في شقوق البراري لتنبت في سني الهجرات عدسا وجنادب. أنت تجهلين كيف يعتليء الاخدود بين "عامودا" و "موسيسانا" بجثث البغال والأعضاء المبتورة. تجهلين من أين يحصل البدو على بنادق فرنسية، ولماذا ينتفخون على تخوم القرى حين يهجمون عاصبين رؤوسهم بعباءاتهم. قيل: خرجت من جهة العراء، وخرجت "بريقا" من جهة العراء،، وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة السراي. وقيل إنك عدت بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخر كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول.

دينوكا.. دينوكا

أنا متعب، ولا أسمع صوتك حيث أرى هضاب

"معيريكا" وعربات الأكراد المحملة بالقش".

2-

أنا خلفك يا ابنة أيامي الزانية

أدعو ورق العناب الى حيرة شعب: "خف الى

ضاحيتي

يا ورق العناب بسوريا". عجل الله، أنا مشغول

بدخان يعصمني من حرية

أجيال تقتنص الأجيال، مداي سروج وعجاج

أقترح اسما آخر فيه لمائي

وأصاحب ثدييات العصر الى بهو سمندله

وخزاماه.

3-

أخرج من أعرافي ودياري جنديا من جند الوثنيين

وأخرج مرتزقا بالنحل الى أزهار الغرباء

فليكن الموت إذن ملء تراباتي

ولكن النهر رسول الاعدام، أواكبه حتى مسجد

آبائي بالأنباء

وأنا السابح في الياقوت المغلق والأيام المغلقة

أنهال على لغة الأحلام العامة بالطعنات، وأجعل

وجه الأطلنطي

شرفة موسمة تتهيأ للقافلة الشبحية

وأخلى جسدي السفلي يسوح بمزرعة تتشابك فيها

الدمعة والسوسنة

وأخلي لنداماي مسارب حول ضفاف الأبدية (7).

في النمط ( 1) تبدو الخصائص الموسيقية الكامنة على نحو موروث في اللغة الطبيعية وكأنها تنشل وتستفق على أفضل وجوهها إذا عملت جنبا الى جنب مع بعض أنواع المعني (ولاسيما المعنى الاسطوري) لتحقيق الاستقطاب الشعري. علاقة كهذه هي، في حقيقتها، خلخلة أو إعادة صناعة للشيفرة أو جملة الشيفرات التي تحملها المفردة المستقلة، والتي تزيغ أو تغتني أو تنفجر عند تواشجها مع مفردة ثانية. وتلاعنه هذه الاوالية في أمثلة من نوع: "يحتاجون الى الماء والى امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيدا في شقوق البراري لتنبت في سني الهجرات عدسا وجنادب"، أو: "أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة تشمين التراب ومزاود النعاج، كبيرة أنت، بليلة مسكونة بالحصاد وبي"، أو: "حملوا أشرعتهم وصرر السرخس".

من جهة ثانية يقوم تنظيم الفقرة في ثلاثة أنساق تكاملية (المشهد المكاني، المشهد الاستعاري، المشهد المكاني - الاستعاري) وشبه متساوية في تركيبها النحوي المضغوط، يقوم باستنباط عمارته الايقاعية الخاصة سواء في التلاوة أو في القراءة الصامتة. وشعر سليم بركات زاخر بهذه العلاقة بين التراكيب الشكلية في اللغة خصوصا وأن المفردات والعبارات تمتلك ميلا طبيعيا للاصطفاف في أنساق ايقاعية - دلالية ذات شخصية تكاملية، كما في نموذج الدور الايقاعي والدلالي الذي تلعبه مفردة "قيل" في المثال التالي: "قيل: خرجت من جهة العراء وخرجت "بريفا" من جهة العراء، ومن جهة العراء خرج"... " وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة اسراي. وقيل إنك عدت بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخر كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول.

النمط (2) يعتمد التفعيلة، لكنه يكسر نظام التقطيع الشعري، ويستكمل تفتيت حدود اللغة الشعرية /النثرية بالنهوض على الدرجة صغر من المجاز (حتى تكاد الاستعارة تختفي نهائيا)، فيبدو سليم بركات أشبه بمن يثأر لطغيان الايقاع على النثر الطبيعي بتغييب أوالية التواشج بينهما، كما تبدت في النمط ( 1). لعبته، هنا، محفوفة بالمخافر، إذ أن المجاز هو حقل لقاء شعرية اللغة الطبيعية بالمخيلة، الى درجة تجعل المجاز لا يأخذ شكل غطاء اللغة بل شكل تجسيدها وكشف مغاليقها. بعبارة أخرى، الاستعارة فكر الشاعر الفعلي وليست مجرد تقنية إبدال تدعم الاسلوب، وهي تمرينه الخلاق الذي يلزمه بالغوص عميقا في - وبعيدا عن - سطح الواقع الذي رسمت اللغة مفاصله وخرائطه عن طريق المصطلح والكليشيه.

ومنذ قصائده الأولى المبكرة برهن سليم بركات عي مراس رفيع في استخدام الاستعارة، وفي حجبها تماما حين يتقصد تحقيق أغراض فنية خاصة بينها تلك الدرجة صفر من الاعتماد على المجاز. ففي مثال النمط (2) يكون التعويض الاول عن درجة الصفر المجازية لـ "حيرة شعب" و " حرية أجيال" أو حتى "مداي سروج وعجاج" هو التخطيط الايقاعي المشدود، للمقطع بصفة عامة، والتخطيطات الثانوية المتلاحقة لأية عبارة تنتهي بعلامة وقف أو تشكيل إلزامي ناف للتسكين بصفة خاصة (الكسرة في "الزانية" و"السنبلة" بهدف التقفية والربط الموسيقي مع "ضاحيتي"). أما التعويض الثاني فهو العلائق التصويرية البصرية بين المدى والسروج والعجاج، وثدييات العصر في بهو وسمندل وخزامى الماء.

النمط (3) ينطلق من مسلمة الشعر الكبرى: الموسيقى التي تتيح للشاعر أن يقوم بما هو أكثر وأشد تعقيدا من نقل الرسالة، الأمر الذي قد يغريه بنسيان الرسالة ذاتها والانجرار خلف الايقاع اللفظي من أجل الايقاع اللفظي كفاية قصوى بذاتها. ومن اللافت أن سليم بركات برهن على سيطرة مدهشة على شدة وخفرت الايقاع في المقطع القصير عظما في ذاك الطويل، أو على امتداد القصيدة بأسرها. ولم تكن تلك السيطرة مبكرة بالقياس الى سنه آنذاك ( 21 عاما)، بل كانت متفوقة تماما بالقياس الى مجايليه من الشعراء وبالقياس أيضا الى عدد لا بأس به من أولئك الذين يكبرونه سنا وتجربة.

فيما بعد سوف يقدم بركات مئات التنويعات على هذا النمط الثالث تحديدا، وسوف يطور تقنيات بالغة التعقيد في مضمار التزويج الناجح للعلاقات الدلالية والعلاقات الموسيقية، أو تلك الكيمياء الصوتية الساحرة التي حاول أبو حيان التوحيدي استكشاف قوانينها الغامضة. وفي المثال التالي من قصيدة "قلق في الذهب". مجموعة "بالشباك ذاتها.."، يكشف بركات عن الكثير من مفاتيح واحدة من بصماته الأسلوبية الأثيرة:

أي قنص هوت وعول فبددت بعضي أسى على

وعدت

كي أراني، هنا في ظريف من الحطام، أو ثقل ليس

يروي وإن رواه الرماد،

كي أراني رفيقا من المراثي إذا يرف منها الجناح والبعد

بي ينقاد

أي قنص؟ سيذرف الليل قلبي الى الصباح. ويخفي

الأليف عني الجمشت

فرهين المشاع إني مطوق باللهاث الخفيف للماء، والحي

حولي حصاد

والفضاء أسر، فعد بي يا قلب، عد بي الى مشاغل

الريح حيث المكيدة حبر، وروحي نساء يداهمن من

حواري المغيب هذا العراء. (8)

الصوت هذا يتنقل بين القول والغناء، وتدخل الكلمات في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (ظريف من الحطام، رفيف من المراثي)، وفي تناظرات صوتية حادة تارة وطلية طورا، تناغم في التواتر الهندسي لحروف العين (في السطر الأول) والراء (في السطر الثاني) والحاء (في السطور الثلاثة الأخيرة). والحال إن ضمير المتكلم يلعب هنا دورا شديد الأهمية في استكمال ألعاب العلاقة بين الوقع الدلالي والوقع الموسيقي، لأن القاريء إنما يزج بنفسه في هذه الشبكات من "تشريد" المعنى، ويمارس نوعا ذاتيا من إقصاء خطوط الاستقبال الواعية - الاصطلاحية للألفاظ والمعاني والدلالات والايقاعات، القاريء، بالقدر ذاته، يدفع بنفسه الى ذلك المستوى السحري الخام للغة، حيث تصاغ العلاقة مع المعنى بعيدا تماما عن الكليشيه، وفي قلب تشكيلات استعارية غير مألوفة لضمير المتكلم وهو يلقى في قلب مواجهات غير مألوفة بين العناصر والأشياء والأزمنة رماد يروي، ليل يذرف القلب، جمشت يخفى الأليف، حبر مكيدة حي حصاد..


---------------------------------------------------------------------

******* ******* E-mail: info@amude.de