عرض مشاركة واحدة
قديم 01-13-2014, 12:01 PM
المشاركة 474
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والآن مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية – 21- موبي-ديك، للمؤلف هيرمان ميلفيل

- هذا ما كشفه هيرمان ملفيل ببراعة أدبية تشبه ما يتميز به أدب تلك الفترة الرائعة من كشف لأغوار الإنسان السحيقة. ولن تظهر حقيقة ما يكنه أيهاب من مشاعر طيبة وجميلة إلا أمام الماء. الماء نفسه الذي كان غاضباً ومبارزاً له طيلة السنين الماضية، تحول في طرفة عين إلى الكاشف الأكبر للروح العذبة في نفس أيهاب. كان المحيط مسايراً لروح أيهاب. فأضحى غاضباً وقاتلاً، ينتظر الساعة التي يغرق فيها من هم أمثال أيهاب ورفاقه الثلاثة: ستاربك وستاب وفلاسك. إلى أن حدث التمرد! تمرد المحيط في يوم صافي لازوردي، فسكنت الأنفس الغاضبة وأشرقت الشمس بضياء يزف الهواء العذب كما تزف العروس إلى زوجها. وقف إيهاب الصامد في وضح الصباح على ظهر السفينة ورفع حاجباً يشبه الخوذة المكسورة نحو جبهة السماء التي تشبه جبهة فتاة شقراء. التجاعيد تحيط بوجه القبطان الشيخ وعيناه تتوهجان كأنهما جمرتان. يصرخ لا وعيه في الفضاء: آه أيتها الطفولة الخالدة، يا براءة الكون اللازوردي، أيتها المخلوقات الخفية التي تمرح من حولنا! أيتها الطفولة العذبة التي يمثلها الفضاء والسماء! .. يعبر ظهر السفينة بهدوء ويستند على حافتها. خان نفسه هنا! تطلع إلى الماء ورأى كيف يغرق خياله في الماء، ويظل يغرق ويغرق حتى تبدى له في لحظة مفاجئة الشيء السرطاني في روحه. استطاع الهواء المرح السعيد وتلك السماء الطروب أن يربتا على كتفه ويلاطفاه.
- قسوة الدنيا التي هزت أركانه وحطمت ذلك الجزء، أخفت قسوتها وأصبحت امرأة جميلة، وهنا فقط ولا شيء آخر، كما يقول هيرمان ملفيل: انحدرت من تحت قبعة أيهاب المنكفئة دمعة نزلت في البحر، ولم يكن المحيط الهادئ كلّه يحتوي ثراء كتلك الدمعة الصغيرة!
- إنها صورة شعرية خالصة بلا شك. دمعة نادرة تحمل ثراء أكثر من كل ماء المحيط.
- يختصر ملفيل هذا المحيط بأمواجه وصخبه وعنفه وجماله في دمعة إنسان واحدة، عندما توحد القبطان أيهاب مع الكون بأكمله: بأرضه وماءه.
- هذه الدمعة أعادته أربعين سنة إلى الوراء، عندما كان شاباً حواتا في الثامنة عشر من العمر. كانت نتيجتها أنه فارق اليابسة لأكثر من أربعين سنة: يبارز الأمواج ويصطاد الحيتان. أربعون سنة من الحرمان والأخطار والعواصف، يشن الحرب على الماء، أصبح عبداً لهذا المحيط الذي تُوج من خلاله ملكاً على الحيتان. في الوقت الذي يركب قاربه لمطاردة الحيتان، كان إنسان البر يهنئ بفاكهة طازجة، بينما هو لا يقدر إلا على الأكل المالح الجاف. وماذا كانت نتيجة كل هذه المغامرات؟ لا شيء. بل ترك خلف ظهره زوجة لا هي بالأرملة أو المطلقة. وطفل لم يتنعم يوماً بالحديث معه ومداعبته.
- هذه الشعرية الحالمة ليست أدبية فقط. حالة التوحد مع الكون لم تحدث مع القبطان أيهاب. في قديم الزمان كان هناك رجل لم يتوحد مع الكون، بل هز أركان السماء وهو في ظلمات المحيط السفلى. هذا الرجل مثال حي ونادر استخدمه هيرمان ملفيل ببراعة في فصل الموعظة، حين صعد الأب مابيل في مقدمة الكنيسة. كانت مقدمة الكنيسة التي يخطب من خلالها تشبه مقدمة السفينة، فيوجه المؤمنين الذين هم على اليمين بالزحف نحو اليسار، والمؤمنين الذين هم على اليسار بالزحف على اليمين حتى يصبح الجميع في المنتصف، ثم يخطب خطبته العصماء مبتدأً بترتيلة دينية شيقة يتبعها صوته الغاضب وهو يصرخ: وأما الرب فأعد حوتاً عظيماً ليبتلع يونان ( النبي يونس ).
- موبي ديك رواية عن الإنسان والحوت.
- ولا يوجد مثال تاريخي يصلح كموعظة دينية عن المحيط والحوت والأخطار والواجبات تجاه الله مثل قصة يونس التي رسم خطوطها ملفيل في نصه هذا.
- الأب مابيل خطيب مفوه إلى درجة تبرز فيها تجعيدات وجه وهو يقص حكاية النبي يونس. قصة النبي يونس معروفة كما هي موجودة في النص القرآني. هيرمان ملفيل يطرح قضية يونس كحالة رعب سكنت في روح يونس وهو مغادر إلى الشاطئ ليركب في ظهر السفينة. فتميل السفينة ويثور البحر وهو نائم في إحدى غرف السفينة، فيشاهد القنديل المعلق وقد مال إلى زاوية مرعبة ويجد روحه معها معلقة مائلة لا تحمل أي قيمة ثابتة. وحين ظهر إلى السطح كانت الأمواج تصعد إلى أعالي السفينة تريد اختطافه. ثم السقوط اللانهائي في المحيط ليتلقفه الحوت، فيسجن في الظلمات: ظلمة المحيط وظلمة الحوت. ويسكن البحر ويكف عن الهياج ويحمل يونس العاصفة معه مخلفاً ماءً هادئاً وراءه. لا أستطيع أن أمنع خلفيتي الدينية من أن يكون لها مكان هنا. يقول الأب مابيل: وصلى يونان إلى الرب من جوف الحوت. تأملوا صلاته وخذوا منها العبرة. ذلك أنه وهو الآثم لم يبكي ولم يعول طالباً الخلاص الفوري. بل كان يحس أن العقوبة التي نزلت به عادلة، فهو يسلم أمره لله. حين كان الحوت قد أرسى على أقصى عظام المحيط، سمع الله من الظلمات نداء النبي التائب السجين. وأمر الرب الحوت، فجاء من العالم الزمهريري وظلمة البحر صاعداً نحو الدفء والشمس المنعشة ومتع الهواء والأرض, فقذف يونان إلى البر. وحين صدرت كلمة الله إلى يونان مرة أخرى, وكان يونان منهوك القوى، امتثل لأمر ربه. أي أمر؟ أن يصدع بالحق في وجه الباطل – ذلك هو الأمر.
- خطبة الأب جميلة للغاية، والنص بأكمله نص ذهبي ممتلئ بالإيمان.
- أظن أن هيرمان ملفيل وجد في يونس قصة مناسبة بما أن موضوع الرواية الإنسان والحوت، لكنه تناسى شيئاً كان سيعظم من شأن هذا النص بدرجة عالية، ألا وهو الحوت!. كتب ملفيل عن الحيتان بصور جميلة إلى درجة وصف فيها أحد الحيتان بقابيل، وأحد الحيتان الأخرى بأنه يمثل الفلسفة اليونانية،
- وفتح الباب واسعاً لعالم الصداقة والزواج في عالم الحيتان.
- هل مهنة صيد الحيتان جريمة أو لها فوائد ومميزات عظيمة؟ يكتب المؤلف في فصل دفاع عن التحويت موجها حديثه لقارئ الرواية بأن من هو مقتنع بأن مهنة صيد الحيتان لا تشتمل على ما هو شريف رفيع من الناحية الجمالية: فإنه – أي المؤلف – على استعداد ليحطم في مبارزة القارئ خمسين رمحاً حول هذه النقطة، وينزل القارئ عن جواده كل مرة وخوذته قد شقّت لنصفين. يبدو المؤلف متطرفاً هنا، فهو يعلنها بكل صراحة بأن مهنة التحويت هي جامعة تنافس الجامعات الشهيرة ك هارفارد وبيل.
- وإن كان من أسباب لهذا الرأي فهي كالتالي كما يقول: أي فيلسوف من الفلاسفة الكبار لن يستطيع تقديم أي حدث أثر في القرن التاسع عشر وما قبله أكثر من مهنة التحويت التي ولدت على نحو أو آخر أحداثاً هامة في ذاتها. مثل اكتشاف الأراضي المجهولة مثل استراليا التي اقتحمها صائد للحيتان، واكتشاف بحار وأرخبيلات لا خرائط لها.
- وإذا كان المحاربون الأمريكيين والأوروبيون يسيرون بأماكن فيما كان يُعرف بأنها موانئ للمتوحشين، فعليهم أن يطلقوا نيران مدافعهم تحية شرف لسفينة التحويت، فهي مهدت الطريق من البداية، وهي التي مهدت لحروب التحرير في بيرو وتشيلي وبوليفيا من نير أسبانيا :
- قراءة الرواية كانت صعبة نظراً لبعض الكلمات والأوصاف من مهنة التحويت. ورغم ذلك، لو قدر لي أن أضع هيرمان ملفيل في مكانه يستحقها، لن يكون إلا مع الأدباء الكلاسيكيين العظام الذين استطاعوا بمقدرة فذة الغوص في أعماق النفس البشرية أمثال تولستوي وفيكتور هيجو وتولستوي وإدغار آلان بو. هو لا يقترب منهم. بل يقف معهم: الند للند.