عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
1120
 
هشام اجران
من آل منابر ثقافية

هشام اجران is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
40

+التقييم
0.03

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة
اكادير

رقم العضوية
16511
01-19-2021, 11:09 PM
المشاركة 1
01-19-2021, 11:09 PM
المشاركة 1
افتراضي قصة قصيرة: من خطف القمر؟
-قصة بعنوان: من خطف القمر؟
- ماهو حلمكم المستقبلي؟ ماذا تتمنون أن تصيروا في المستقبل؟
.الحلم؟ المستقبل؟ الأمنيات؟ النجاح؟...كلها عبارات لا يؤمن بها واقع قاس، يجثم بقسوته على القلوب والأنفس، ويترك جراحه الغائرة على الوجوه والقسمات، وعلى الأجساد الضعيفة المتهالكة.
أيقظتني أصواتهم الملآى حماسة وبراءة، وأنقذتني من صراع داخلي، كلما بدأته، إلا وانهزمت فيه واستسلمت..
- أستاذ... أستاااذ... !
أشرت بيدي أطالبهم بالصمت والاكتفاء برفع أصابعهم، فساد سكون لذيذ، بعث في نفسي قدرا كبيرا من الارتياح، وإحساسا جميلا بنشوته.
تمايلت الأصابع أمامي، وتحرك بعضها في حدة، وعلت الوجوه فرحة طفولية، وبدا على العيون بريق العزم والإصرار..
- سأمنح الجميع فرصة الجواب، لنبدأ من الصف الأول، تفضل يا (أحمد)، ماهو حلمك؟
- سأصير فقيها يا أستاذ.
سرت همهمات بين التلاميذ، سرعان ما تحولت لكلمات واضحة، كان الأمر أشبه باحتجاج، فقد سرق (أحمد) حلم الكثيرين، وضيع عليهم لذة التفرد بالتعبير عنه...تقدم التلاميذ تباعا، ولم تخرج دائرة الأحلام والأمنيات عن رغبتين: فقيه، وفلاح.
- طبيبة...أتمنى أن أصبح طبيبة يا أستاذ.
كان صوتا عالي النبرة، مميز النغمة، فصيح الإلقاء، ومثيرا للانتباه..
- (عائشة) طبيبة المستقبل. صفقوا لها.
تعالت الصيحات، وتوالت التصفيقات. كانوا يجدون متعة كبيرة في التصفيق، تتناغم أجسادهم مع أياديهم وملامح وجوههم لتكون لوحة سريالية غريبة الفهم.
طالبتهم بالتوقف عن التصفيق، وسألت (عائشة) التلميذة النجيبة، التي تفيض حيوية وذكاء: لماذا تحلمين أن تصيري طبيبة؟
- لأن في قريتي كثيرا من المرضى، لكنهم لا يجدون من يعالجهم.
تذهلني فصاحتها، وتدهشني جرأتها، وقدرتها على المواجهة، وردة فعلها المتميزة في جميع الظروف..طفلة في ربيعها الثاني عشر، تحمل هموم بلدتها البائسة على عاتقها،
- أتمنى لكم مستقبلا مشرقا. اهتموا بدراستكم، وتسلحوا بالصبر والعزيمة والإيمان، فبإمكانكم تحقيق كل الأمنيات. ليوفقكم الله تعالى.
كلما حدثهم عن الأمل والإرادة والعزيمة، إلا وساد سكون رهيب. سكون لا يشعرني بالراحة، وإنما يرعبني .نظراتهم تخيفني، وفهمهم يؤرقني، ومشاعر الحب والتقدير لشخصي كلما حدثهم عن تحقيق الأحلام، تحملني عبئا ثقيلا أنوء بحمله.
- أستاذ..(فاطمة) غيرت رأيها، تريد أن تصبح أستاذة.
- أنا أيضا، أحلم أن أصير جنديا.
- أنا طبيب.
- مهندسة... !
- محامي... !
- مدير... !
- ممرضة... !
توالت الصيحات من جديد، وعلا معها سقف الأماني. تركتهم في غمرة نشوتهم متحملا صخبهم، لن أكون جلادا وأقتل أحلامهم وهي في مهدها، فلطالما آمنت بأن مهمتي أن أكون ملهما، لا معلما.
نظرت لساعتي، تجاوزنا وقت الخروج بعشر دقائق، لم أنتبه لذلك ولا من ينبهني.
- سنكمل حديثنا غذا إن شاء الله. يمكنكم الانصراف.
هرولت الأجساد الصغيرة نحوي، مددت يدي لأياد متلهفة، وحاولت سحبها لأمنعهم من تقبيلها، لكن إصرارهم وتمسكهم بيدي، جعلني أنهزم من جديد.
خرجت، متوجها لحجرتي البئيسة، ترافقني (عائشة) تلميذتي النجيبة، تلك عادتها، مادام طريقنا واحد. جماعة من النساء قادمة نحونا، انحنت أجسادهن للأمام بفعل أكوام الحطب التي يحملونها، يافعات وشابات وطاعنات في السن، الكل يشترك ويشارك في مسلسل معاناة لا ينتهي. وعلى جنبات الطريق، استند رجال على جدران بيوت طينية متهالكة، متدثرين بجلابيبهم الصوفية الثقيلة، يدخنون سجائر رخيصة بلذة واضحة، ويتبادلون أحاديث سرعان ماتتلوها ضحكات صافية.
نظرت لساعتي من جديد، أمامي النهار بطوله. الوقت هنا يمر ببطء قاتل، والملل يخنق أنفاسي، ورتابة الحياة التي أعيشها تقتلني ببطء أشد.
أحن كثيرا لقهوتي الصباحية مع أمي، ولجلستي المسائية مع الرفاق والأصدقاء، وأشتاق لنظرات العشق من جارتي السمراء..أشتاق للكثير من الأشياء، لمدينتي، للأصوات الصاخبة، لزحمة الشوارع والأسواق، لبائع الجرائد وابتسامته، لنادل المقهى وطيبوبته...لم أحلم يوما أن أتواجد هنا وأنا في ريعان الشباب..كانت أحلامي جميلة، مثالية، وردية..لكنها اليوم اتشحت بالسواد.
- إلى اللقاء أستاذ.
ربت على رأس (عائشة)، وخاطبتها بلطف: إلى اللقاء يا طبيبة المستقبل.
ضحكت بمرح، وانطلقت مسرعة نحو بيتها الصغير والمتواضع. تابعتها بنظري حتى توارى جسدها خلف الباب الخشبي المتهالك.
كلماتها الأخيرة ترن في أذني:"طبيبة المستقبل.."، الحلم؟ المستقبل؟ الأمنيات؟ الأمل؟ العزيمة؟.
توقفت امرأة أمامي، لم تكن طاعنة في السن، لكن المعاناة رسمت على وجهها تجاعيد امرأة عجوز، وضعت حملها على الأرض، وبصعوبة عدلت قامتها، واجهتني عيون متعبة، وقسمات قد سكنها الألم. لم تسعفها أنفاسها اللاهثة في الحديث بسلاسة، فخرجت كلماتها متقطعة: أسأل الله أن يعينك. أخبرتني ابنتي (عائشة) أنك معلم جيد.
- لا أقوم سوى بواجبي يا سيدتي. (عائشة)، تلميذة مجدة، وأتمنى لها كل التوفيق.
- هذا عامها الدراسي الأخير، أحتاج لمن يساعدني، وأبوها لن يقبل أن تكمل تعليمها..الإعدادية بعيدة جدا، وكل الفتيات لا يكملن دراستهن..أعانك الله.
أكملت طريقها، بنفس الخطوات المتعبة، وانحناءة الظهر المؤلمة. صورتها تتراءى أمامي، بين التجاعيد والقسمات البائسة،أرى وجوه تلميذاتي، وفي الضحكات والأحاديث ورائي أسمع صوت تلاميذي..
ما بال بذور الحلم كلما أنبتت، إلا وداستها أقدام الواقع. أقدام غليظة، همجية، تخبط خبط عشواء، وتفعل فعلها فينا...ما بال القمر قد هجر سماءنا، وترك الظلام يؤرقنا ويخيفنا؟
صراع رهيب بداخلي، وأعلم أني سأنهزم من جديد، وربما للأبد.