الموضوع: منديل أمي
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
7

المشاهدات
1062
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
01-27-2021, 05:16 PM
المشاركة 1
01-27-2021, 05:16 PM
المشاركة 1
افتراضي منديل أمي
منديل أمي

*

كل شيء هنا يسير بشكل طبيعي، القرية هادئة هدوء ليلة دافئة مقمرة، الناس تربطهم ألفة عميقة، لاشيء يعكر صفاء أمزجتهم نهارا أو يقض مضاجعهم ليلا. الحاج إسماعيل يعلن في القوم أن حوادث الاختطاف أصبحت من الماضي، تعاضده أمي رقية،كل شباب القرية وصغارها ينادونها هكذا، لم ترزق يوما بمولود لكنها نبع حنان فياض يسع الجميع، تراها توزع الحلويات على البراعم، وكل جمعة تطعم أبناء الكتاتيب الكسكس، ختمت حديثها مؤكدة: " آن الأوان يا أولادي لتستريحوا وتهجعوا في أحضان بيوتكم وبالقرب من أحبتكم، قريتنا غدت آمنة مطمئنة،لا يأتيها البأس والفول ما عاد يقترب من رياضنا منذ حولين كاملين وقت خطف بنياتنا الثلاثة."

الكل صار متيقنا أن لا جدوى من الحراسة بل هي نافلة زائدة مادامت الأمور تسير بسلاسة وبشائر السلام تشع من نفوس الأهالي وراحت تلك الأيام الملعونة التي أربكت راحة القرويين، وأرهبت قلوب رجال صناديد كانوا على الدوام رمزا للجبروت والقوة.

خلال عشرة أعوام تمطر الكوارث القرية أحزانا، قبل الاختطاف كانت لعنة العار تلاحق الصبايا، بابتهاج إذ مازلت طفلا، أقذف إحداهن بما تيسر ليدي من حصى وعلب وعصي، كنا رهطا من الصغار نتلذذ هاتفين خلفها "يا للعار! يا للعار!" وهي بين مشي فهرولة،وعثرة فانتفاضة، بينما ظهرها يستقبل قذائفنا. تكرر المشهد أمامي أكثر من مرة وكان أهل الفاجرة من يغسلون العار الذي دنس طهر شرفهم ومرغ في الحضيض كبرياءهم.لم تهدأ تلك العواصف حتى أتت علينا غمة موت عاتية تسلب الفتيات حياتهن *في فجر الشباب ومشرق العمر، فهذه رمت بنفسها في جب عميق وتلك هوت من على جرف عال والأخرى علقها جنون المنية وباتت متدلية متأرجحة من غصن دوحة عظيمة، وما إن كشفت تلك البلية *حتى جاء الغول يقتنص العذارى في غفلة من أهل القرية.

بثينة حبيبتي لم تستجب لطلب لقائي، في سمرنا الأخيرة تقلص منسوب دفئها لكأن الجنة خطفوا قلبها، توجست أن تميل عني رياح مراكبها وتستقبل مرفأ غير قلبي الذي نذرته لها مقاما، كانت شاردة الذهن تفضل الصمت على الكلام بل فجأة غادرت مجلسي بدون كلمة وداع. استيقظت من نوم عميق على صوت صديقي:" الغول خطفها يا محمود! الغول خطف بثينة، هذا ما توشوشه الألسن هذا الصباح" رددت عليه صارخا:" ثكلتك أمك أيها الأفاك! ألم تجد غيرها لتزخرف مزاحك الشاحب و تنعش مزاجك الذابل" كدت أطبع لكمة على وجهه لولا أن تداركه نداء البراح مؤكدا الخبر ومستنفرا القوم ومسددا طعنة بليغة في قلبي. قدت جيشا من المتحمسين نجوب مضارب القرية وجوارها ونفتش عن أثر الجريمة، تراخى الشباب فآثرت المسير وحدي غير عابئ بالعطش والجوع الذي تذرع به رفاقي بعد ساعات من البحث. مازلت أسير وخطواتي تسابقان الريح وعزمي لاينضب معين ذخيرته حتى ظننت أن روحا من الأعالي تآزرني في محنتي وتزودني زادا يمنع عني التعب واليأس، أخيرا وصلت عند مفترق الطرق. هنا تعطلت نباهتي هل أستقبل الشرق أو أتجه صوب المغيب. جلست على صخرة أرتب أفكاري، *أدرس الاحتمالات، لعل توقعي يحالفه الصواب. لفت انتباهي جزء من قطعة قماش يطل على استحياء من تحت حجرة بجانب الطريق المؤدية إلى الغرب. على عجل أمطت عنه اللثام فصعقتني صورة أمي رقية تلوح به حين أقنعتنا بهدوء الأحوال. هذا منديلك مولاتي، القضية مشمولة بأن وأخواتها، والجواب في جوفك أمي. مهرولا رجعت أدراجي وفي نفسي غضب يقلص المسافات، أنت يا أمي تفعلينها، تلعبين بالقبيلة كلها دون أن يرف لك جفن. وصلت والظلمة تغمر القرية، ورجالها يوزعون الأدوار ويستعدون لاصطياد الغول، تسللت إلى بيتها، كانت تتلو أورادها بنغمة شجية، اقتربت من موقد النار، قالت بصوت حنون: "اقترب *يا بني، كنت أنتظر زيارتك، فأنت مكلوم أكثر من غيرك، لكن ستنسى عما قريب، حدثني عن جولتك، ماذا بجعبتك، *هيا تحدث فالحديث يفرج كربة القلب." تعجبت من هذا الكلام المنمق، كدت أصدق أنها بريئة. أظهرت المنديل فامتدت يدها تخطفه من يدي، وضغطت على اندفاعها المفاجئ مفتعلة هدوءا مصطنعا، بعد انفلات *كلمة من فمها: "غبية!" ثم قالت: "أين عثرت عليه؟" شرحت لأمي أن هذا لا يهم ولكن *لماذا هذه اللعبة كلها، وضحت بعد تنهيدة، أستطيع أن ألبسك تهمة عاتية، أراك فيها مصلوبا، وتعرف أن الناس سيصدقون قولي، فانس المنديل ولا تأت على ذكره أبدا. لكن يا أمي لماذا كل هذا؟فردت: "بثينة حامل يا بني! وأنا هربتها" وقبل أن أعطيها دروسا في الشرف أردفت: "أنت الأب يا صغيري."