عرض مشاركة واحدة
قديم 03-30-2016, 02:12 PM
المشاركة 60
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



اما المرأة الثانية من ضمن قائمة النساء اللواتي منحنني البهجة والسعادة والمسرة في طفولتي المبكرة وعوضنني قليلا عن فقدان الام، وكن بالنسبة لي بمثابة الام البديلة، ولو ان لا امرأة تستطيع ان تكون بديلة للام، حتى لو كانت كاملة الاوصاف...كانت هذه المرأة ابنة عمتي حليمة واسمها نوفه ام ماجد، وكانت أكبر سنا من أكبر اخوتي، وكانت تبدو لي عجوزا حيث كانت متزوجة ولها أولاد وبنات اكبر مني وهم آمنة وماجد ومسعدة ووسيلة من نفس سني وحسن وهو اصغر مني سنا...وكنت اظن قبل ان ادرك الأشياء حولي بأنها عمتي واخت ابي كما هي عمتي حليمة وليست ابنة لها...حتى ان اخوتي كانوا ينادوها بلقب عمتي احتراما وتقديرا لسنها ولمعاملتها الحسنة لنا...وبقينا على ذلك الحال نناديها عمتي حتى ماتت قبل ثلاثة سنوات تقريبا وبعد ان طال بها العمر واقتربت من المائة الا قليل...

ويبدو ان هذه العمة قد تزوجت في ظروف بالغة الصعوبة...فقد زوجوها وهي صبية بكر لرجل مسن من أبناء عمومتها، واسمه ذيب القره، وكان حينما تزوجها بعمر والدها او ربما أكبر، كما كان أرملا... حيث كانت زوجته الاولى قد ماتت وقد أنجبت له خمسة، او ستة أبناء وبنات...وكانوا جميعا أكبر منها سنا الا احدى بناته وتسمى مريم وكانت آخر العنقود فكانت أصغر منها...

وما كان لتلك الزيجة ان تتم في ظني لولا حالة الفقر المدقع التي كان يعيشها الناس، والظلم الذي كانت تعاني منه النساء في ذلك الزمن، واظنها ما تزال تعاني منه على نطاق واسع خاصة في مناطق الأرياف والمناطق الأقل حظا ليس فقط في فلسطين بل في كافة انحاء العالم...ظروف كانت زيجة البنت فيها تعتبر خلاص بالنسبة لأهلها، يخفف من معاناتهم، ولو ان عش الزوجية كان بالنسبة للبنت في مثل تلك الظروف أقرب الي الجحيم او السجن والقبر...

وكانت عمتي نوفه هذه تسكن في منزل مكون من غرفتين من الحجارة والطين اقيمتا على ظهر بيت قديم، شاهق الارتفاع ويزيد ارتفاعه على خمسة أمتار...وكان على من يريد ان يصل الي تلك الغرفتين ان يتسلق درجا صعبا، لزجا خاصة في أيام المطر والشتاء، وكان مكشوفا من جوانبه، ويطل على الشارع الرئيسي دون ساتر يذكر، وهو مشيد من الحجارة غير المستوية التي تتطلب انتباه شديد حين الحركة عليها خشية من التزحلق...وقد كان صعود ذلك الدرج بالنسبة لي في طفولتي المبكرة عملية مخيفة، اما هبوطه فكان أشبه بمهمة مستحيلة ...

وكان يتبع ذلك البيت القديم وامامه مباشرة ساحة واسعة أقيم الحمام في أحد أطرافها أسفل شجرة توت ضخمة، وكان الوصول اليه عند قضاء الحاجة مغامرة، ويتطلب الكثير من الجهد والانتباه...بينما أقيم الطابون في طرف آخر، كما كانت هناك سقيفة مجاورة للبيت تستخدم لإيواء الخيل الذي كان يمتلكه زوجها، فقد اشتهر بتربية الخيل والاتجار بها...

ثم الحق زوجها الي كل ذلك وفي وقت لاحق غرفة من الطراز الحديث شيدت من الباطون المسلح، كان بابها يفتح على ساحة الدار وغرفة أخرى فوقها أي طابق ثاني، وكان بابها يفتح على الشارع الرئيسي المار من وسط القرية...وكان يستخدمها زوجها لعمله التجاري حيث كان يعمل جزارا إضافة الي استقبال الضيوف، ولعب طاولة النرد مع اصدقاؤه في حالة الانتهاء من بيع الذبائح التي كانت نادرة في ذلك الزمن، ولا تزيد عن ذبيحة واحدة في أيام الجمع...واظنه كان يمضي معظم وقته في تلك الغرفة الخارجية...وقلما كنت اراه في المنزل الرئيسي اثناء النهار...ولا اظنه كان يبقى فيه الا لقضاء حاجاته او عند المبيت وفي ساعات الليل وحينما تحين ساعة النوم...

وكان زوجها من اعيان القرية، ومن كبار ملاك الأرض المزروعة بالزيتون، كما ان أبناؤه الكبار من الزوجة الأولى كانوا من بين اول من سافر الي الكويت للعمل هناك في مطلع الستينيات من القرن الماضي ان لم يكن في الخمسينيات...وفي تقديري كان من اغنى اغنياء القرية، لكن ذلك الغنى لم يكن ينعكس على حياة عائلته، التي اذكر انها كانت تعيش في ذلك الزمن على الكفاف واظنه كان مقترا...ومؤشر ذلك عندي وانا الطفل الصغير وهو الامر الذي انطبع في ذاكرتي ان عائلته كانت تفعل شيئا لم نكن نفعله نحن في بيتنا، ولا اظن انني شاهدت أحدا اخر يفعله سوى بيت عمتي نوفه...فقد كانت عمتي نوفه تقوم بعد غلي الشاي على فرش حثالة الشاي الحلل الذي استخدم للتو في الشمس على صينية من القش لتجفيفه ثم لتقوم على إعادة غليه واستخدامه من جديد مرة أخرى وربما مرات وحتى تتوقف حثالة الشاي عن صبغ الماء باللون الأسود...

كانت ظروف معيشة عمتي نوفه صعبة للغاية، وكانت عمتي نوفه امرأة مكافحة، صبورة، لا تكف عن العمل ابدا...وكانت على الرغم من الشقاء الظاهر لا تغيب عن وجهها الابتسامة ابدا وان غضبت صمتت وربما تأففت قليلا بصوت مكتوم...وكانت كريمة، مضيافة، شديدة الحنان، حسنة المنطق، تبدو اما رؤوما لكل من حولها، وكأنها نبع حنان لا ينضب ابدا...وكانت حريصة كل الحرص على الرغم انها امية على تعليم ابناءها وبناتها...فكانت ابنتها امنة واحدة من أولى البنات القليلات اللواتي التحقن بالمدرسة على الرغم انها كانت مختلطة في ذلك الزمن أي في اربعينيات القرن الماضي، وأنهت المرحلة الابتدائية بنجاح قبل ان تتزوج... بينما تخرج باقي الأبناء والبنات من الجامعات وعملوا جميعا مدرسين...

وعلى الرغم من بيئة العيش الصعبة تلك والظروف القاسية، والاعمال الشاقة كانت عمتي نوفة تبدو سعيدة في حياتها، ولا يظهر عليها أي أثر لذلك الحريق الذي اظنه كان مضطرما في داخلها...بل على العكس اظنها كانت مصدرا ملهما للتفاؤل والحنان، وكنت أحس بدفء ذلك الحنان الذي كان يغمرني حينما اراها...وقد ظل ذلك الشعور معي طوال حياتي حتى ماتت...وكانت دائما ملجأ في لحظات الكآبة...فمجرد الجلوس معها والحديث اليها يهون من اصعب الأمور وأكثرها تعقيدا...واظنها كانت تمتلك حلا بسيط سحريا لأي مشكلة مهما تعقدت واستحكمت حلقاتها...

كانت زيارة منزل عمتي نوفه بالنسبة لي في طفولتي المبكرة شيء جميل ومصدر للسعادة والبهجة، وقد حرصت على تكرارها كثيرا وانا طفل صغير، وكأنني كنت اعوض بلقائها بعضا من حنان الام المفقود...رغم ان صعود الدرج الحجري الواصل الى منزلها كان يعتبر بالنسبة لي مغامرة خطيرة، ومهمة صعبة إن لم تكن شبه مستحيلة...وكذلك كان السطوح المفتوح من الجهة الغربية، والشبابيك الشرقية من غرفة النوم الرئيسية التي لم تكن محمية سوى بأباجور خشبي وكانت هذه ايضا مصدر خوف مستديم ولا ينقطع ما دمت في الجوار...وقد كانت نتيجة أي تزحلق او سقوط من تلك المواقع الموت المحقق حتما...

يتبع...