عرض مشاركة واحدة
قديم 01-31-2011, 12:48 AM
المشاركة 4
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الخيال



الخيال الأدبي:


يعرف الخيال عامة بأنه القدرة العقلية على التجريب واستكشاف الجديد، وعلى البناء والتشكيل والمحاكاة والربط باستخدام صور ذهنية تحاكي الطبيعة، وإن لم تعبر عن شيء موجود في الواقع. وهو القوة التي تحرك المخيلة والإبداع والرؤى والفكر وتؤسس من ثم للفرضيات. وهو يختلف عن المخيلة fancy التي تستحضر الصور الذهنية التي تسجلها الذاكرة وتتصرف بها بالتركيب والتحليل والزيادة والنقصان والحذف والدمج، لتنتج تركيبة جديدة، معقولة أو غير معقولة لحد الغرابة، فتغدو عندها فانتازيا fantasia.




ومن تعريفات الخيال أيضاً أنه قدرة الفنان على إسقاط مشاعره على موقف أو شخصية أو مكان أو فكرة إسقاطاً ينتج من التفاعل المتعاطف مع أي منها، وهو الملكة التي تمكن الذهن من إبداع رموز للمفهومات المجردة، والمرادف الشعري أو الفني للحدس الصوفي.


وقد اختلف الفلاسفة والنقاد والكتاب في تعريف كلمة «الخيال» وتفسيرها وتحديد مفهومها، وسبب هذا الجدل هو أنها مصطلح معرفي إدراكي cognitive يتخذ معاني عدة باختلاف المضامين ونظريات المعرفة. فثمة من يرى أن الحواس تسيطر على الخيال، ومن يرى أنه تابع للأحاسيس، وهناك من يرجعه إلى العقل، إلا أن هناك إجماعاً على أهمية الخيال في الأدب، وإن اختلف النقاد والأدباء، كلٌ وفق انتمائه، فمنهم من وجد أن الخيال مصدر إلهام للأدب عموما، والشعر خصوصاً، إلا أن أهميته لا تتعدى الإلهام الأولي للفكرة، ثم يتولى العقل عملية التأليف الأدبي. ومنهم من رأى أن الخيال هو أساس الشعر موضوعاً ولغة، وأنه يحتل مرتبة أسمى من العقل.




كان أفلاطون أول من أعطى أهمية للخيال في الأدب، إذ رأى أن الشاعر الذي يستخدم الخيال مبدع يتمتع بوحي إلهي، وهو كالعاشق في جنونه وجموحه، كما وصف أرسطو الخيال بأنه «العملية التي تُتمثل عبرها الصور الذهنية»، وأنه شكل من أشكال الذاكرة ومصدر للإلهام، وقد اتفق معظم الفلاسفة والكتاب الأفلاطونيين الجدد والنقاد والكتاب الاتباعيين إبان عصر النهضة على أهمية الخيال في الإبداع، لكنهم أكدوا على ضرورة إخضاعه للحكمة والعقل، لضبط عملية الإبداع باستخدام المحاكاة والصور والرموز، بهدف التثقيف والإمتاع وخلق عالم أجمل من العالم الواقعي. فالخيال أساسي في كل عمليات التفكير، لذا فهو يعزز الإبداع، ولكن ليس له علاقة خاصة به، ولا يشكل أساساً للأدب، وإنما هو أحد وسائل الإلهام وأمر واقع فيه، بما أن الأدب نمط من أنماط الفكر.




ورأى هوراسـيوس Horatius أن عملية الإبداع الأدبي تبدأ باستخدام الخيال لاكتشاف الفكرة أو الموضوع، ثم وضع هذه الفكرة في صيغة أو قالب أحد الأجناس الأدبية المتداولة، واختيار اللغة والكلمات المناسبة للتعبير عنها. وبهذا يكون الخيال لدى الاتباعيين الرومان جزءاً من عملية التأليف والإبداع التي تأتي ضمن قوالب وأنساق جاهزة تضبط جموح أو انفلات هذا الخيال.




سادت هذه النظريات في الخيال حتى العصور الوسطى وعصر النهضة في أوربا القرن السادس عشر، حين بدأ النقاد يعرِّفون الخيال من حيث تضاده مع العقل، إذ عدوه أساساً لاكتساب التصور الشعري والإدراك المعرفي والديني والروحاني. فميز دانتي بين الخيال كوهم وبين الخيال السامي الذي رأى فيه مرادفاً للإبداع الفني والشعري. ورأى شعراء عصر النهضة أن الشاعر يلاحظ بوساطة الخيال ما لا يشاهده الشخص العادي، فيخلق رموزاً جديدة، ليصبح الأدب والفن أكثر من مجرد محاكاة أو إعادة ترتيب وتشكيل للعالم الخارجي.



وقد عدَّ فرانسيس بيكون F.Bacon الخيال إحدى ملكات العقل الأساسية الثلاث: الذاكرة والخيال والعقل، «فالتاريخ يرجع للذاكرة والشعر يرجع للخيال والفلسفة ترجع للعقل»، لكنه أكد أن هذه يجب أن توظف توظيفاً عملياً ذرائعياً يخدم الإنسان. واستخدم توماس مور«الخيال» في وصف المدينة الفاضلة (اليوتوبيا).




وقد شدد الاتباعيون الجدد في القرنين السابع عشر والثامن عشر، من أمثال راسين وكورنيّ ودرايدن، على كون الإبداع عملية آلية (ميكانيكية) تتبع نظاماً معيناً يسهم فيها الخيال ويضبطها العقل والحكمة.

وقد أكد الفيلسوف الإنكليزي هوبز T.Hobbes في كتابه «لوياثان»Leviathan ت (1651) أن الخيال والمخيلة شيء واحد يبدآن من الحواس ثم يتحولان إلى صور ذهنية تسكن المخيلة، تتوالى وتتلاشى تارة وتتدفق تارة أخرى لتخلق تركيبات جديدة، فيصبح الخيال والمخيلة واحداً مع الذاكرة، ومن هذه الصور يستحضر الكاتب موضوعاته الجديدة.


والخيال عند هوبز هو التجربة التي «تولد الذاكرة، والذاكرة تولد المحاكمة التي تعطي قوة وبنية الشعر، والخيال يعطي الشعر تميزه وزينته» لأنه يبيّن التشابهات بين الأشياء، في حين يستكشف العقل الفوارق.




ووصف جوزيف أديسون الخيال في كتابه «مباهج الخيال» The Pleasures of the Imagination ت(1712) بأنه الملكة التي تستحضر الصور المرئية كما تتلقاها الحواس وتعيد ترتيبها، وأرجعه إلى العملية التي تحدث وفقها محاكاة الواقع، إلا أنه لم يتفق مع هوبز بأن على الكاتب أن يستخدم خياله بحكمة ليجد تشابهات بين الأشياء، بل رأى أنه لابد للكاتب أن يضيف شيئاً من الإمتاع الأدبي بإيجاده تشابهات غير مألوفة.




تأثر الشعراء الإبداعيون (الرومنسيون) في أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، بفلسفة كَنت Kant، وفيشته Fichte وشِلينغ Schelling وهيغل Hegel. واتجه الإبداعيون في أوربا ولاحقاً في أمريكا إلى الخيال اللامحدود واللانهائي، وصار الخيال عندهم مساوياً للحكمة وقد يتفوق عليها ليصبح شكلاً من أشكال الوعي الإنساني، فاستخدم بليك ووردزورث مثلاً خيال الطفل، وأعطيا له أهمية تفوق عقل البالغ، لبساطته وعمقه ونقائه. وتأثر الإبداعيون أيضاً بشكسبير نموذجاً، واتبعوا منهج روسو في الطبيعة، ونبذوا أي تقيد بأحكام وقوالب أدبية جاهزة.




ويعد الشعر الإبداعي أهم حقل في دراسة دور الخيال في الأدب، ففي الخيال يكمن جوهر العمل الأدبي، إذ يخاطب الشعر ملكة الخيال عند الإنسان وليس عقله، ويتفاوت في القوة والخصب من شاعر إلى آخر. ويرى بليك أن الخيال هو الحقيقة والأبدية والديمومة، فعالم الخيال لا نهائي يرى فيه الشاعر العالم في حبة رمل، في حين يرى وردزورث أنه من خلال الرؤى والخيال يستطيع الشاعر اكتشاف حقيقة الوجود التي تتجلى في الإله. وقد يجمح الخيال عند بعض الشعراء لدرجة يصعب فهم شعرهم وماهية الرموز التي يستخدمونها.




وتعد نظريات كولردج Coleridge من أهم النظريات في الخيال لكونه شاعراً وناقداً، وقد جاءت نظريته التي تحدث عنها في كتابه «سيرة أدبية» Biographia Literaria ت(1817) تطويراً لفكرة الاتباعيين الجدد عن قدرة الشاعر على الربط والمقارنة ونقداً لها في الوقت ذاته. فقد رأى أن نظرية الاتباعيين في الخيال تشكل جزءاً من عملية منظمة تجعل العقل البشري تابعاً سلبياً لعمليات ميكانيكية تركيبية تخلو من الإبداع، ورأى أن يكون عقل الشاعر في نشاط دائم، وهو قادر على الخلق ليضيف للأدب بعداً خاصاً. ولهذا كان كولردج أول من فرق بين الخيال والمخيلة متأثراً بفلسفة شِلينغ وفيشته، فالخيال هو ملكة عضوية تخلق وتشكل وتصوغ، والمخيلة هي الشكل القديم للتخيل الذي يعيد استحضار صور من الذاكرة ويعيد تركيبها وتشكيلها بطريقة جديدة، وربما غير معقولة، ولكن ليست خلاقة. وهي بهذا جزء من الذاكرة تستقي مادتها مما تشاهده ومن محاولة ربطه بعضه ببعض. وربط الصور والأفكار هو أحد وظائف الشعر، ولكنه لا يكفي للإبداع، فالخيال المبدع لا يكتفي بإعادة الترتيب وإنما ينصهر ويذوب ويتوحد تماماً في عملية الإبداع والأحاسيس والعاطفة والتأمل ليظهر حقيقة من حقائق الوجود وليخلق واقعاً جديداً، فهو برأي كولردج القوى الخلاقة التي تربط بين الإحساس والفكر لتعطي للفن والأدب تفوقاً وتميزاً خاصين بهما. وبينما يحاول الخيال التوحد مع التجارب الحسية لإعادة خلق حقيقة الوجود كما يجب أن يكون، تبقى المخيلة مجرد نمط للذاكرة متحرر من قيود الزمان والمكان ليركب تشكيلات جديدة من أرشيف الذاكرة، ولذا تدخل المخيلة في أعمال الفانتازيا وليس في الخيال الأدبي.



وكما قالت الناقدة الفنية ليزلي ستيفن فإن المخيلة تعالج التشابهات السطحية، أما الخيال فإنه يتعامل مع عمق الحقيقة التي تحدد هذه التشابهات. ففي مسرحية شكسبير «الملك لير» نجد أن الألم العميق الذي يحس به الأب الملك يجعله ينشر هذا الإحساس العميق بالعقوق ونكران الجميل ليشمل عناصر الطبيعة كلها.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)