عرض مشاركة واحدة
قديم 03-10-2016, 02:00 PM
المشاركة 52
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


اما الخرافة والخزعبلات الذهنية المحضة التي مصدرها النفوس، فربما كانت اشد وقعا، وأثرا، والما، على الناس من تلك البيئة الريفية وما تحتويه من مخاطر، وأدوات قتل، بما فيها ذلك الرصد الأسطوري المرعب حتى وان كان حقيقيا او متخيلا...

ولا بد ان الخرافة كانت نتيجة تراكمات جمة، خلفها الاستعمار وادواته، والفقر ومآسيه، والجهل وبلاويه، في مثل تلك البيئة المنعزلة عن باقي العالم على مدى قرون مضت، لكنها استفحلت، واحتدت في القرن التاسع عشر بعد وصول الجراد الشرس المحتل الذي استوطن الأراضي الغنية، والساحلية، وتسبب بسلسلة طويلة وممتدة من الهزائم والانكسارات، ولا بد ان ذلك انعكس على صحة الناس النفسية، والقدرات العقلية، والتي صارت أقرب الي الذهانية منها الي المنطق والواقعية...

وقد كانت الخرافة في ذلك الزمن الصعب أداة تخويف مرعبة، تتسبب بالكثير من الرعب والخوف خاصة لنا نحن الاطفال...واظنها ازدهرت في ذلك الزمن لأنها وجدت البيئة المناسبة، والأرض الخصبة، فنبتت مثل الفطر تحت شجرة بلوط اغصانها وارفة، وارضها خصبة في احراش قرية ديراستيا المجاورة، والمشهورة بغزارة انتاجها إذا ما ابرقت وارعدت، وامطرت وارتوت الأرض من خير السماء...

فمن ناحية كانت القرية شبه منقطعة عن العالم الخارجي...فلا وجود لوسائل الاتصال أي كان نوعها، وحتى الترانزستور جالب الاخبار فأظنه كان عملة نادرة، ان لم تكن نادرة جدا...واظن ان الرجال كانوا يتجمعون فيما ندر عند من اقتنى واحد لسماع نشرات الاخبار...وكان الترانزستور في تلك السنوات ضخما ومكلفا يأتي على شكل صندوق خشبي...يشغل مساحة تعادل مساحة التلفزيونات الحديث من صنف اثنان وثلاثون بوصة...

كان نهار ذلك الريف موشحا جدا...وكان ليله مظلما بل هو شديد الظلمة والوحشة... فلا وجود لأدوات الإضاءة الا تلك البسيطة منها، مثل القنديل والسراج، واللوكس اليدوي...والتي لا يكاد نورها يبدد عتمة المكان وظلمة النفوس...وكان التعليم نادرا ووسيلته الكُتاب...وكان الجهل مطبقا...وكانت النفوس منكسرة بعد سلسلة من الهزائم المزلزلة ...فتراكم ظلام المكان والزمان على ظلام النفوس...ظلمات فوقها ظلمات...لكل ذلك صار الريف الفلسطيني في ذلك الزمن ينغل بالخرافة...وتعصف به الخزعبلات...

وتعددت الحكايات الخرافية...منها ما لجأ اليه الناس كادة تريبة وتعليم، تقوم على التخويف وبث الرعب في النفوس خاصة لنا نحن الاطفال...فمثلا كنا نرتعب إذا سقطت منا حبة ملح على الأرض...فلقد كانت الخرافة تقول بأن من اسقطها سيقوم يوم القيامة بالتقاطها برموش عينيه...ولكم ان تتخيلوا مدى الرعب الذي كان صيبنا كأطفال وقدر زرعوا في عقولنا اننا سنعاقب يوم القيامة على إضاعة فصوص الملح وليس اكثر ، اذا ما سقطت منا على الأرض عن عمد او من غير عمد ودون قصد... ولطالما سألت اختي الكبرى والتي كانت مصدر هذه الخرافة بالنسبة لي ان كان هناك مجال ان اجمعها بأصابع يدي بدلا من روموش عياني؟ فكان الجواب دائما يأتي قطعيا وكما ورد في الخرافة...بل برموش العينين...ولطالما حرصنا على حبات الملح وبذلنا جهدنا كي لا تسقط منا، وبحثنا عنها اذا ما سقطت حتى نتجنب العقاب الاخروي قبل الدنيوي...

ولا اعرف لماذا كانت هذه القاعدة الخرافية تنطبق على الملح فقط ودون السكر مثلا وقد شابهه في كل شيء الا الطعم والمذاق...او حتى أي صنف آخر من أصناف النعم الكثيرة...من أصناف الطعام الذي كان متوفرا حولنا؟

ثم لماذا يكون عقاب إضاعة فصوص الملح بتلك الفظاعة بينما اسقاط الخبز وهو الأهم بالنسبة لبقاء الانسان، اقل حدة فكان المطلوب منا إذا ما سقط الخبز رفعه عن الأرض ثم تقبيله ووضعه جانبا في مكان لا تدوسه الارجل...اما الرز، والعدس، والبصل، والثوم فلم يكن أحد على ما اظن ليحتج او يلومنا لو دسنا عليها بأقدامنا...فليس لها تلك القدسية التي للملح والخبز...

اما خرافة حبة الرمان التي قالوا لنا بأنها تحتوي على حبة بركة...فقد كانت اقل تخويفا وتعذيبا للنفوس ربما ولو انها كانت تسبب الحسرة والندامة...ولكننا كنا نحرص كل الحرص على ان لا تقع منا أي حبة على الأرض...وان وقعت كنا نسارع للبحث عنها واكلها كي لا نفقد البركة...وطمعا في الحصول عليها، لعلها تكون تلك الحبة هي بعينها دون غيرها حاملة البركة...وان فقدنا حبة للسوس او الدود اصابتنا الحسرة على إضاعة البركة ربما...

ولا يقاس الرعب المتأتي من هذه القصص الخرافية، مع ذلك الذي كان يخرج علينا من حكايات الجن المرعبة...فقد زرعوا في نفوسنا اننا في كل مرة نرشق فيها الماء على الأرض علينا ان نتوقع ان يلبسنا الجن إذا نسينا التسمية...وإذا ما دخلنا المنزل دون ان نسمي ونسلم ركبتنا الشياطين، ونامت الي جوارنا، وأكلت اكلنا...وعلينا الحذر من القط باللون الأسود لأنه شيطان، اما الأبيض، والاحمر والرمادي، والاخضر فهي جالبة للحظ ربما، او على الأقل محصنة ضد الجن والشياطين...

كانت بيئة مليئة بحكايات العفاريت والجن...حتى ان الناس كانت تخاف الوصول الي مناطق بعينها لما اشيع عنها من حكايات الجن...والتي تؤكد بأنها مسكونة بالجن، وان بعض الناس شاهدوهم في تلك الأراضي المنخفضة والمنعزلة عادة...فلم يكن أحد ربما يجرؤ على الوصول الي منطقة (لقنة) خاصة في ساعات الليل، وهي الأرض الواقعة بين قريتنا وقرية ديراستيا...فقد كانت الحكايات تؤكد بأن الجن قد ظهر لكثير من الناس في تلك البقعة...وان ذهب احد الناس الي هناك فأظن ان هاجس تجلي الجن وظهوره له كان يظل حاضرا ومؤرقا ومرعبا...ولا اعرف اين ذهب ذلك الجن، والعافريت هذه الأيام بعد ان تمددت منازل القرية، ووصلت الى ارضهم المزعومة تلك، فقد أصبحت تلك الأرض الان معمورة، ومسكونة لكن بالبشر وليس بالجن ولم يعد احد يتحدث عن رؤية الجن في تلك الناحية، وكأنهم فص ملح وذاب كما يقول المثل...

في مثل تلك الأجواء المرعبة والتي عصفت بالناس فيها الاحاديث الخرافية وقصص الجن والعافريت يقال ان رجالا من القرية تراهنوا على من يجرؤ على زراعة وتد في بيت مهدوم من عزبة مجاورة اسمها عزبة الخربة، كان سكان قرية أخرى مجاورة تسمى قرية مردة وكانوا أصحاب نفوذ قد هاجموها فما سبق وقتلوا أهلها، وهجروا من نجا منهم، واستولوا على ارضهم، ولم يبق من بيوتهم الا الاطلال...ويبدو ان شخص اسمه ذيب القره قبل التحدي...وابدى قدرته على فعل ذلك...ولا بد انه سار الى هناك في احد الليالي المظلمة...وعندما وصل داخل المنزل المهدوم، في العزبة التي تبعد ما لا يقل عن ثلاثة كيلومترات عن قريتنا، دخل المنزل المهدوم واخذ يدق الوتد في الأرض بحجر كما تقول الحكاية...وعندما انجز المهمة، وهم بالخروج والعودة شعر بأن رداءه كان عالقا وكأن شيئا يمسك به ويشد به اليه...ولا بد انه في تلك اللحظة ظن بان جنيا او عفريتا من الجن قد خرج له، وقد عكر صفوه، واقلق راحته، وافسد عليه ليله، فامسك بطرف رداءه...ولا بد انه ارتاع من الخوف وحاول الهرب مسرعا ولم يتسنى له حتى خلع رداءه المشدود، وعاد الى اقارنه بملابسه الداخلية...وفي اليوم التالي وجدوا انه كان قد دق طرف رداءه مع الوتد وان الجن براءة مما كانوا يدعون...

ولا عجب والحال كذلك ان ينسج الناس من خيالهم الواسع مثل تلك الحكايات المرعبة، وان يجعلوا ابطالها من الجن والعفاريت...او ان يرى الناس الأشياء على غير حقيقتها...حيث تصور لهم هزائمهم النفسية، ومخاوفهم الأشياء على غير حقيقتها...والصاق التهم بكائنات ما ورائية يظنون انهم رأوها رؤي العين...واذكر ان الناس تداولت بعد زلزال وهزيمة عام 1967 بعض القصص الخرافية، وكنت انا شاهدا على ذلك هذه المرة...فالبعض اكد ان القنفذ وهو حيوان له شوك قد نطق في مخيم بلاطة واخبر الناس بأن الجراد سوف ينحسر عن البلاد وان النصر ات...ولن يطول الانتظار...والبعض الاخر اكد ان الهزيمة أدت الى ان اصبح اللون الأخضر من ورق شجرة الزيتون الى الأسفل وخرج اللون الرمادي الى الخارج...ربما حزنا والما على الهزيمة...فكانت تكل تصورات ذهانية تعبر عن مرارة الهزيمة وقساوة ضياع الحلم بالعودة القريبة الي الجنة المفقودة...الي الأراضي الساحلية، ما دامت الأراضي الداخلية قد ضاعت هي أيضا...واظن ان ذلك يفسر سبب خروج تلك القصة عن القنفذ الذي نطق وتكلم من قلب مخيم لاجئين، وليس من أي مكان آخر...

ولا عجب ان يستشعر الناس الخوف من الزوال او الظلال او أي صغيرة وكبيرة وقد تراءت لهم انها كائنا ما ورائيا...في مثل ذلك الزمن وتلك الظروف...ويبدو ان هذا ما حصل مع والدي في أحد الليالي المظلمة في زمن الشباب...حيث كان عادا من قرية سلفيت المجاورة...وكان يمتطي فرسا...وفي نقطة معينة لا تبعد عن القرية كثيرا...ظن انه رأى شبحا في الأرض المجاورة من الطريق المؤدية الي القرية... وكان إذا سار الى الامام سار ذلك الشبح معه الي الامام...وإذا عاد الي الخلف تحرك ذلك الشبح بالاتجاه المعاكس...والله فقط يعلم مدى الرعب الذي أصابه في تلك اللحظة ومدى السرعة التي انهزم فيها من ذلك المكان...وقد شك أن عفريتا من الجن قد برز له في تلك الناحية واخذ يطاره...

والله اعلم كيف امضى ليله ليعود في اليوم التالي الى الموقع، وقد انارت الشمس بأشعتها المكان وازالت الاوهام والزوال...فوجد ان صاحب الأرض كان قد قطع اغصان شجرة زيتون وترك جذعها امردا...وان ما ظنه كائنا ما ورائيا في تلك اللحظة، انما هو عرق تلك الشجرة لا اكثر ولا اقل...بقايا شجرة ثابتة بثبات جذورها في الأرض لكن خوفه من حكايات الجن جعله يظن بأنه التقى مع عفريت وتصوره يتحرك معه أينما اتجه...ولو انه لم يعد الي الموقع في اليوم التالي ليتأكد مما رأى، ومن ثم نسج حول تجربته حكاية من حكايات الجن والعفاريت لأصبحت تلك الحكاية خرافة أخرى من الخرافات الكثيرة التي كانت تعصف بالعقول والقلوب...ولربما اصبح المكان شبه محرم على الناس لشدة خوفهم ان يتلبسهم الجن الساكن في تلك الناحية ايضا...

يتبع ...