عرض مشاركة واحدة
قديم 11-27-2011, 09:53 PM
المشاركة 22
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
نبت في رأسي أكثر من سؤال, وتحرك دود اللهفة الطامح إلى قرض كل شيء, وثارت الفوضى بين ضلوعي. الفوضى التي خلفتها ورائي تتفجر الآن براكين في أحشائي. ولكني بلعت لساني وأسئلتي وصمتّ.
وسأعرف فيما بعد – بعد شهور قليلة- قصته. رواها لي أكثر من واحد, في أكثر من مرة, مع اختلافات قليلة في الروايات.
ومن ضمن الراوين, العجوز القادري. وهو شيخ جاوز العقد السابع يحسبه الرائي منتهٍ, لا يقدر على شيء, ولكن حين تخالطه, تقترب منه, تكتشف فيه روحا مرحة تتشبّث بالحياة وبكل ماهو جميل فيها, برغم الخدود التي حفرتها أيام الشقاء التي عاناها. وبرغم فقده لرجله اليمنى في حرب " الأندوشين". وهو سليط اللسان بذيئه, لا يستلذّ الكلام إلا إذا تضمّن عبارات نابية. وحين يلام ويصدم بسنّه, يردّ ضاحكا.
- ذلك ملح الكلام, توابله. وهل تستلذّ طعاما دون ملح أو توابل؟
علّمته الأيام ألاّ يعير للبؤس والأحزان بالا. لهذا تجده يقاوم, يشدّ بابتسامته ومرحه ستارة الزمن كي لا تنزل. كالنبتة التي تشقّ الصخر وترتفع قليلا, قليلا لتعانق شمس الصباح.
قال لي مرة وهو يتحسّس سيجارة بين أصابعه:
- لو لم تكن هذه لمتّ من سنين. أتعرف أين اكتشفت سحرها وأدخلتها عالمي؟ في حرب " الأندوشين". هناك بين تلك الأدغال صارعت الموت ألف مرة في اليوم. عشت مع رفاقي أقسى اللحظات وأمرّها. وضعونا في الواجهة أمام نار المدافع وقنابل الطائرات. تصوّر شبابا يدافعون عن وطن غير وطنهم, ينامون على فقد العشرات منهم ويفيقون على فقد المزيد. كنا لا ننام إلا ساعة أو تزيد قليلا, نعاني الجوع والبرد والحرمان والبعد عن الوطن. وكنت وقتها شابا يافعا, أحضن أحلاما كثيرة وحبا أكبر. نعم كنت أحبّ بعنف, سحرتني ابنة خالتي. ماتت الآن رحمها الله وسامحها. كم كنت أعشقك يا سالمة.. أنت لا تعرف سالمة؟ كانت كالبدر, غزال شارد, عشت معها أياما حلوة واتفقت معها على الزواج لكن الحرب أزفت لتفرقنا.. أنت لا تقدّر طبعا ما يمكن أن يعانيه عاشقين تفرّق بينهما الحرب؟ بكت سالمة, حضنتني, ترجتني أن أهرب...أثّر فيّ حبها, وجهها الصغير وهو يتلوّن ويغرق في دموعها...وعند رحيلي مزّقت جانبا من ثوبها لفّت فيه خصلة من شعرها الليلي ودسّتها في يدي.
هناك لم أنسها. كنت حين تهدأ رحى الحرب قليلا أنزوي في مكان قصيّ تحت شجرة أو فوق صخرة وأسافر بخيالي إليها. أقطع بحارا وجبالا وأودية, فيصطدم خيالي بنار الحرب ونار البعد. وأذكر أني كنت في أيامي الأولى ألاحظ أن معظم رفاقي يتلهفون على السجائر في جنون. يشعلونها, يعبّون منها الدخان فتميل رؤوسهم وتذبل جفونهم وتنفرج أساريرهم. وكنت أرفض كل دعوة لأخذ أيّ نفس من أيّ كان. ولكن بمرور الأيام انجرفت إلى ما يتعاطونه. فكنت أحلّق في عوالم فسيحة خالية إلا مني وسالمة.. إنه " الحشيش" يا بنيّ, ولولاه لجننت في ذلك المكان الموحش.
سكت القادري ودخل في نوبة قويّة من السعال أنسته ماكان يتحدث فيه, أو ربما تناساه لما تجلبه تلك الذكرى من حزن وماض أليم. ولم ألحّ عليه في المواصلة لأني كنت عرفت قصته كاملة. إذ أفقدته الحرب حبيبته فلم تنتظره وزوّجها أهلها, وبترت رجله بعد أن داس على لغم, وانتابه مرض غريب بعد عودته بقليل لم يستطع بموجبه حتى الحراك, وغزت جسمه حبيبات سوداء مازالت آثارها إلى اليوم على وجهه ويديه.
مرّت النوبة بسلام, وأشرق وجهه من جديد تغلّفه آثار التعب في عينيه. دسّ السيجارة التي كان يتحسّسها في فمه وأشعلها, فسعل سعالا خفيفا كتمه في صدره وقال في تعب واضح.
- أهــه.. ماذا كنا نقول؟
أجبته في تودّد:
- جئتك لتخبرني عن النوري, وأظنني سأرحل خالي الوفاض.
تململ في مكانه. نظر إلى البعيد كأنه لم يسمعني. أمسك عودا بيده اليسرى وخطّ به على الأرض أشكالا هندسية مختلفة ومتداخلة. ثم تكلّم...