عرض مشاركة واحدة
قديم 02-05-2017, 12:20 AM
المشاركة 28
زياد وحيد
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
حنيـــــن...



وحيدةٌ تجلس على الكرسي الامامي خلف سائق الحافلة .. تحمل كتابا بيدها، تضع حقيبة صغيرة في المكان المحاذي لها تريد أنْ تظل بمفردها في سفرها، ملامحها الكئيبة المعراة من تلك الاصباغ أظهرت جمالا طبيعيا فتانا و عيونا تائهة النظر، تبدو في الثلاثينات من العمر، حجبتْ الهموم نور وجهها القمري المخضب بندى الشباب سُحبا و أدخنة.
تنتقل الحافلة بتأني عبر منعرجات ريفية تطل على واد سحيق مكسو بأشجار كثيفة، تحدق بدون توقف الى تلك الطبيعة التي بعثَ فيها شهر تشرين الثاني شيئا من الحزن و الكآبة ثم ما تَلبثُ ان تعود ببصرها الى كتابها لتلتهم أوراقه القديمة و كأنها اختزلت طريقها في عالمها المنشطر بين رواية تقرأها بنهم و عالم خارجي تطل عليه عبر النافذة يشبه تفاصيل نفسها المستغرقة في التفكير و الصمت.
كان ينظر اليها عبر المرآة المقابلة التي عكست صورتها.. لقد دفعه فضوله لقراءة حركاتها و اسرارها المتخفية في عينيها الشاردتين بين كتابها التي تحمله بين يديها و كتاب الطبيعة الذي يتسارع هربا نحو الوراء..شيئا ما اختلج في نفسه، اراد ان يقترب من مقعدها، في تلك اللحظة أحست بعين تراقبها، أدارت بنظرها خلسة الى المرآة فرأت رجلا شابا في مثل سنها يلاحقها بتمعن، وقع بصرها على بصره، تراجع الى الخلف، تصبب العرق البارد على جبينه حياء، طأطأ رأسه ثم أشاح بوجهه نحو ذلك الفراغ المترامي ليكتفي بتلك المناظر المتلاحقة امام الحافلة التي جملتها النباتات المختلفة و الصخور المتهاوية و المنحدرات الخطرة و كأن شيئا لم يكن، انحرفت بتفكيرها عن نفسها إلى وجه ذلك الشاب و كأنها اكتشفت سرا من اسرار القصة التي تقرأها ..
تحدق في المرآة ..ترى خلفها رجلا طويل القامة بهي الطلعة، اسود الشعر و العينان ، اسمر الملامح تتفرس في ملامحه تارة و تنظر الى سطور روايتها تارة أخرى،كأنها عثرت على بطل قصتها منتصبا امامها كالقدر المباغت ظلت الطريق إليه و ها هي تلتقي به دون وعد سابق ، تدفعها الرغبة للاستدارة نحوه للتعرف عليه أكثر .. تتوقف عن النظر للمرآة لبرهة من الزمن، يرحل بها تفكيرها إلى براثن الحيرة، تتساءل مستغربة.. لمَ هذا الانقلاب الذي حدث في كياني فبعثر كبريائي و هوتْ له آخر قلاعي ..؟
شاب رأيته للتو شتتَ تفكيري و بدد تركيزي ...
إنها مجرد صدفة تحدثُ لكل واحد منا كل يوم .. تُتمتِم بينها و بين نفسها ..
يا إلهي ..ماذا جري لي ..؟؟
يَجـُرها الإحساس الجارف إليه عنوة ،يشتتها الذهول نحوه دون هوادة, تعاود التحديق الى وجهه رغبة منها لجلب انتباهه، ترتعش أطرافها، يحمر وجها ..تفلتُ منها شهقة أطاحت بها ...
لقد وقعتْ في الحب
أدرك الشابُ ما يجول في خاطرها ، هالهُ أمرها ، استغرب كل ذلك الانفعال الذي احدثه في وقارها، شَدتـْه تلك النظرات الشاعرية العامرة بالانعطاف و الحنين تسأله الاقتراب منها ، و في الوقت الذي اهم بالانتقال الى جوارها .. توقفتِ الحافلة في طريق طويل بلا إشارات و طلب السائق منها ..
هذا مكان نزولك أيتها الأستاذة ..
تشكره على مضض، تستجمع شتاتها ، تقوم بصعوبة من مكانها، تستدير الى الشاب تودعه بنظرة مملوءة بالحزن و الوجع و كأن روحها انسلت منها و تركتها هناك، خرجتْ من الحافلة تجر جسدها المنهك جراً .. وقف الرجل مندهشا لا يحرك ساكنا، راح يتحسّس خيالها، يتتبع ظلّها، يصرخ في داخله بقوة ...
توقفي ..توقفي لا ترحلي .. اريد ان اعرف من انتِ ..؟
انطلقتْ الحافلة بسرعة مبتعدة عن ذلك المكان .. ادرك السائق ان هذا الشاب الغريب الذي يطل على النافذة يرمق ذلك الجسم المتلاشي وراء الأشجار انما يريد أن يعرف من تكون تلك المرأة
همس في أذنه بعفوية قائلا ..
إنها أستاذة ثانوي يا سيدي..تُدَرِسُ في هذه المنطقة النائية منذ عقد من الزمن اختفى زوجها منذ ثلاث سنوات و لم يعثر له على خبر، يقال انه سافر للخارج .. كانت تعيش معه هنا في مسكنها الوظيفي لكنها أصبحت وحيدة بعد رحيله فعادت إلى بيت والدها المتوفي مما اضطرها للتنقل بين المدينة المجاورة و الثانوية كل يوم ذهابا و إيابا.
تمتم الشاب و الحسرة تقطع قلبه ..
يا لهذه المسكينة..!!
لقد أخطأتُ الظن لم تكن تراني بل زوجها مَنْ كانت ترى..!