عرض مشاركة واحدة
قديم 04-15-2012, 02:27 PM
المشاركة 424
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الكتابة والذاكرة
رضوى عاشور

لا أذكر المرة الأولى التي زرت فيها أهرام الجيزة. أرجّح أنني كنت صغيرة جدا، ولكني أذكر زيارتي الأولى لمعابد الكرنك والأقصر ووادي الملوك والملكات، في صعيد مصر. كنت في الخامسة عشرة من عمري. تأملت الجدران والنقش والكتابة، وانتبهت إلى ذلك التداخل المدهش بين تدوين التاريخ وإبداع الجمال، أظنني انتبهت أيضا إلى غياب الحدود الفاصلة بين مفردات الواقع والمتخيَّل الأسطوري.
لاحقا وأنا طالبة في جامعة القاهرة أتردد على دار الكتب المصرية في موقعها القديم بباب الخلق، كنت أتوقف أمام مخطوطات المصاحف النادرة المعروضة في الممرات المؤدية إلى قاعات الإطلاع، أتأملها، وأتأمل تلك الحرفة المزدوجة في تراث النسخ الإسلامي التي تجمع بين النقل وإبداع الجديد، بين التزامٍ بحرفية نص (هو في هذه الحالة نص مقدس) وحرية الفنان في التعبير عن ذاته، بين الإيفاء بالشرط العملي والشرط الفني كأنهما شرط واحد.
هي لحظات في الطفولة والصبا احتضنت البذور الأولى لرغبة تلّح في التدوين والتسجيل. دغل جغرافي له رنين، مزيج مركب من زمان ومكان، ماض وحاضر، حيِّز مادي وروحي تختبر فيه الذات نفسها لتتعرف على موقعها، وشروط وجودها، وطاقاتها النفسية والأخلاقية.
أعتقد أن الانتباه الحاد للزمان والمكان، وإلحاح الحاجة للتسجيل عناصر مميِّزة للروائيين العرب لأبناء جيلي من الكتاب.
ولدت عام 1946، أي بعد عام واحد من نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل عامين من هزيمة العرب في حرب فلسطين. لا أؤرخ الآن لحياتي ولكنني أشير إلى أن السنوات الممتدة من احتلال الساحل الفلسطيني عامي 1947-1948 إلى احتلال بغداد عام 2003 والمجازر اليومية في الحالتين تشكّل كل سنوات عمري. أنتبه الآن إلى أن كافة نصوصي الروائية هي محاولة للتعامل مع الهزيمة. كنت في العاشرة من عمري حين هاجم الإنجليز والفرنسيون والإسرائيليون مصر عام1956 . وكنت في الحادية والعشرين حين اندلعت الحرب من جديد. أعي أن أبناء جيلي من طلاب الكلية الحربية والفنية العسكرية الذين انتقلوا ذات صباح من مقاعد الدرس إلى ساحات القتال، استقر أكثرهم هناك تحت رمال الصحراء في سيناء. إن حرب 1967 وما تلاها من ملمّات جعلتنا نعي بحدة أن التاريخ لا يقتصر على سجلات الماضي ومدوَّناته بل يمتد ليشمل واقعنا المعيش ويلازمنا بشكل يومي: حروب متتالية، مجازر، هزائم، قمع وقهر، ودائما، أمان مفتقد وإرادة منفية في ظل واقع قابض نجاهد لفهمه، ونحلم بتملكه.
"هذه العاصفة في عقلي تعطِّل حواسي من كل ما عداها من مشاعر سوى ما ينبض فيها". يقول الملك لير، وأنا أقول مع الناظر الذي أشاركه النظر، في روايتي "قطعة من أوروبا":
"لم أعو عواء الملك في العاصفة. كنت مجرد ناظر ينتهي من عمله ويعود إلى منزله ليتابع العاصفة. يشاهد كرات اللهب والدخان على شاشة، يسمع دمدمة القذائف لا الريح، وسقوط القنابل الذكية والأقل ذكاء على شط العرب. يلتف بعباءته الصوفية كأنها كفن…(ولكنني) عشت، أقصد استيقظت في الصباح وقلت صباح خير…، وارتديت ملابسي…، اليوم وغدا والغد الذي تلاه، يوما بعد يوم بعد يوم، كل يوم، حتى تلقفتني عاصفة تالية وعاصفة أخرى بعدها. شاهدت التوابيت مصفوفة صفا طويلا لا تحيط به عدسة المصور إلا عن بعد، وآلاف الرجال المحتشدين في الملعب البلدي يقيمون صلاة الجنازة، يتحرك الموكب في قيظ غريب على يوم ربيعي. الأكفان محمولة على أكف الرجال، يقطعون الطريق من الملعب الكبير إلى المقبرة: مستطيلات محفورة في عمق الأرض، متلاصقة، متطابقة، متساندة، وتنتظر.(…) قلت: لن أرى مشهدا أكثر حزنا وجنونا. ولكني كثيرا ما أخطئ التقدير، عشت لأرى جثثا في أدراج ثلاجة، في كل درج جثتين، ومسيرات من أعلام وبشر يحملون جثامين جديدة كل يوم، وسيارات نقل كبيرة كتلك التي يكتظ على ظهرها عمال التراحيل أو الأطفال الذاهبين لجني القطن، أو حتى جنود الأمن بعد تلقيهم الأمر بالتوجه لقمع مظاهرة، تصطف في كل سيارة نقل منها الأكفان، كفن لصق كفن، أبيض لصق أبيض.
أين لير من تلك العواصف؟ هل تبادلني أيها الملك المسرحي حياة بحياة؟
اعطني جحود ابنتيك، وخذ بحر البقر وشاتيلا والعامرية وقانا وجنين.
لا لن أعطيها لك، هذه حكايتي! اذهب بعيدا يا ملك المسرح، لم تعرف من الألم شيئا، والمعلّق على الصليب حكاية من إنتاجنا المحلي."
"ترخ" دائما"، العبارة لبرتولد بريخت. وأنا أفعل ليس لأسباب إيديولوجية بل ضرورةً واحتياجاَ فلا سبيل أمامي لإدراك تجربتي وتصنيف مفرداتها بشكل مفهوم سوى هذا السبيل. أتوقف أمام عبارة "مفهوم"، وأتساءل عن دقتها لأن المسعى في مجمله ليس سوى محاولة للوصول إلى معنى متسق، يراوغني غالبا ويظل ناقصا، فأواصل فعل الكتابة لعل التفكيك والتركيب ينفعني في الوصول إلى معنى ما، في تجاوز جنون ما، لعل الكلمات تمكنني من التعامل مع جغرافيا مهدَّدة وتاريخ مهدِّد.
أعتقد أن إلحاح الحاجة للتسجيل يرجع أيضا إلى وعي حاد بما تعرضت له ذاكرتنا الجماعية، وما زالت تتعرض له، من قصف يومي عنيف- ذاكرتنا القريبة لا البعيدة- ذاكرة ما عشناه قبل سنوات معدودة، أو قبل ساعة واحدة، قصف يومي بلغة وصفها جورج أورويل ذات يوم بأنها مصمّمة لإلباس الأكاذيب ثوب الحقائق، والقتل ثوب الاحترام، وتقديم الهواء بصفته مادة صلبة.
هل أردنا أن يكون نصنا حافظة للذاكرة؟ أعتقد أن ذلك كان جزءا من مشروعنا. أستدرك فأشير إلى أننا في ذلك تحديدا كنا نتواصل مع الأجيال السابقة علينا. وهنا أفتح قوسا وأقول إن الرواية العربية بدءا من حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي قامت بدور مباشر أو غير مباشر بهذا الدور، فكان الروائي حكّاءاً ومؤرخاً يدوِّن ملامح الواقع التاريخي ويطرح أسئلته. ويصعب في تقديري تناول نشأة الرواية العربية غافلين عن علاقتها بأسئلة التحرر الوطني ومشروع النهضة. إن الرواية العربية التي نشأت في إطار مسعى الجماعة لاستنقاذ إرادتها من وجود استعماري- هو بتعريفه الأوّلي كسر وإعاقة للنمو الطبيعي للجماعة وتطورها- بقيت وفية لمنشئها وقد تجدد النفي القديم بأشكال مستجدة. وإذ تتالت الانكسارات والهزائم وخاب المسعى، تكاثرت الأسئلة: لماذا وكيف وإلى أين؟ أسئلة تثقل الوجدان العربي وتسري في النصوص وتسعى لفهم الحكاية وتؤرخ لوجدان الأمة بقدر ما تلتقط من أبعاد السؤال.
ولكن ما الذي أضافه جيلنا؟ في تصوري، يمكن تلخيص هذه الإضافة في نقطتين: أولهما، إعادة تقسيم الحيِّز الاجتماعي؛ وهنا أستأنس بما قاله إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والامبريالية حيث يقول: " إن الاستحواذ على التاريخ، والقبض على الماضي بوصفه تاريخا، وتحويل المجتمع إلى رواية تُحكى، وكلها عناصر تعطي الرواية قوتها، يتضمن أيضا السيطرة على الحيِّز الاجتماعي وتقسيمه وتصنيفه، بما يجعل هذا الحيِّز يخدم أغراضا اجتماعية". وما دمنا لا نقدم دراسة نقدية بل نطرح فكرة من أفكار هذه الشهادة يمكننا الإشارة سريعا إلى أن تقسيم توفيق الحكيم مثلا للحيِّز الاجتماعي في عودة الروح حيث "الكل في واحد"، وتقسيم نجيب محفوظ لنفس هذا الحيِّز في ثلاثيته التي تؤرخ لمسيرة الطبقة الوسطى في النصف الأول من القرن العشرين وتمجد الوحدة الوطنية متمثلة في ثورة 1919، يختلف اختلافا بينا عن تناول عبد الرحمن منيف وصنع الله ابراهيم وبهاء طاهر وإلياس خوري وهدى بركات على سبيل المثال وليس الحصر. في نصوص هذا الجيل الذي عاش الهامش بأشكال مختلفة إعادة تصنيف للحيِّز الاجتماعي، وإفساح لمساحات القهر والمنفى والصمت لتدخل إلى متن الرواية العربية. ولم يكن ذلك، في تقديري، مجرد خيار إيديولوجي بل كان انعكاسا لعلاقة إشكالية مركبة بالواقع الاجتماعي عبرت عن نفسها في المشروع الإجمالي للكتابة وفي تفاصيله التقنية: هوية الراوي، نبرة الصوت الذي يحكي، رسم الشخصيات، بنية الرواية وتعاملها مع الزمن، ولغتها التي تتحدى الخطاب السائد بالجملة المقتصدة والدقة الحذرة. لا مجال هنا للنشيد، والصوت المجلجل. إنه عالم "مالك الحزين" (ولا أشير هنا إلى رواية إبراهيم أصلان وحدها التي تحمل هذا العنوان، بل إلى إنتاج جيل بأكمله، وإن كنت أقتبس العبارة التي صدَّر أصلان بها روايته فأوردها تحت العنوان مباشرة: "لأنهم زعموا أنك تقعد بالقرب من مياه الجداول والغدران فإذا جفّت أو غاضت استولى عليك الأسى، وبقيت صامتا هكذا وحزينا". إنه صوت الهامش المقموع يلتقطه كتاب الجيل كل بأسلوبه.
ii
تشغلني فكرة العلاقة بين الهامش والمتن، ويستهويني تأمل كتب التراث حيث النص الأصلي مدوّن في الجوانب في سطور معدودة غالبا، في حين تحتل الشروحات جُلّ الصفحة. أتساءل عن إمكانية توظيف هذا الشكل في كتابة ما، أتساءل إن كان مصدر انشغالي مجرد حلم بمغامرة إنجاز كتابة جديدة مؤسسة على شكل موروث، أم هو انشغال بأشكال العلاقة بين الهامش والمتن يعكس تجربة جيل تربى في الهامش واكتهل فيه، أو استدرج إلى المتن فدفع أثمانا باهظة. هل يبدو كلامي غامضا؟ أوضح: تربينا كمثقفين وكتاب في الهامش، والآن صار الهامش اختيارا. لماذا؟ أجيب على السؤال بصيغة المفرد رغم اعتقادي بأن ما أقول يشمل آخرين غيري: في اختلاط الحابل بالنابل، والقاتل بالقتيل، والعدل بالظلم- وهو اختلاط يميز لحظتنا بشكل مدهش- تبدو لي الطريق محفوفة بالشراك، ويستحضر خيالي مشهدا من مشاهد فيلم كارتون للأطفال تدور أحداثه في غابة، وتظهر فيه حية آسرة تتلوى وتغني وتبرع في فعل غوايتها. هكذا يبدو لي المشهد الآن فالدعوة إلى الدخول إلى المتن تبدو دعوة لا غبار عليها إلى المشاركة. ولكن بأي ثمن؟ بأي قدر من التواطؤ؟ وبكم مرة صمت حين يتعين رفع الصوت بالكلام؟ وفي المقابل- وهنا المأزق- يبدو التشبث بمطلق الهامش ضربا من ضروب التكفير والهجرة. ما العمل إذن، وأين تقع الحدود بين ثقافة عناد أصيل ينتج القيمة من موقع الهامش، ما دام المتن فاسدا، واختيار عزلة مانعة قاطعة للاتصال والتواصل؟ سؤال صعب لا أعتقد أننا وجدنا له حلا نتفق عليه في مجتمع يفتقد أحزابَ معارضة قويةً ومؤسساتِ مجتمع مدنيٍ عفيةً ومستقلة. على المستوى الشخصي أعترف أنني محظوظة حظا مزدوجا ففي قاعة الدرس مخرج وفي الكتابة مخرج. في قاعة الدرس تتحقق متعة التواصل والمعرفة وقلب النظام السائد، ولأنني أدرِّس أدبا لا كيمياء أو رياضيات، فإن قراءة النصوص الأدبية، تفكيكها وإعادة فحصها يضمن لنا مجتمعين أستاذة وطلابا، في رحاب الدرس، لحظة نادرة نتسيّد فيها واقعنا. وفي الكتابة أيضا يتسيد المرء واقعه، يقلب الهامش إلى متن، ويدفع بالمتن المتسلط إلى كناسة مهملة في الزاوية. أكتب أمتلك الحيِّز، أهلل من قال أنني لا أمتلك حكايتي ولست فاعلة في التاريخ؟
لأنطونيو جرامشي مفهوم آسر عن دور المثقف، لا أقصد هنا ما قاله عن المثقف التقليدي والمثقف العضوي، بل أشير لمفهومه عن "المنطق السائد" و"المنطق الراجح"، الأول أشبه بكرة شعثاء من خيوط معقدة، تشتبك فيه وتختلط حصيلة التجربة المعيشة بالأفكار الجاهزة الموروثة، والعلم بالخرافة ، والحكمة بما عفا عليه الدهر من قناعات جامدة، والمصلحة بوهم المصلحة، أما المنطق الراجح فينتج رؤية متسقة متجانسة للوجود، يدرك موقعه الفعلي في الواقع الاجتماعي، ويسلك بما يمليه هذا الموقع وخلاصة تجاربه؛ والعمل الثقافي الأصيل يأتي دائما من موقع نقدي ويقوم بدأب بتسليك تلك الخيوط المعقدة وصولا إلى تجاوز المنطق السائد إلى منطق سليم متسق يعي ضروراته. هناك دائما مثقفون يرتضون لأنفسهم مهمة خلط الحابل بالنابل، والأصيل بالزائف، وهناك مثقفون يختارون الموقف النقدي مهما كلفهم ذلك من مشاق. وهنا أركز على عبارة "نقدي"، وأذكِّرُكم أن معنى كلمة نقد في اللغة العربية هو تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، أي الفصل بين العملة الأصيلة والزائفة. ونقد في اللغة العربية عكس النسيئة عكس المماطلة والتأجيل. فيرتبط النقد بالقيام بالشيء في وقته، وهذه على ما أظن ، هي مهمتنا كمثقفين.
iii
وماذا عن اللغة؟ أعترف أنني أتشبث باللغة تشبث الغريق. وأية لغة؟ لغة قوم معجزتهم كتاب، ومن بعد الكتاب خمسة عشر قرنا شهدت المدهش من التجارب. إن استمراريةَ هذه اللغةِ العربيةِ وصلابتَها ومرونتَها وتنوعَها وثراءَها وعامياتِها المتفرعةَ منها بما قدمته للعالم من نصوص مكتوبة وشفهية، لها رسوخ المعابد المصرية القديمة وعنفوان فاعل لم يعد لهذه المعابد. هل يبدو غريبا لو قلت الآن إن هذه اللغة تمنحني قدرا لا يستهان به من الأمان؟ أكتب بالعربية وأنتمي إلى تراثها الحي فينتفي اليتم، تتبدد الوحشة، وأيضا يهدأ بعض الاضطراب.
قبل سنوات كتبت أنني أرى في العربية "وطنا يمتد من قرآن العرب إلى نداء البائع المتجول، ومن النشيد الوطني على لسان الأطفال في صباح المدرسة إلى حديث السياسي الأفّاق. أرى في العربية وطنا متراميا، واضحا وغامضا، أليفا ومدهشا، وفي بعض الأحيان مربكا. أعرفه ولا أحيط به. أسكنه وأعرف أنه يسكنني، وأنني في كل فعل وقول أحمل خاتمه وعلامته. العربية أداتي ولكن الصحيح أيضا أنني أداة من أدواتها، هي كتابي الذي تضم صفحاته إرثي وحكايتي مع الزمن، وطموحي أن أضيف سطرا جديدا إلى سطوره".
أقتبس هذا الكلام من حديث سابق لي رغم تكراره بعض ما أوردت في حديثي الراهن، ربما لرغبة في توضيح أن ثراء العربية، في يقيني، لا يقتصر على إنتاج كبار كتابها القدماء والمحدثين، ولا على ما أنتجته المخيلة الشعبية من ملاحم وحكايات بل يتسع لذلك التنوع الهائل في حياة البشر يتشكلون بها وتتشكل بهم. هي موروث ومعيش، قديم جليل مكنون في بطون الكتب وتلافيف الذاكرة، ويومي متجدد يتفاعل مع شعر الواقع ونثره ويعيد إنتاجه. باختصار هي لغة حياة وتحيا، رغم استلاب الإرادة والقهر، تحيا لأننا نحييها ونحيا بها. تملأنا وجلا بسلطتها الأبوية الصارمة وتحيط بنا بردائها الأمومي الضافي ثم تنقلب الآية في غمضة عين فنجد أنفسنا أهلها نلاعبها وهي طفلة تفاجئنا، على طريقة الأطفال، بالجديد المدهش من تراكيب الكلام.
الكتابة فيما أعتقد إطلاق للإرادة في مواجهة نفي الإرادة. اشتباك مع الحياة يحاكمها أو يغنيها، يفضحها أو يتواطأ معها، يصطدم بها أو يلاعبها، أو يرفعها كالمرآة يسألها أملا أن تمنحه بعض إجابة؛ اشتباك-مداخلة بالصوت الواضح أو الشجي أو الخشن أو الصارخ في البرية كأنبياء العهد القديم أو المترنم كتهنينة أم لصغيرها قبل أن ينام. في الكتابة سحر البيان عن حكايات بلا حصر، عن بشر يتوزعون على الخرائط والتواريخ والمصالح والمواقع والأعمار والأقدار في كرة صغيرة سابحة في الفضاء، ويجتمعون على صلح مستحيل مع موت ينهي الحكاية التي لا تنتهي.
وختاما، في لسان العرب يقول ابن منظور: الذِّكر: الحفظ للشيء تذكُرُه أي لم تنسه، والذكرُ أيضا الشيء يجري على اللسان فهو ما ذكرتَه بلسانك وأظهرتَه. ذكرتُ الشيءَ بعد النسيان، وذكرتُهُ بلساني وقلبي وتذكّرتُهُ وأذكَرُتُه غيري، ومنه التذكّر، والاستذكار: درس الشيء للذكر ودراسته للحفظ.
وأخيرا الذكر الشرف والصِّيت.
أجرؤ أن أنهي محاضرتي بالعبارة التالية: لا كتابة تستحق الذكر بالمعاني جميعا التي أسلفتها إلا وتعتمد على الذاكرة.
رضوى عاشور