عرض مشاركة واحدة
قديم 06-14-2016, 09:06 PM
المشاركة 33
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
موسم عيساوة في تالوين ليس كمثله في بلدتي ، الإيقاع يختلف والطقوس أيضا ، لكن نفس الأجواء الروحانية ، لم أحدثكم أن الحاجّ هو مقدّم عيساوة في هذه البلدة ، ولم أخبركم أيضا أن علاقته بجدّي تعود إلى حقب غابرة عندما كانا شابّين ، حيث كانت هذه القرية والملت تتشاركان في موسم عيساوة ، نحتفل معهم و يحتفلون معنا ، الآن تغيرت أشياء كثيرة ، لم يعد موسم عيساوة كما كان من قبل ، بل مجرّد طقوس لا أكثر ، بدأت القيمة تتلاشى في الأشياء كلّها ، حتّى جدّى ماعاد عيساويّا ، دقّت الطّبول في ساحة البلدة و بدأ الحاجّ ينظم الأذكار والأشعار بلحن رقيق ، تخيلوا أن أكون في رحاب بيت يعتبر العيساويّ ذا قيمة ، وسط كبار عيساوة أجلس ، رأسي بدأ يتحرك ، مع كل ضربة طبل و طقطقة دف ، أنا الآن في الصف أهز رأسي و أهوي به ، أتنغّم بزغاريد النّساء ، أشدّ بزميليّ في الحضرة واحد في اليمين والآخر في اليسار ، جسدي اشتعل نارا ، روحي لا تريد التّوقف ، أحسست ضربة خفيفة على مستوى أنفي ، مرفق أحدهم كان بالقرب ، الدماء تبلل ملابسي ، رأسي في صعود وهبوط ، توقفت دمائي عن الهطول ، وتوقفت العصي عن صفع الطبول ، لا بد بعد كل جولة من استراحة خفيفة ، فيها تنظم الأشعار الروحانية ، فيها تهمس الدفوف بخفة ، فيها يتحرك العيساوي ببطء ، فيعي اللحن والنظم معا ، لكن حذار عند بداية الجولة، ساعتها ينتفض العيساوي انتفاضة الطائر المذبوح ، انتفاضة بنت الحاجّة و قد جعّدت الأرواح ملمسها ، انتفاضة جمل خرج عن طوره ، انتفاضة مارد حقيقي يقفز ويقفز و لا يستكين ، لا أعرف كيف انتهى بي الأمر مطروحا على الحصير ، وقد انتهت الحضرة ، عندما استفقت كانت النساء يتبركن بأعلام عيساوة الخضراء والصفراء والزرقاء ، عندما قمت لأمشي تخبط الدوخة بقدمي ، لكأني أسير على مركب يبحر في بحر هائج ، لكأني راكب على حافلات انزكان ، لكأني على أرجوحة الدشيرة .

نهاية الأسبوع حلّت ، فخر عظيم يغمرني و قد تمكّنت من ممارسة عيساويتي ، أمر لا أستطيعه في بلدتي ، لن يسمح بهذا أبي ، لن يسمح بهذا نهجه و مساره الذي ارتضاه لأسرته، بعد أن سحب القيادة من جدّي ، و ظفر بتوجيه بوصلة الأسرة، مخلّصا إياها من رواسب فترة جدّي و من شطحات عمّيّ عبد الله و عبد السلام ، كلاهما كانا راقصين بارعين في فن أحواش ، لكن الآن كل شيء في منزلنا تحت وصاية أبي . هذا اليوم يستظيف أبي معلّما من مدرسة الملت ، نسيت أن أقول لكم أن الملت فتحت بها مدرسة و أختي رشيدة الآن تقصدها ، حفل افتتاحها حضره القائد نفسه الذي اعتقلني ، كنت من المرحبين به ، أنشد النشيد الوطني . من المدرسة إلى المنزل كان المعلّم يقيس وزني ، أظنه أخطأ القياس ، لا أخفيكم أنّني لم أكن حتّى أعره اهتماما ، هو ما زال يقيسني و أنا عبرته طولا وعرضا ، وجدته لا يستحق ، كنت أستشف من كلمه نبرة عتيقة جدّا ، عرفت أنه ما نال التعليم العصري، و لسانه لا يكاد يفقه غير لغة واحدة .
إلى الصّالون إذن ، هناك وجدنا أبي في انتظارنا ، بدأت كؤوس الشاي والحلويات ، خدمتهما و رجعت إلى مكاني لأضع رجلا على رجل ، نبّهني المعلم أن جلستي تلك لم تكن لائقة ، و لا تدلّ على تربية جيّدة ، كنت سآكل من أذنيه لولا أننا من استضافه ، لست أدري هل كان أبي يريد امتحاني أو يريد أن يتفاخر بولده الذي يقرأ في الإعدادي لمّا طلب منّي أن أحضر كتبي لأراجعها مع المعلّم ، غبت قليلا وعدت إليهما ، حملت دفتري الذي يحتوي قواعد اللغة العربية بعد أن استبعدت دفتري الرياضيات واللغة الفرنسية إشفاقا على المعلم أن يصيبه الحرج من عدم معرفة فكّ الرموز . بدأ يسألني برفق عن بعض العناوين و أنا بجانبه ، بعفوية رفعت رجلا على رجل ، هذه المرة نهرني ممعنا في إهانتي ، أخذ منّي الدفتر و فتح من الصفحة الأولى ، هيا استظهر ، في البداية استغربت ، ولمّا أضاف أنني قليل أدب و قليل فطنة ، كان لساني قد انطلق سبّا و شتما و رجلاي تبتعدان عن مجلس أبي و لكمتي فجرتها على باب الغرفة و لساني لا يريد أن يسكت عن التعريض به .لاشكّ أحرجت أبي غاية الحرج ، وفاجأت المعلّم الذي ظن أنه لامس علياء النجوم ، و لاشكّ فشلت في تقديم صورة مرضية لأبي ، ففي هذا الموسم أحسست أنّي قادر على استرجاع مكانتي وقادر على إثبات علو كعبي بين الأقران .