عرض مشاركة واحدة
قديم 02-26-2016, 04:12 PM
المشاركة 25
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
يوتوبيا سليم بركات الضالة
2006/09/29

أمجد ناصر
بصدور روايته موتي مبتدئون (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ 2006) يكون في حوزة سليم بركات ثلاث عشرة رواية، مقابل اثنتي عشرة مجموعة شعرية، واذا أخذنا في الاعتبار ان اعماله الاربعة الاولي كانت في الشعر، ترجح عنده، والحال، كفة الرواية علي كفة الشعر.
ولكن هذه ليست قسمة صحيحة.
ولا هذا التصنيف الاجناسي الخارجي يرسم حدودا قاطعة بين الشعر والسرد.
اذ ان كلمة (شعر) لا تعني غياب (النثر) او (السرد) اللذين هما (عمود) الكتابة الروائية، كما ان كلمة (رواية) لا تعني غياب الصور والمجاز والكثافة اللغوية، وهذه، تقليديا، من عدة الشعر.
تصنيفات كهذه لا تشفي غليلا في اقامة الفوارق بين (سرد) سليم بركات وشعره، فمن شأن هذه الكتابة، ككل كتابة، (وتحديدا كتابة سليم بركات) ان تخترق القواعد الاجناسية المتعارف عليها صانعة مجالا تعبيريا لا تلم به محددات اكاديمية جاهزة.
منذ البداية كان واضحا ان لسليم بركات عالما خاصا.
دليل ذلك موضوعاته، لغته، تدفقه، المجري العريض الذي تشقه الكتابة.
ومنذ ان اصدر كتابه (السيري) الاول الجندب الحديدي كان واضحا، ايضا، ميله الي سرد مكثف لا يخفي شغفه بالحكاية ولكنه لا يعول عليها تماما، فالحكاية، هنا، مضفورة باللغة المنحوتة الهادرة والمجازات المتصادمة التي تصدر عن مخيلة جامحة.
تساءلنا عندما اصدر سليم بركات (سيرة) طفولته في الشمال السوري عن السبب الذي يدفع شابا في مطلع الثلاثينات من عمره الي كتابة سيرة، وهو الجنس الادبي الذي يكون، عادة، نهاية مطاف الكتابة وليس مستهلها، ولم نكن نعرف ان من هذا الكتاب (وربما من كتاب ابكر بعنوان كنيسة المحارب لم يدرجه سليم بين اعماله) سيطلع الروائي الكامن فيه، وستتناسل منه سلسلة متشعبة من الروايات.
لم يكن عالم السيرة (الجندب الحديدي) مختلفا عن عالم اعماله الشعرية الصادرة حتي ذلك الوقت، إذ ان الاثنين يؤلفان اسطورتهما من نفس البقعة الجغرافية التي لم تغادرها، حسب زعمي، معظم اعماله اللاحقة.
وليس في هذا الحصر المكاني قدح ولا تقليل من ضخامة منجزه الابداعي، فأسطورة الشمال التي الفها سليم بركات لها مواصفات التراجيديا الكاملة من حيث توافرها علي ابطال مأسويين واقدار عنيدة ونهايات فاجعة: تلك هي القضية الكردية وجغرافيتها الممزقة.
وهذا يعني ان سليم بركات كاتب تراجيديا وليس كاتب قضية بالمعني السياسي اليومي الذي يختصر المحنة المقيمة بالشعارات والبرامج المتقلبة.
ليس لـ(الشمال)، في ادبنا العربي (او المكتوب بالعربية) هذا الوقع الذي يقدح عزلة ونفيا وبردا واشواقا لا تحقق كما هو عند سليم بركات، حتي صار (الشمال) عالما مخصوصا وليس جهة او صوبا.
المفارقة ان عددا كبيرا من الكتاب العرب هم من جنوب بلادهم (مثل المصريين واللبنانيين والعراقيين) غير ان الجنوب لم يتحول، عندهم، حسب علمي، الي عالم قائم بذاته كما هو (الشمال) عند سليم بركات، استثني من ذلك محمد خضير كاتب البصرة وصانع اسطورتها.
وفي سياق تحول الجهة الي عالم ومعني ودلالة يقفز الي اذهاننا مباشرة وليم فوكنر الذي جعل (الجنوب) الامريكي رمزا للعزلة والتحلل التدريجي، وذلك مثل رائد لسنا بصصده الآن.
هكذا، اذن، تتضخم مدونة سليم بركات الروائية، لتفوق منجزه الشعري وتلتهمه وتتمثله في هديرها اللغوي وصورها الرعوية وحوارياتها الناطقة بغريزة الماء والطين، تماما مثلما هم عليه شخوص رواياته من شهية كاسرة لالتهام كائنات اللحم المسكينة التي تدب امامهم او تطير، لسوء حظها، في فضاء قنصهم الذي لا يرحم.
وبتوطد منفي سليم بركات تزداد ضراوة اعماله ووعورتها، وإذ لا يحفل كاتب المنفي الكبير هذا بأي سياق او دُرجة ادبية، لا تأخذه، كذلك، شفقة بقرائه الذين لا يعلم في اي ارض يقيمون، اللهم سوي في خلاء العربية الواسع الذي استنبط منه بركات، صياد المعاني المتمنعة، مفازته الخاصة وجعلها ميدان رمايته، فأمعن في امتحان صبرهم علي مواصلة طريق موحشة يأنس فيها الانسان الي الوحش اكثر من استئناسه بمن هم علي صورته البشرية.
كنا، مع اولي رواياته، نعرف اين نضع خطانا، كانت اسماء العلم المعروفة تدلنا علي ارض شخوصه النافرين ومصائرهم المسنونة علي حجر صوان، ولكننا شيئا فشيئا رحنا نفقد طرف الخيط، وتنقطع بنا السبل علي نحو ملغز ومحير.
لم يعد العالم معروفا ولا الطرق اليه معلومة، فعندما تضع خطوة اولي علي طريق البحث عن الكنه والماهية والاصل تلج هذه المتاهة المتشعبة التي لا يخرج منها داخلها.
لم تعد الحكاية طريقا ولا (الثيمة الكردية) التي استأنسنا بها في خطوتنا الاولي معه صالحة لوصف اعماله المتراكبة طبقا فوق طبق، ولا بقي (الشمال) استعارتها السهلة، بل ان البشر ليسوا دائما اهلا للبطولة او الحكمة أو اجتراح التواصل الشقي، إذ يمكن لمملكة الحيوان والطبيعة ان تبزا الانسان في هذا الصنيع، من دون ان يشكل ذلك مجازا ركيكا او درسا او موعظة من اي نوع، كأن ذلك هدم لصروح وامثولات ملفقة صنعها التنطع البشري ورمي عليها اقنعة من (التحضر) أوهي من نسيج العنكبوت، كأن ذلك ضرب من (بدائية) تلتزم، علي نحو اخلاقي صارم، بالقوانين الاولي المؤسسة: القوة والضعف، الجوع والشبع، الشره والكفاية، الشوق والوصل، الممكن والمستحيل.
باختصار، كأن ذلك الصنيع عود بالاشياء الي اصلها: العزلة الحرون المقيمة حتي في ما يبدو موضع اجتماع واشتراك.
من يريد الوقوف علي الفرق والاختلاف، في المدونة الشعرية والروائية الشاسعة لسليم بركات، سيجدهما، سيري اللغة والاشكال وهي تتدرج من البسيط الي المعقد، والعالم من الواقعي المألوف (نسبيا) الي الغريب المجترح بمخيلة مسننة، ومن العضوية المفرطة الي التأمل في الكنه والماهية، ولكني ازعم، مع ذلك، ان التشابه (ان لم اقل الوحدة) هو الذي يطبع عالمه في جوهره المنطوي علي جمرة وجوده الحائر.
تنطلق كتابات سليم بركات من بؤرة واحدة ثم تروح تنداح كأمواج تتباعد عن المركز، لكن صلتها، في ظني، لا تنقطع عن اصلها المؤسس.
البداية، كما اسلفت، في تلك البقعة الصغيرة من الشمال السوري حيث يستبطن (الموضوع الكردي) فكرته عن نفسه وفكرته عن عالمه المحيط وتتصاعد اناته مع النفث المتواصل للدخان من صدور منخورة بالتبغ والاشواق، سنري، في هذا البدء، جغرافيا وحيوات مرصعة بأسماء علم معلومة او مجهولة من لدننا، لكنها اسماء علم واقعية لا غرابة فيها سوي جهلنا بها، كجهلنا في أمر محنتها نفسه، ثم تأخذ الاعمال اللاحقة في توسيع اطارها (لبنان، قبرص، وربما السويد) فتحل اسماء محل اسماء ومشاهد محل مشاهد ولكنها، حسب ظني، ليست سوي اقنعة للاسماء والمشاهد الاولي.
تحسب الكتابة انها غادرت تلك البؤرة ولكنها لم تفعل أكثر من تذرية عالمها وغربلته وتصفيته للوصول الي فكرته، أو المجرد فيه، رغم تسلحها بالعناصر الحسية ثقيلة الوطء.
اعود الي فكرة (المعني)، لأقول انها الأصل في كتابة سليم بركات حتي عندما لا يبدو الأمر كذلك، او حتي عندما تبدو الكتابة مجرد تمارين لهو شاقة، ما يجعلني اعتقد انها تتخذ من (الثيمة الكردية) استعارة لسؤال الانسان عن معني وجوده.. وفشله الذريع في اقامة مثاله علي الارض.

القدس العربي